الشهداء هم رسالةُ التاريخ للأجيال المتعاقبة

 

فارس محمد السخي

لقد تحدث وكتب الكثيرون عن مواقف شهدائنا العظماء وعن بطولاتهم في ساحات الوغى، وما زالوا يتحدثون ويكتبون، فذهب البعض مذهباً، وذهب الآخرون مذهباً آخر، لكني فيما ذهبت إليه بعد الإمعان في التأمل والتفكر، انتهيت إلى أننا لن نفهم مواقف الشهداء العظيمة في معناها الأدق وهدفها الأصدق إلا متى فهمنا معنى “الشهادة” نفسها، ذلك أن عظيم تضحية الشهيد وتركيزنا على عظمته كفرد، جعلنا نضيع ما هو أعظم منه، وهو ما ضحى بنفسه؛ مِن أجلِه -تلك القضية التي ضحى في سبيل تحقيقها- فسقطنا في المأزق العاطفي حينما تكلمنا بسخاء عن الشهيد، ونسينا بسخاء مماثل القضية التي ضحى بنفسه مِن أجلِها، ومن هنا أبدأ حديثي هذا.

على مدى التاريخ البشري كانت الفئة المسيطرة في أي مجتمع هي طبقة الأمراء وذوي الثراء والكهنة الأدعياء الذين كانوا يتبادلون فيما بينهم الدور السياسي والاقتصادي والعقائدي، وسواء اتفقوا أم اختلفوا فَـإنَّ ذلك إنما كان على حساب الرعية من الطبقة المضطهدة والمحرومة، التي من رحمها ولد الأنبياء والرسل {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ}، فالمقصود بالأميين هنا هم أبناء الطبقة المحرومة من الرعية، كما أن الرسول هو من هذه الطبقة أَيْـضاً، فما من نبي إلا وكان راعياً للأغنام أَو محترفاً لمهنة بسيطة، ولطالما كان الأنبياء يتحدثون بلغة الطبقة التي ينتمون إليها، تلك اللغة التي تتحدث عن آلام وآمال العامة من الناس، ولم يكونوا يتحدثون بلغة خَاصَّة بحيث لا يفهم الناس لغتهم، ولا هم يفهمون لغة الناس، هؤلاء هم الأنبياء الإبراهيميون.

وبينما كان يعتمد الطغاة على المال والقوة لإشاعة أباطيلهم، كان الإبراهيميون يعتمدون على هذه الجماهير في نضالهم ومقاومتهم وثوراتهم وجهادهم ضد الطغاة والمستكبرين.

إن المستضعفين هم أنصار الأنبياء، وعلى أكتافهم حملت كُـلّ الرسالات السماوية، لقد كان محمد آخر رسول لهذا الدين الذي بعث أنبياءه ليعلموا الناس الكتاب والحكمة والعدل الذي أكّـد القرآن على رسالتهم الواحدة التي امتدت من نبي إلى نبي، ومن رسول إلى رسول، وكان محمد آخر أُولئك الأنبياء الذين جاهدوا ليحرّروا الإنسان من العبودية بالدعوة إلى عبادة إله واحد، ليوحد الناس على تباين أجناسهم ومللهم، واختلاف ألوانهم ولغاتهم، وتعدد طبقاتهم وتنافر رؤاهم، ممزقاً كُـلّ صور الشرك الذي كان أَسَاساً للتفرقة والعبودية.

وبعد وفاة الرسول أصبحت ”الخلافة”، التي تمثل مركز الإسلام في وجوده، أرضاً ممغنطة جذبت إليها كُـلّ العناصر المضادة لثورة الإسلام، وأصبح ”الخليفة” أدَاة في أيدي أُولئك الذين قضى الإسلام بثورته على مصالحهم وقوض سلطانهم وأباد نفوذهم، وقد استطاع بني أمية بالفعل من استعادة نفوذهم البائد الذي قوضته ثورة الإسلام، فأصبح ذلك أَسَاساً للفواجع والفتن التي تلت على امتداد التاريخ، فعملوا على إبادة الأبناء الحقيقيين للثورة الإسلامية المحمدية وتحريف جوهر هذا الدين.

وفي هذه الفتنة كان الإمام علي بن أبي طالب أول الضحايا، والجدير بالذكر هنا أن معركة الرسول كانت بين معسكري الشرك والتوحيد، ولكنها مع علي أمست معركة بين أبناء الثورة الأنقياء وبين العناصر المضادة للثورة التي اتخذت شكلاً جديدًا في ظل الإسلام، وكانت حرب محمد وأبي سفيان تختلف عن حرب علي ومعاوية، كانت الأولى حرباً بين عدو وعدو، أما الثانية فكانت حرباً بين الصديق وشبه الصديق، لذا كانت خطورتها في أنها حرب داخلية، ولطالما انتصرت الثورات على أعدائها في الخارج، لكنها طالما مُنيت بالهزيمة على يد أعدائها المخفين في الداخل، فخاضها علي حرباً طويلة ومريرة حتى اغتيل -عليه السلام- في المحراب وهو يؤدي صلاة الفجر، ففاز بالشهادة التي لطالما تاقت روحه لنيلها.

فجاء الحسن بعد أبيه فوجد أن الجيش الذي تركه أبوه قد نفذ النفاق إلى عميق قلوب أفراده، فسقط قادته بإغراء ووعود وأموال السلطة الأموية في الشام، ومقابل هذا الانهيار الأخلاقي، كانت أهم البقع والمواقع قد سقطت بيد العدوّ، فخُذل الحسن من الجميع حتى من أقرب الناس إليه، وعاش ضعيفاً غريباً في مدينة جده وأبيه، بعد أن فُرض عليه الصلح فرضاً، والصلح المفروض هزيمة.

جاء الحسين وقد ورث تلك الثورة التي فجرها جده، وواصلها أبوه وأخوه، ولكن لم يكن لديه جيشاً ولا سلاحاً ولا ذهبا. وبالتالي لم يكن لديه أية قوة عسكرية أَو تنظيم، كانت المرحلة حساسة وتتطلب رجلا تاريخيا يؤدي الدور القيادي، ويكون حارساً ومسؤولاً عن هذه الثورة الكبرى التي أطلقها محمد بن عبد الله والتي قد قُوضت دعائمها تحت ضربات بني أمية وأعوانهم، فترك الحسين مدينته وخرج من بيته نافضاً يديه من الحياة مختاراً الموت، حَيثُ كان لا يملك في مواجهة عدوه سوى هذا السلاح العظيم “الموت”، وبهذا السلاح واجه العدوّ وفضحه وأسقط أقنعته، وإن لم يكن في مقدوره قهر العدوّ وهزيمته في ساحة القتال، ففي مقدوره، بالتضحية، أن يفضح هذا العدوّ.

إنه كإنسان أعزل، وحيد، وفي نفس الوقت مدرك لمسؤوليته.

إن حريته تضعه في موقع المسؤولية لمقاومة كُـلّ أنواع الاضطهاد والإذلال والخنوع، ولما لم يكن لديه من سلاح سوى وجوده، فقد حمله على راحتيه وبرز به إلى مقتله.

لقد كان الإيمان الذي يتعرض للانهيار ومصير الناس الذين وقعوا أسرى ظلم واضطهاد كما الجاهلية، وأُولئك الذين يطمحون إلى الحرية والعدل، هؤلاء كلهم كانوا ينظرون ماذا سيصنعه البطل!! أما هذا البطل الذي كان وحيداً أعزلاً بلا سلاح، فقد ظهر ببطولة نادرة حين جاء بكيانه ووجوده وحياته، وجاء بأهل بيته وأعز الناس على قلبه، ليشهد ويشهدهم أنه أَدَّى ما عليه في عصر كان الحق فيه كما الحسين، بلا سلاح ولا دفاع: (اشهدوا فَـإنَّي لا أقدر على أكثر مما فعلت). وعلى هذا تلقى دم طفله الذبيح بيده فرفعه إلى السماء قائلا: (انظر واشهد وتقبل هذا القربان).

وفي عصر كهذا فَـإنَّ موت رجل يكون ضماناً لحياة أُمَّـة وأَسَاساً لبقاء عقيدة، وتكون “شهادته” إثباتاً لجريمة كبرى، وهتكاً لأقنعة الخداع والزيف، ولأقنعة الظلم والقسوة الحاكمة، وإدانة لسحق القيم ومحوها من الأذهان، بل إنه احتجاج أحمر على التحكم الأسود، وصرخة غضب في صمت قطع الحناجر.

إن “الشهادة” هي الأمر الذي يتغلغل في أعماق التاريخ لتكون قُدوة لمن يأتي ويريد أن يكون، وهي إدانة للعصور المظلمة التي تمضي بصمت في أطلال مقبرة سوداء صامتة، فكأنما لسان حال الشهيد يقول للتاريخ وللأجيال المتعاقبة: على أطلال أزمنتي، يفيق بقايا إنسان، ليروي ما تبقى من حكايته، بلفظ آخر الأنفاس.

ولقد كان الحسين يعي أهميّة هذه الرسالة التي وضعها مصير الإنسان على عاتقه، لذلك بادر بالخروج من مكة إلى مصرعه وهو يعلم أن التاريخ ينتظره وينظر إليه، وأن ذاك الزمن الذي يعود إلى الوراء على أيدي الرجعيين يتطلع إليه ليتقدم إلى الأمام، والناس المستسلمون للأسر بدون مقاومة في حاجة ماسة إلى نهوضه وصرخته، وإن رسالة الله التي وقعت في أيدي الشياطين من جديد تريد منه أن يشهد على هذه الجريمة بموته، وذلك ما قصده حين قال: (شاء الله أن يراني قتيلاً).

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com