الكياناتُ الوظيفية المطبِّعة ، أدواتُ الصهيونية.. إلى أين؟ بقلم/ إبراهيم محمد الهمداني

إن الحديث عن ظاهرة التطبيع بين بعض الأنظمة العربية والكيان الصهيوني –في مركزيتها الزمانية والمكانية المغلقة– لا يمكن أن يقدم رؤية واضحة، لحقيقة تلك الظاهرة وأبعادها المختلفة، وستغيب الكثير من الحقائق، وتخفى الكثير من التداعيات والنتائج، المترتبة عليها، والمتمخضة عنها.

ذلك؛ لأَنَّ ظاهرة التطبيع، لم تكن وليدة لحظتها، ولا هي ضرورة فرضها الواقع الراهن، وإنما هي استراتيجية استعمارية، متأصلة ومتجذرة، بعمق الوجود الاستعماري، والفكر الإمبريالي على مر التاريخ، وهذا ما تؤكّـده قراءة ظاهرة التطبيع في مركزيتها المفتوحة، التي تسمح بالتحَرّك بحرية زمانياً ومكانياً، لتبرز استراتيجية (الاختراق) الاستعماري للشعوب، كحجر أَسَاس بُنيت عليه استراتيجية التطبيع اللاحقة.

ولكن.. ما الذي عجز الاختراق –السياسي، الاقتصادي، الثقافي– عن تحقيقه، ليحقّقه التطبيع؟ وماهي الرهانات الاستعمارية في الانتقال من (الاختراق) الوضع الآمن، إلى (التطبيع) الوضع الأكثر خطورة وتهديداً للوجود الاستعماري، سواء في تموضعه الذاتي الوجودي، أَو في تموضعه التمثيلي، من خلال مرتزِقته وعملائه من الحكام والأنظمة؟، وَإذَا لم يكن هناك مخاطر مباشرة تمس المستعمر، فمن المؤكّـد أن هناك مخاطر ستفقده عملاءه وأدواته، فإلى أي مدى قد تصل الإمبريالية، في التضحية بعملائها على مذبح مصالحها، وماذا لو أخطأت حساباتها، واضطرت إلى التضحية بمقومات سيطرتها؟!

استطاعت استراتيجية الاختراق (السياسي، الاقتصادي، الثقافي)، سلب الشعوب العربية، أهم مقومات وجودها وقوتها، وفاعلية حضورها واستمرارها، لتدخل بذلك في حالة عجز سياسي، وتبعية اقتصادية وارتهان ثقافي، وغربة وجودية، بصمت وبصورة تدريجية تصاعدية، وُصُـولاً إلى الموت السريري التام، والاستلاب المطلق للمستعمر، في حالة من التواطؤ الضمني، والاستسلام والتطبيع الغير معلن؛ بسَببِ ظاهرة الرفض الشكلي، التي اعتادت الشعوب على إشهارها في وجه عدوها، كظاهرة صوتية لا غير.

لعبت الأنظمة الحاكمة دوراً رئيساً ومحوريًّا في إنجاح عملية الاختراق، بمستوياتها الثلاثة، وضمنت مصالح المستعمر مقابل ضمان دعمه لها سياسيًّا وحمايته أمنيًّا.

إذن فالتطبيع لا يعدو كونه انتقال الأنظمة الحاكمة، من المستوى الخياني السري، إلى ممارسة الخيانة على المستوى الرسمي علناً، ضمن محدّدات ومسارات الدور الذي يمنحها المستعمر، بوصفها أنظمة وظيفية –فحسب– من قبل ومن بعد.

وفي ظل سياق حياتي عام كهذا، هل يمكن التسليم بمقولة إن التطبيع مسألة حرية سيادية، في إطار مفهوم وطبيعة العلاقات الثنائية، وتحقيق أعلى مستويات الأمن والاستقرار والسلام، والرفاه الاقتصادي؟

تمخض هذا الاختراق، الذي نفذته الأنظمة الحاكمة، لصالح القوى الاستعمارية، عن حالة من الاستلاب السياسي المطلق، والتفكك الاجتماعي التام، والتغريب الثقافي الشامل، والاغتراب عن الواقع، والانفصال والقطيعة عن الجذور/ الماضي، وفقدان الهُــوِيَّة والشعور بالانتماء، والعجز عن تحديد الوجهة/ المستقبل، لتسود بذلك حالة من الضياع والتيه الجمعي، حتى أصبحت الشعوب عبارة عن كيانات/ كينتونات ضخمة الحجم، كثيرة العدد، لكنها مفرغة تماماً، من كُـلّ مقومات القوة والحضور، مفتقرة إلى أدنى مواضعات الفاعلية والتفاعل، والقدرة على التعامل الإيجابي مع محيطها، مسلوبة الإرادَة والقرار، مرتهنة لتبعية اقتصادية كاملة، أسيرة هيمنة معطيات ثقافية إمبريالية (منمذجة)، وضحية مخرجاتها السلوكية والفكرية، القائمة على التقليد الأعمى والاجترار، والاستهلاك اللاواعي لفتات الموائد الفكرية والمعرفية، القادمة من الغرب، طمعاً في الوصول إلى تحقيق النموذج الحضاري الخاص، أَو اللحاق بركب التطور الغربي، على أقل تقدير.

لم يتبق من الشعوب العربية والإسلامية، غير تلك الظاهرة الصوتية، المشبعة باجترار ضجيج الشعارات، والتهديد والوعيد المعتاد، في افتقارها المطلق لأدنى القيم الوجودية الفاعلة، ولم يعد لها من دور، غير ذلك الهامش الانفعالي، الممنوح لها –هبة مشتركة– من الأنظمة الحاكمة والمستعمر، لتعبر من خلاله عن شعورها الآني، وحماسها المؤقت، واندفاعها اللحظي، إزاء معاناتها ومشاكلها الراهنة، وقضاياها المـصيرية المستقبلية، في صورة مظاهرات شعبيّة، تصرخ بكل ما أوتيت من قوة، لتتخلص من وطأة الكبت والقمع، وتطلق التهديد والوعيد، لتتغلب –ظاهرياً– على عجزها الدائم، وتتغنى بالشعارات، لتعويض انسلاخها القيمي، واستعادة هُــوِيَّتها المفقودة، وشرفها المستلب، لكن تلك النشوة سرعان ما تزول، لتفيق الشعوب على واقع أكثر قسوة ووحشية.

لم تكن تلك المسيرات والمظاهرات الشعبيّة، غير ذلك الدور البائس، الذي كُلفت الشعوب بأدائه، لتتسلى القوى الاستعمارية والأنظمة الحاكمة، برؤية تلك القطعان البشرية الهائلة، تؤدى طقوس الغباء، ومراسيم الاستلاب والعجز في تشكيلات جماعية، تدعو إلى الرثاء والبكاء، وتكشف عن عمق الضياع، وقبح المؤامرة، ووحشية المتآمرين.

إذن لم يكن التطبيع، إلّا نتيجة طبيعية وحتمية، لذلك الوضع المتردي، وليس إلّا بمثابة انتقال الأنظمة الحاكمة، من دور الخيانة العلنية، بحجّـة الاستجابة لمقتضيات الضرورة والواقع، أَو استخدام صلاحيات الحاكم وحقوقه الدستورية.

لكن التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتلّ، لم ولن يكون مسألة حرية ذاتية، أَو قرار سيادي سياسي، بإمْكَان الحاكم إصداره، والمضي في تنفيذه، بوصفه أمراً اعتيادياً، وشأناً سياسيًّا خاصاً، نظراً لمخالفته صريح الأمر الإلهي، المنصوص في القرآن الكريم،

بقوله تعالى:- “يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء…”، والإصرار على مخالفة ما أمر الله تعالى به، إلى ما نهى عنه، يُخرج الحكام العرب المسلمين، من دائرة “الذين آمنوا”، إلى دائرة اليهود والنصارى، بحكم الانتماء بالتولي، “ومن يتولهم منكم فَـإنَّه منهم”، لتسقط بذلك شرعية الحاكم، الموجبة لطاعته، وعندئذٍ يتوجب على المسلمين خلعه ومحاكمته، بتهمة الخيانة العظمى، وإنزال أقسى العقوبات به.

كما أن ذلك مخالف لمبادئ وقيم القومية العربية، التي ترفض القبول أَو الاعتراف بوجود ذلك الكيان الصهيوني الغاصب المحتلّ، الذي لا ينتمي إلى الأرض ولا إلى القومية، ولا مسوغ لوجوده في قلب الوطن العربي، غير تموضعه الاستعماري الغاصب، المرفوض بالإجماع مطلقاً، المستوجب لمواجهته بكل الوسائل المتاحة والمشروعة، حتى إخراجه ودحره عن الأرض العربية، وتحريرها من استبداده واغتصابه وهيمنته، وهذا واجب ديني وقومي ووطني وأخلاقي، على جميع الشعوب العربية، وَإذَا كان التنصل عن هذا الواجب القومي خيانة عظمى، عقوبتها الموت تعزيراً وتنكيلاً، فَـإنَّ المسارعة إلى التطبيع، تعد خيانة عظمى مضاعفة، تستوجب عقوبة أشد وأنكى من الموت، إن كان هناك ما هو أشد منها، ليكون ذلك الخائن عبرة لغيره، وزاجراً لمن تسول له نفسه اقتراف مثل تلك الجريمة النكراء، ولكن ماذا إذَا كان الخائن نظاماً حاكماً، ومنظومة استبداد كاملة.

يمكن القول إن ما أقدمت عليه الكيانات الوظيفية الخليجية (السعوديّة وأخواتها)، من اجتراح التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتلّ، جريمة كبيرة، وخيانة عظمى، كاملة الأركان والشواهد، سواء من الناحية الدينية، أَو من الناحية القومية، وهي جريمة مركبة، ولم يعد أمام تلك الأنظمة الوظيفية في الخليج، إلّا الاستمرار في نهجها الخياني، وإعلان انتمائها الصهيوني اليهودي علناً، وهنا يتوجب على شعوب الخليج أولاً، والشعوب العربية والإسلامية ثانياً، إعلان الثورة العارمة، والجهاد المسلح، ضد تلك الأنظمة الوظيفية المتصهينة لإسقاطها، وإسقاط حليفها، كواجب ديني مقدس، إذ لا يجوز أن يحكم يهودي مسلماً، بأي حال من الأحوال.

وفي حال أعلنت تلك الأنظمة الوظيفية الخليجية، توبتها وندمها ورجوعها، ورفضها مشروع التطبيع، يتوجب حينئذ عزلها، وإبعادها عن مركز الحكم والقرار، وإثبات صدق توبتها، بتسخير كُـلّ أموالها وأملاكها وأنفسها، تحت قيادة محور المقاومة، وتقدم صفوف جيش تحرير فلسطين، وما سوى ذلك ستظل تلك الكيانات الوظيفية، الخائنة للدين والوطن، محط غضب الشعوب ونقمتهم، ولو بعد حين، وحينها لن ينفعهم الكيان الصهيوني – الذي ضحوا بكيانهم الوجودي لأجله – ولن يوفر لهم أدنى مستويات الحماية، كونه عاجزاً عن حماية نفسه.

إن مسارعة الكيان الإماراتي والكيان البحريني، ومن قبلهما الكيان السعوديّ – على استحياء – إلى أحضان الكيان الصهيوني، والاندماج والتماهي مع مشاريعه الاستعمارية، يسقط –كما أسلفنا– مشروعية تلك الأنظمة الوظيفية الحاكمة، ويعكس تطوراً خطيراً في طبيعة الخارطة السياسية في المنطقة العربية، بما من شأنه تحقيق هيمنة الكيان الصهيوني، على قلب الجغرافيا الإسلامية، وأقدس مقدساتها، الأمر الذي يتجاوز العلاقات الثنائية بين تلك الكيانات، ويتعدى الجانب السياسي والجانب الاقتصادي، ليصل إلى (صهينة) المقدسات والشعائر الدينية، واختراق الأبعاد المعرفية والحضارية – العربية والإسلامية – الأكثر عمقاً وشمولاً، وطبعها بطابع الصهيونية النفعية الإجرامية، ليفتح الكيان الوظيفي الإماراتي المتصهين، لنظيره الكيان الوظيفي الصهيوني، فصولاً لانهائية، من المكاسب الجيوسياسية والاقتصادية، وفضاء جغرافيا مفتوحا على كافة الاتّجاهات، لممارسة الهيمنة والضغوط السياسية، وتقطيع أوصال محور المقاومة، وفي المقابل لم يحصل الكيان الوظيفي الإماراتي، إلّا على السقوط المخزي والمهين، في عداوة الإسلام والمسلمين، وفتات أوهام الاحتماء تحت مظلة الكيان الصهيوني، من غضب وثأر جميع المسلمين عامة، وضربات اليمنيين خَاصَّة، (مثل الذليل يعوذ تحت القرمل).

بإيعاز من المستعمر الأمريكي –ومن أجل الحيلولة دون سقوط مدينة مأرب، بأيدي الجيش واللجان الشعبيّة اليمنية– عادت دويلة الإمارات إلى ممارسة التصعيد، عبر عملائها في الساحل الغربي، ومأرب وشبوة وغيرها، بعد أن كانت قد أعلنت تجميد مشاركتها في تحالف العدوان، عام 2019م، وهو ما جنبها ويلات الباليستيات والمسيرات اليمنية، وبعودتها إلى التصعيد الميداني، وارتكاب عدد من المجازر بحق المدنيين، في السجون والأسواق والطرقات وغيرها، بالإضافة إلى تماهيها في عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي جعلها عرضه لويلات إعصار اليمن ثلاث مرات، فما الذي ربحته الإمارات من التطبيع، وما علاقة التطورات الأخيرة، بين الكيان الصهيوني وكيانات التطبيع (الإمارات والبحرين) بسير المفاوضات النووية الإيرانية الأمريكية، وبطبيعة التصعيد بين روسيا وأمريكا حول أوكرانيا وكازاخستان؟ وما دلالات وتداعيات عمليات إعصار اليمن ٣، ٢، ١؟

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com