نص خطاب السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي في ذكرى المولد النبوي الشريف 1443

أُرَحِّبُ بكم جميعاً.. نفسي لكم الفداء يا أحفادَ الأنصار، ويا يمنَ الإيمان، احتفالُكم هذا اليوم على هذا النحو المنقطع النظير من الشواهد الجلية للحديث النبوي الشريف: “الإيِمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّة”.

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّــدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّــدٍ وبَاْرِكْ عَلَى مُحَمَّــدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ عَلَى إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إِنَّـكَ حَمْيْدٌ مَجِيْدٌ.

وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المنتجَبين وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصَّالِحِيْنَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَاتُ.. الحَاضِرُون في كُلِّ ساحاتِ الاحتفال، يا أحفادَ الأنصار، ويا يمنَ الإيمان، ويا جماهيرَ الإسلام:

السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.

ونُبَارِكُ لكم ولكل أبناءِ شعبِنا وأُمَّتِنا الإسلاميةِ بهذه المناسبة الدينية المباركة ذكرى مولِدِ خاتمِ الأنبياء رسولِ الله محمد بن عبدالله -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ-، الذي كان مولدُه مولِداً للنور، ومَقْدَمُهُ رحمةٌ من الله للعالمين، وخَلاصاً للبشرية من ظلماتِ الجاهلية، اليوم وكما في الأعوام الماضية، يحتفلُ شعبُنا العزيزُ بهذه المناسبة المقدَّسة بِكُلِّ محبةٍ وإعزازٍ وتقديسٍ وتعظيمٍ، وتوقيرٍ لخاتمِ أنبياء الله؛ عِرفانًا بالنعمة، وشكراً لله، واحتفاءً برسول الله، وتأكيداً مُتجدِّداً للولاء، وتصدّياً لكل المحاولات الشيطانية الهادفة إلى الانتقاصِ من مكانته في القلوب، وفصل الأُمَّــة عن اتِّباعه والاقتدَاء به، كما أن شعبَنا المسلم العزيز جعل من هذه المناسبة موسِماً تربوياً وثقافيًّا، وتنويرياً وخيرياً، حافلاً بالأنشطة المكثّـفة التي تعزز حالة الوصل مع رسالة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- على مستوى البصيرة والوعي والنور، وعلى مستوى الزكاء والتربية، وتقويم السلوك، وعلى مستوى العطاء والتضحية والثبات، وإحياءِ الشعورِ بالمسؤولية، مُستلهماً من سيرةِ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ-، ومُستنيراً من هديه، ومن واقعِ الوعي فيما يعنيه الإيمانُ بِهِ، وبرسالته، من اقتدَاء واهتداء واتباع، في إطار التوجّـه العملي لشعبنا العزيز للتحرّر من هيمنة الطاغوت والاستكبار، وتحقيق الاستقلال على أَسَاس من هُــوِيَّته الإيمَانية، وانتمائه للإسلام؛ باعتبَار ذلك من أهم ثمرات مبدأ التوحيد والإيمَان برسل الله وكتبه، الذي هو العنوانُ الأولُ لأركان الإسلام، وتعبِّرُ عنه الشهادتان، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسولُ الله؛ وباعتبار ذلك الأَسَاسَ الذي يبني عليه الاتباع الحقيقي، واقتدَاءً واتِّباعاً في المبادئ الكبرى، والمواقف المهمة، والالتزامات العملية في كبيرِ الأمور وصغيرها، وفي الولاء والعطاء، وتحمل المسؤولية، وفي التضحية والثبات والصبر.

وفي هذه المناسبة المباركة نتذكّرُ ما ينبغي أن نتذكَّرَه، وأن نستحضرَه من المفاهيم الأَسَاسية المتعلقة بالرسالة الإلهية، نبي الله عيسى -عليه السلام- كان آخر الأنبياء من بني إسرائيل، وسعى لتقويمِ الاعوجاج، وتصحيح الانحراف، وإعادة المنتمين إلى الدين الإلهي، إلى الصراط المستقيم، وإلى نشر الرسالة الإلهية، وتوسيع دائرة النور الإلهي في أوساط المجتمع البشري، وكان من أبرز العناوين في رسالته (البِشَارة بخاتم الأنبياء، وسيد المرسلين، ورحمة الله للعالمين، رسولِ الله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه-)، كما قال اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في القرآن الكريم: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إسرائيل إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحمد فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)، وما بين بعثة نبي الله عيسى عليه السلام، وعلى مدى قرون طويلة، إلى بعثة رسول الله وخاتم أنبيائه محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- كان المنحرِفون من الجاحدين المكذِّبين بالرسل والأنبياء، والرسالة الإلهية، والمحرِّفون لمفاهيم الدين، والمهمِلون لتعليماته من المنتمين لها، قد طمسوا معالمَ الرسالة، وانحرفوا بالناس عن القيم الفطرية، ونشروا الخرافات، والأباطيل الظلامية، وجعلوا منها معتقدات وثقافات، وملأوا الدنيا بظلمهم وظلماتهم، حتى تحول الواقع البشري إلى الجاهلية الجهلاء، وتفاقمت المعاناة، وتراكمت المشاكل، وساءت ظروفُ الحياة، وملأوا الدنيا ظلماً وجَوراً، وأصبح الناس في أَمَسِّ الحاجة إلى الإنقاذ من ذلك الوضع الكارثي.

وفي نفس الوقت كانت المؤشراتُ والإرهاصاتُ والبشارات تُهيِّءُ الساحةَ لقدوم التغيير الكبير، وقرب الخلاص والفرج، وقدوم الرحمة الإلهية، (وُلِدَ رسولُ الله محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم) يَمتدُّ نَسَبُه إلى نبي الله إسماعيل بن نبي الله وخليله إبراهيم -عليهما السلام- بمكة المكرمة في عام الفيل، العام الذي أهلك الله فيه الجيشَ الموالي للروم، الذي اتجه غازياً لمكةَ؛ بهَدفِ تدمير الكعبة، ووأد المشروع الإلهي، في وقت ظهرت فيه الدلائل والمؤشرات على قرب قدوم منقذ البشرية، ومحطم الطاغوت، خاتم الأنبياء، وكانت الآية العجيبة التي هي من أكبر الإرهاصات، عندما أرسل الله الطير الأبابيل ترميهم بحجارةٍ من سجيل، فجعلهم كعصفٍ مأكول، وأهلك الله ذلك الجيش بكله، ولم يكن ذلك حَدَثاً عادياً، بل لربما كان أبرز حدثٍ من بعد نبي الله عيسى -عليه السلام- وكان له أثره الكبير في تعزيز مكانة ودور الكعبة المشرفة، ومكة المكرمة كمركز ديني مقدس، والتهيئة للرسالة الإلهية التي سيكون مهدها الأول وموطنها في المنطلق هو مكة.

كما حدثت متغيرات كونية كبرى، مقترنة بقدومه الميمون، وقدومه المبارك، وكان من أبرزها منع الجن والشياطين من استراق السمع في السماء، ورميهم بالشهب، كما ذكره اللهُ في الآية المباركة: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا).

وقد نشأ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- نشأةً مباركةً طيبة، وآواه الله -تَعَالَى- برعايةِ جده عبدالمطلب، ثم عمه أبي طالب، فجبر يُتْمَه، وحظي بالإعداد الخاص من الله تَعَالَى لِمُهمته المقدسة، ومسؤوليته الكبرى، فلم يتدنس بدنس الجاهلية، ولم يتأثر بالجوِ العام السائد في مكة، بل كان ينمو ويكبُر في سموٍّ وزكاءٍ وكاملٍ أخلافي عظيم، ورشدٍ فكري، وحكمةٍ متميِّزة.

وفي الأربعين من عمره الشريف بعثهُ الله بالرسالة إلى العالمين، وأمرهُ بالتبليغ بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وهادياً ومُنقذاً، وأنزَّل عليه القرآن الذكرَ الحكيم، والنور المبين، والصراطَ المستقيم، والمعجزةَ الخالدة، مُواكباً لحركته بالرسالة، ومنهجاً عمليًّا يتبعه ويسعى به لإخراج الناسِ من الظلمات، كما قال الله -تَعَالَى-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) فنهض -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- بأمر الله -تَعَالَى- وفق تعليمات الله، متوكلاً على الله، وبدأ مشواره في تبليغ رسالة الله، وإقامة دينه، وإنقاذ عباده من نقطة الصفر، حَيثُ كانت بداية عمله في تكوين النواة الأولى للأُمَّـة المسلمة، ثم توسعت دائرةُ الدعوة في مكةَ، وفي مواسم الحج مع الحجاج الوافدين من مختلف أرجاء المناطق والقبائل العربية التي كانت تحج إلى بيت الله الحرام.

وقد امتازت الرسالة الإلهية بكل عناصر الجاذبيةِ والجمال والتأثير، فهي في مضمونها راقية ومنسجمة مع الفطرة، وترتكز على مكارم الأخلاق، وعلى الحق والعدل، وتستند إلى الحجّـة والبرهان، وهي كذلك تمتلك المعجزةَ الخارقةَ العجيبة، القرآن الكريم، الذي قال الله عنه: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)، إضافةً إلى أنها تقدم الحلول للمشاكل التي يعاني منها المجتمع، وتصلح الواقع، كما أن الذي يتحَرّك بهذه الرسالةِ مبلغاً وقائداً وقُدوةً هو رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- بما يمتازُ به من مؤهِّلاتٍ راقية وعظيمة، بلغ بها أعلى مراتبِ الكمالِ الإنساني، فهو في سلوكهِ وتعاملهِ وتصرفاتهِ وأعماله يجسد مكارم الأخلاق، وبلغ في ذلك إلى مستوى العظمة، كما قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وهو في رُشدهِ ووعيهِ وفهمهِ ومعارفهِ وتعليماتهِ وحكمتهِ وبيانهِ من بلغ أعلى المراتب في أنبياء الله ورسله، فكان كما وصفه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بقوله في القرآن الكريم: (وَداعياً إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)، فقوله -تَعَالَى-: (وَسِرَاجًا مُنِيرًا) هو أرقى تعبير يبين لنا مستوى ما كان عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- من الهداية والنور، وهو الذي اتصل بالوحي الإلهي بشكل مباشر، فكل معارفه وعلومه من الله -تَعَالَى- لا تشوبُها أيُّ شائبة من ضلالٍ أَو خرافةٍ أَو باطل، بل كما قال الله -تَعَالَى-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)، ثم هو في حرصه العجيب على هدايةِ الناس، واهتمامه الكبير بإنقاذهم من الضلال، من بلغ إلى درجة عجيبة في ذلك، فكان يتألم أشد الألم، لحالهم إلى المستوى الذي عبَّر عنه القرآن الكريم في قول الله -تَعَالَى-: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، فيما يعنيه ذلك أنه يكاد أن يُهلك نفسَه حزناً عليهم، وهو في قدرته البيانية، ومستوى التقديم للهدى، ومواهبه في الإقناع والتأثير إلى درجة الإقناع بالحق ومصداقيته المعروفة، من كان يصل بالمتعنتين الجاحدين إلى مستوى الإقرار بالحق في قرارة أنفسهم، حتى ولو جحدوا بألسنتهم كما قال اللهُ -تَعَالَى-: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)، وهو في حكمته وطريقته في العمل، والتزامه بتعليمات الله له في ذلك، من قال الله عنه: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)، ومع ما كان يبين لهم عن عظمة هذا الهدى، وأنه يحظى بتأييد الله -تَعَالَى-، وأنه سيُظهره على الدين كله، وأن المجتمع الذي يتحَرّك على أَسَاس سيحظى بالشرف الكبير، كما قال -تَعَالَى-: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، مع كُـلّ ذلك كانت ردة الفعل من الملأ المستكبر، ومن اتبعهم من أغلبية المجتمع في مكة سلبية، فكفروا وكذَّبوا واستكبروا، واتجهوا إلى الصد لمحاربة الإسلام، والرسالة الإلهية، واتجهوا إلى الصدِ والمحاربةِ للإسلام والرسالةِ الإلهية بكل الوسائل والأساليب، وفي مقدمتها الدعايات الكاذبة، والاتّهامات الباطلة، والاستهداف للذين يُسْلِمون بمختلفِ أساليب الضغوط، والتعذيب للمستضعفين منهم، وفي تلك المرحلة، ما قبل الهجرة النبوية أسرى الله بعبده ورسوله محمد -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في رحلة ليلية عجيبة، أراه الله فيها من الآيات العجيبة، إضافة إلى ما حملته تلك الرحلة المعجزة من دِلالات وإشارات تضمنتها الآيات المباركة في سورة الإسراء، وكشفت عن مستقبل الصراع بين المسلمين وأعدائهم من الصهاينة الإسرائيليين، وعن الدور التخريبي المُفسد الذي يقومون به في الأرض، وبعتوٍّ وعلوٍّ وإجرام، وعن عاقبتهم الوخيمة المحتومة، وتسليط الله عليهم من عباده أُولي البأس الشديد من يضعُ الله على أيديهم الحدَّ لفسادِ وعتوِ بني إسرائيل، وكما حدث في الماضي يتحقّق الوعد الإلهي في المرة الآخرة، وقد تجلَّى في عصرنا ما كشفه القرآن وأخبر عنه في سورة الإسراء من فسادهم وظلمهم واستكبارهم، وسيتحقّقُ بلا ريب ما وعد اللهُ به من التسليط عليهم، ونهاية ما هم فيه من العلو والاستكبار (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بعيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا).

وفي مكةَ في موسم الحج عرض النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- فرصةَ الفوز بشرف وفضل الإيواء والنصرة، والاحتضان للإسلام وللرسالة الإلهية على نحو ثلاثين قبيلة من قبائل العرب، لكنها رفضت، والبعض اشترطوا شروطاً لا يمكن القبول بها، بينما حظي بهذا الشرفِ الكبير، والفضلِ العظيم الأوسُ والخزرج اليمانيون القاطنون في يثرب، فهاجر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه وَسَلَّـمَ- إليهم، وأصبح بلدُهم موطناً تكوَّن فيه المجتمعُ المسلمُ من المهاجرين والأنصار، وبدأت مرحلةٌ جديدةٌ من التمكين للرسالة الإلهية، ودين الحق، وبناء أُمَّـة قوية تتمكّن من العملِ بمنهج الله -تَعَالَى-، وتتصدَّى لكُلِّ محاولاتِ الأعداء الراميةِ إلى منع ذلك، وتُقدِّمُ النموذجَ في الواقع الذي يتجلَّى من خلاله عظمةُ الإسلام، وصلاحُ الحياة به، وأثره العظيم في الإنسان.

لكن كيانات الطاغوت والكفر من مشركي العرب، ومن اليهود، ومن النصارى، لم يرق لهم ذلك، واتجهوا لمحاربةِ الإسلام عسكريًّا، وكانت البداية من قريش، الذين لم يكفهم ما فعلوه على مدى ثلاثة عشر عاماً من الصدِّ عن سبيل الله، ومحاربةِ الإسلام في مكة بالدعايةِ والتعذيبِ والترهيب، ومحاولةِ قتل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه-، فبدأوا بإعداد العُدَّة بشن الحرب العسكرية، والتحضير لهجوم عسكري يستهدف الرسول -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ- إلى المدينة المنورة، وبتحريض لهم، وتشجيع لهم من قبل اليهود، فنزل قول الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم اللَّهِ كَثيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

فكان الجهادُ في سبيل الله -تَعَالَى- هو الطريقةَ المعتمدة لدفع الأشرار الطغاة المعتدين المجرمين، الذين يسعون إلى الحيلولةِ دون تحرّر الأُمَّــة، وإلى منع المسلمين من الاستقلال على أَسَاس من دينهم وإيمَانهم وقيمهم ومبادئهم، وأتى الأمرُ من الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إلى نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- بالتحَرّك، ورفع راية الجهاد، كما قال -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)، فكان غزواتُه والسرايا العسكرية التي يَبْعَثُها في المهمات القتالية قُرابةً 80 غزوةً وسريةً تصدى بها لمختلف الجهات المعادية للإسلام، والمتآمرة المحاربة للمسلمين، من مشركي العرب، ومن اليهود، ومن النصارى.

ولم يتوانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- عن مواصلة الجهاد، والتصدي للأعداء، ودفع شرهم وفسادهم حتى حطم كيان الطاغوت، وثَبَّتَ دعائم الإسلام، وأحق الله به بجهادِهِ وجُهُودِهِ ومساعِيهِ العظيمة الحق، وأزهق الباطل، وتصدى لكل التحديات، متوكلاً على الله -تَعَالَى-، واثقاً بنصره، مقدماً التضحيات، وصابراً على كُـلّ أنواع المعاناة، ومثابراً لا يَكلُّ ولا يمل، يتلقى من الله -تَعَالَى- التوجيهات، فلا يتردّد في التحَرّك، حتى لو تردّد البعض من حوله، بالرغم مما واجهه من صعوبات ومخاطر، لا تقتصر فقط على مؤامرات ومكائدِ الكافرين بمختلف فئاتِهم من المشركين العرب، ومن اليهود والنصارى الذين بذلوا كُـلّ جهدهم، وتحَرّكوا بكل إمْكَانياتهم لمحاربة الإسلام والمسلمين، وإنما التحديات أَيْـضاً والعوائق التي كانت تواجهه في داخل الساحة الإسلامية، حَيثُ كان المنافقون، والذين في قلوبهم مرض بالرغم من انتمائِهم للإسلام يتحَرّكونَ في أوساط المسلمين لتثبيطهم عن الجهاد في سبيل الله، ويستخدمون كُـلّ الأساليب: من التشكيك في الموقف، ومن الإرجاف والتهويل، ومن الإثارة للعوائق والمشاكل الداخلية، وإثارة الفتنة مع ما كانوا يقومون به من الدخول في علاقاتٍ وروابط مع أعداء الإسلام، وتنسيق معهم، وكانوا يُكثّـفون نشاطهم التخريبي أكثر عند كُـلّ مُستَجَدٍّ مُهم من الأحداث، وكان البعض للأسف الشديد من المسلمين من ناقصي الوعي وضعاف الإيمَان يتأثرون بدعاياتهم وينخدعون بأساليبهم، كما قال اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) كانوا يعتبرون الجهادَ مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- فتنة، لا يريدون الاشتراكَ فيها بزعمهم، كما قال الله -تَعَالَى- عنهم: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)، وكانوا يعتبرونه مغامرة فاشلة، كما قال الله عنهم: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)، وكانوا يُثبِّطونَ المجتمع عن الإنفاق في سبيل الله، كما قال الله عنهم: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ)، وكانوا يثبطون تحت كُـلّ العناوين، حتى في أصعب الظروف، وأخطر المراحل، والأعداء يحاولون اقتحامَ المدينة، واستئصالَ المسلمين، كانوا يقولون كما حكى الله عنهم: (يَا أهل يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)، وفي أوقات النفير العام يُثبطون حتى باستغلال المناخ الصعب، كما قال الله -تَعَالَى- عنهم: (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ)، وكانوا يتربصون برسول الله، وبالمؤمنين، ويفرحون عند أيةِ نكبةٍ أَو إخفاق أَو معاناةٍ تحصل للمؤمنين، ويستاؤون عند أي نصرٍ أَو نجاحٍ يتحقّق لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه وَسَلَّـمَ- وللمؤمنين، كما قال اللهُ -تَعَالَى- يكشف حالهم في ذلك (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أخذنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)، ويحملون رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- المسؤولية فيما يحصل عليهم، كما قال اللهُ -تَعَالَى-: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)، وقد رضوا لأنفسهم ما هم عليه من التخاذل والقعود، بالرغم مما يواجه المسلمين من أخطار تستوجب التحَرّك الجاد، والوقوف بوجه الأعداء والتصدي لهم، إن لم يكن بدافع الإيمَان، فبدافع درء خطر الأعداء، كما قال الله -تَعَالَى-: (وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَو ادْفَعُوا)، فكانوا يتهربون من ذلك، ويتنصلون عن المسئولية، فوبَّخهم الله -تَعَالَى- في آياتٍ كثيرة، منها قولُه -تَعَالَى-: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)، وقالَ -تَعَالَى-: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأموالهِمْ وَأنفسهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، لكنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- والذين آمنوا معه واستجابوا له كانوا يتحَرّكون بكل جدٍ واهتمام وإخلاص للجهاد في سبيل الله -تَعَالَى-، كما قال الله -تَعَالَى-: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأموالهِمْ وَأنفسهِمْ وَأُولئك لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وأصبح الجهاد في سبيل الله -تَعَالَى-، والموقف من أعداء الإسلام والمسلمين علامةً اختبار تبين مصداقية الانتماء، كما قال الله -تَعَالَى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، كما حسم اللهُ في آياته المسألة، وبيَّن أنه لن يقبَلَ من المنتمين للإسلام ذلك المسلك الذي يدفع إليه المنافقون في الانتماء الشكلي، الذي يقتصر على بعض العبادات والشعائر، مع نبذ الجهاد، والتخلي عن قضايا الأُمَّــة، والرضا بالقعود والتخاذل، والتنصُّل عن المسؤولية في دفع الشر والفساد، فقال -تَعَالَى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)،

لقد كان أهم وأعظم دور للجهاد في سبيل الله -تَعَالَى-، والتصدي للتحديات والأخطار التي استهدفت المسلمين هو دور رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه-، الذي خاطبه الله بقوله -تَعَالَى-: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا)، وخاطبه بقوله -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، وخاطبه بقوله -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ)، فكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- يُكثِّـفُ نشاطَه لتعبئة الأُمَّــة، ورفع روحها المعنوية، وتذكيرها بالمسؤولية، وتحريضها للجهاد، ويُشرِفُ على مهماتها الجهادية، يأمُرُ ويوجِّهُ، ويحرِّكُ ويتابعُ، ويُديرُ ويبعثُ السرايا العسكرية، ويتابعُ تحَرّكات الأعداء، ويبعث العيون والطلائع، دونَ غفلةٍ ولا كللٍ ولا مللٍ ولا توانٍ، وأتى في القرآن الكريم التذكيرُ للمسلمين بقبحِ وسوءِ تقصيرهم وتخاذلهم عن الجهاد في سبيل الله، والتصدي للأعداء، فيما القُدوة والأسوةُ رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه- هو أعظم الأنبياء جهاداً في سبيل الله، وأعظم البشر منزلة عند الله، فقال الله -تَعَالَى-: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأنفسهِمْ عَنْ نَفْسِهِ)، وقال -تَعَالَى- في سورة الأحزاب: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، وهكذا كانت مسيرة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه-، مسيرةَ هدايةٍ وتزكيةٍ ورحمةٍ وجهاد، حتى مَنَّ الله -تَعَالَى- بالفتح المبين، والنصر العزيز، وأنقذ اللهُ به عبادَه، وحطَّم كياناتِ الطاغون، وهي مسيرة الإسلام يا أُمَّـة الإسلام، ولم يكن المتخاذلون القاعدون المثبِّطون، والمتنصِّلون عن المسؤولية، والأذلة على الكافرين، لم يكونوا أبداً هم الذينَ يُمثِّلُون حالة الطاعة والاستقامة في المجتمع الإسلامي، ولا من أثنى الله على جمودهم وقعودهم وتخاذلهم في القرآن الكريم.

إن تقديمَ الكافرين والمنافقين لعنوان: “الإبراهيمية” لتحالفاتهم الشيطانية، وتسميتهم لاتّفاق الخيانة والعمالة والتطبيع بـ”اتّفاق إبراهام” هو بحَدِّ ذاتِه إساءةً كبيرةً إلى نبي الله وخليله إبراهيم -عليه السلام- الذي هو رمزٌ للبراءة من أعداء الله وأعداء الإنسانية، وهو محطَّم الأصنام، والمتصدي للطاغوت، وهو رمز الثبات على الحق في الظروف العصيبة، يوم رُمِيَ به لإحراقه في نار النمرود.. إن الأولى بإبراهيم، ونهج إبراهيم، وملة إبراهيم، والوارثُ لكل أنبياء الله هو رسول الله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه-، كما قال الله -تَعَالَى- في القرآن الكريم: (مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أولى النَّاسِ بِإبراهيم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).

إن قوى الطاغوت والجاهلية في ماضيها وحاضرها جرَّت المشاكل على المجتمع البشري، من خلال الانحراف به عن الرسالة الإلهية في شؤون حياته، واستبدالها ببدائلَ ظلامية ومفسدة، فعلى المستوى الاقتصادي نشروا البؤس والحرمان، واعتمدوا الاحتكار والتسلط، ونهب ثروات الشعوب، ونشروا ما يَضر ويُفسد، وأَضروا بصحة المجتمعات، وألحقوا الضرر بالبيئة والمناخ، وفعلوا الفظائع لتمكين نفوذهم.

وعلى المستوى الاجتماعي، نشروا الفساد والفواحش والرذائل، وضربوا زكاء النفوس، وقوَّضوا مكارم الأخلاق والعفة والطهارة والشرف، واستهدفوا اللبنة الأَسَاسية للمجتمع، وهي الأسرة لتفكيكِها، وسعَوا إلى التفريق بين المجتمع البشري؛ لتحويل المرأة إلى كيانٍ منفصلٍ عن الأسرة، وينشرون الجرائم، ويروّجون لها، ولكل ما يساعد على انتشارها، كالخمور والمخدرات، إضافة إلى مؤامراتهم الشيطانية الخبيثة في تشويهِ الإسلام من خِلال عملائهم التكفيريين المجرمين السَّفاحين الذين يُقدِّمون بممارساتهم الإجرامية، والقتل الجماعي للأبرياء المسلمين، في المساجد وغيرها، أبشعَ صورة مشوّهة وهمجية تُحسَبُ زُوراً على الإسلام، إضافة إلى سعيهم المُستمرّ لنشر الفُرقة والكراهية والبغضاء بين المسلمين.

إننا في هذه المناسبة المباركة، وفي هذا المقام، وانطلاقاً من المبادئ والقيم الرسالية، نؤكّـدُ على التالي:

أولاً: على ثباتنا على موقفنا المبدئي الديني تجاه قضايا الأُمَّــة، وفي مقدمتها الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في مظلوميته الواضحة، وحقه المشروع في الحرية والاستقلال، واستعادة كامل أراضيه، واستعادة المقدسات، وعلى رأسها المسجد الأقصى الشريف.

كما نؤكّـد في هذا السياق ما أعلناه سابقًا من أننا جُزْءٌ من المعادلة التاريخية التي أعلنها سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله –حفظه الله- في أن التهديدَ والخطرَ على القدس يعني “حرباً إقليمية”.

كما نؤكّـد تضامننا مع كُـلّ أبناء أمتنا المظلومين في العالم العربي والإسلامي وكافة أنحاء المعمورة، ونعتز بأُخوَّتنا الإسلامية مع أحرار الأُمَّــة، ومحور الجهاد والمقاومة.

ثانياً: أدعو شعبَنا العزيز، يمن الإيمَان، وأحفاد الأنصار إلى مواصلةِ الجهود في التصدي للعدوان الأمريكي السعوديّ الغاشم، الذي يُواصل وللعام السابع ارتكاب أبشع الجرائم بحق أبناء شعبنا، ويُواصل الحصارَ الظالم، والاستهداف الشامل، والاحتلال لمناطقَ واسعة؛ بهَدفِ الاستعباد لشعبنا، والاحتلال لبلدنا، ومصادَرة حريتنا واستقلالنا، مما يتوجب علينا شرعاً التصدي له بكل جِدٍّ وثبات، حتى يتم دحرُه، ورفع الحصار، وإنهاء الاحتلال، واحترام سيادة واستقلال بلدنا، ومعالجة ملفات الحرب المتعلقة بالأسرى، وتعويض الأضرار.

كما نؤكّـد في هذا المقام، وفي هذا اليوم المبارك على أن هدفنا في تحقيق الحرية والاستقلال على أَسَاس من هُــوِيَّتِنَا الإيمَانية وانتمائنا للإسلام هو هدف مقدس، يرتكز على مبدأنا في التوحيد لله -تَعَالَى-، والكفر بالطاغوت، وأن العمل لتحقيقِ هذا الهدف والتضحية؛ مِن أجلِه هو جهادٌ مقدَّسٌ في سبيل الله -تَعَالَى-، ولن يخضعَ هذا الهدفُ للمساومة أبداً، عليه نحيا، وعليه نلقى اللهَ -تَعَالَى- شُهداءَ كُرماءَ أعزاءً بإذن الله في ميادين البطولة والثبات، وله نرفعُ رايةَ النصر بإذن الله -تَعَالَى-، والعاقبة للمتقين.

أُسوتُنا وقدوتُنا وقائدُنا ومرشدُنا ومعلِّمُنا وهادينا هو رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـه-، قال اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأموالهِمْ وَأنفسهِمْ وَأُولئك لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ* أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) صدق اللهُ العليُّ العظيمُ.

أَسْأَلُ اللهَ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَكْتُبَ أجرَكم، وَأَنْ يبارِكَ فيكم، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُمْ لِمَا يُرْضِيْهِ عَنَّا، وَأَنْ يحشُرَنا وإيَّاكم في زُمرةِ خاتمِ أنبيائِه وسيد رُسُلِه محمدٍ بن عبدِالله صلواتُ الله عليه وعلى آله.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه..

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com