مبدأُ الولاية لله من منظور قرآني

 

المسيرة – محمد الفرح

ليست الولايةُ في مفهومها مُجَـرَّدَ فكرة خَاصَّة أَو صناعة مذهبية صنعتها طائفة معينة من أبناء الأُمَّــة، بل هي حالةٌ قائمةٌ في واقع البشرية، وموجودةٌ لدى أيةِ طائفة في هذه الدنيا، فلا يوجدُ فئةٌ في هذا العالم من أبناء البشر إلا ولها ارتباط بجهة معينة، ولديها رموز معينون تقتدي بهم، وتستلهم منهم تعاليمها وتوجيهاتها، وتقدس ما يقدم من جانبهم من آراء ومن أفكار، وهذا شيء قائم حتى في خارج الساحة الإسلامية، وموجود بين اليهود والنصارى والوثنيين وكل البشر هم على هذا الأَسَاس يتلقون توجيهاتهم وإرشاداتهم من جهة محدّدة ولهم رموز وقدوات يتبعونهم ويتأثرون بسلوكهم وأقوالهم، والغريب في الأمر هو الحساسية الزائدة، تجاه الولاية حسب ما قدمها القرآن الكريم.

مبدأ الولاية وفق المفهوم القرآني التي وردت في سورة المائدة وهي من آخر السور نزولاً في القرآن الكريم، وفي الآيات التي كانت من آخر الآيات في سورة المائدة يقول الله جل شأنه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55] تلك الولاية بمفهومها القرآني تقوم على أن ولاية الله ولاية الملك الحصري لهذا العالم بكله، وولاية الالوهية وولاية الربوبية، هي أَيْـضاً ولاية تشمل واقعنا نحن البشر، فنحن عبيده مفطورون ومخلوقون ومربوبون له، هو ربنا وملكنا وإلهنا، وأوجدنا لهدف ولمشروع ولدور، وتمتد إلى الولاية التشريعية وولاية التدبير والهداية والإرشاد والتوجيه.

 

مفهومُ ولاية الله تعالى:

معنى ولاية الله تعالى من خلال قوله جل شأنه {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} ولاية الله هي ولاية شاملة، فاللهُ هو وليُّ هذا الكون، وهو مَلِكُه، وخالقُه وفاطرُه ومالكُه ومُنشِئُه ومكونه وبارئه، لا شريك له في ذلك، ولا يملك أحد غيره في هذا الكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا في أي جزء من هذا العالم.

فله جلّ شأنه هذه الولاية أولاً: أنه المالك في هذا الكون، وله ولاية الألوهية؛ لأَنَّه هو وحده المعبود بحق في هذا العالم. لا معبود بحق إلا هو، وهو -حصرياً- يمتلك حق العبادة من كُـلّ الكائنات الفاهمة الواعية في هذا الكون، وله الملك على كُـلّ ما فيها من حيوان وجماد وغير ذلك.

وله ولاية الربوبية؛ لأَنَّه وحدَه ربُّ السموات والأرض وما بينهما، رب العالمين، والجميع في هذا العالم بلا استثناء إنما هم عبيد له، ومِلك له ولا يوجد أحد يخرج عن هذه القاعدة، لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من البشر ولا من الجن ولا من أي كائنات في هذا الكون وفي هذا العالم، الكل مربوبون لله وعبيد له، وهو جل شأنه رب العالمين المالك والمربي لهم والمهيمن عليهم، فله جل شأنه ولاية الربوبية.

يبتني على هذا أنه جل شأنه الملك لهذا العالم، ملكوت السموات والأرض كله بيده، تحت سلطانه وتحت أمره وقهره، وهو المهيمن عليه بكله؛ ولذلك هو جل شأنه المدبر لشؤون السموات والأرض، فله –أيضاً-ولاية التقدير القائم، المُستمرّ الذي هو فيه مُستمرّ كما يعبر في القرآن الكريم: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] لم يخلق هذا الكون ثم يتركه، ويبقى متفرجاً عليه إلى أين يتجه وماذا يحصل فيه! بل هو متصرف فيه على الدوام، حي قيوم وقائم على الدوام بلا انقطاع، بتدبير وتصريف شئون هذا الكون بكل ما فيه.

يحيي ويميت يخلق ويرزق يعز ويذل يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، بمعنى تصرف شاملٌ {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5]، {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [الحج: 61]، تصرف مُستمرّ، لا ينقطع في تدبير شئون هذا الكون وهذا العالم، فهو جل شأنه الملك الذي لم ينقطع ولم يتوانَ أبداً ولا لحظة واحدة ولا طرفة عين في تدبير شئون هذا الكون، يرعى فيه مصالح مخلوقاته بكلها بأجمعها، ويحكم هذا الكون في الولاية التكوينية، وهو مكون هذا الكون بسننه التي لا يمكن أن يخرج عنها شيءٌ في هذا الكون أبداً.

ولهذا يقول جلّ شأنه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 55] يرعاكم رعاية شاملة، رعاية الملك والتصرف، رعاية الألوهية، رعاية الربوبية، رعاية التشريع، رعاية الهداية، رعاية النصر، رعاية التأييد، رعاية شاملة تشمل كُـلّ مناحي حياتكم، {ورَسُولُه} امتداد لهذه الولاية في واقعها البشري، من خلال حركة الرسل والأنبياء في تبليغ هدي الله وتعليمات الله ومنهج الله سبحانه وتعالى.

معنى ولاية الألوهية وولاية الربوبية:

إذن فولايةُ الله هي: ولاية الإله الذي نعبده، ولاية الألوهية كإله لنا، ولاية الربوبية كرب لنا نؤمن به نعبده نخضع له نطيعه نثق به نتوكل عليه، وهو من له الحق أن يحكم فينا ويدبر شئوننا، ((الله سبحانه وتعالى هو إلهنا ونحن عبيده، ومعنى ذلك أنه وحده الذي له الحق أن يكون له الأمر فينا، والحكم فينا، هو من له الحق أن يشرّع لنا، ويهدينا ويرشدنا، هو من له الحق أن يحكم فينا، هو من له الحق أن يدبر شئوننا؛ لأَنَّنا عبيده، هو من له الحق أن لا يتدخل غيره في شأن من شؤوننا بما يخالف ما يريده ـ سبحانه وتعالى ـ لنا ومنا، هو وحده الذي له الحق أن نطيعه، ونطيع مَنْ طَاعتُه مِنْ طَاعته.)) ([1])

وولايةُ الله هي ولايةُ الهداية: هو الهادي الذي يهدينا يأمُرُنا ينهانا يبصرنا يعلمنا يخرجنا من الظلمات إلى النور{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ} (البقرة: من الآية257) وهو ولينا يرشدنا ويزكينا ويعلمنا ويوجهنا ويصطفي لنا الأنبياء ويختار ويؤهل لنا أعلام الهدى ويرسُمُ لنا معالمَ الصراط المستقيم. {إِنَّ عَلَيْنَاْ لَلْهدَى} {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيْل} (النحل: من الآية 9) يقول الشهيد القائد ((لهذا الله قال في آية الولاية:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة:56) أعني: ما هي الولاية هنا؟ الولاية: أن تعتمد عليه؛ لأَنَّك تسير على ما يقتضيه إيمانُك به وعلى هداه، وتواجه أعدائه، فأنت تحتاج إلى هذا الولي سبحانه وتعالى لينصرك، ليؤيدك، ليعينك ويخرجك من الظلمات إلى النور في مواقفك، وهو جاء بعد بمواقف متعددة كنموذج من مظاهر إخراج الناس من الظلمات إلى النور.)) ([2])

ويقول رضوان الله عليه: ((إذاً هناك أمامنا عدة أمثلة هامة جِـدًّا في مسألة: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ}. فتكون حكيماً في مواقفك؛ لأَنَّ الحكمة هي نور، حكيم في كُـلّ موقف، سواءً كان موقف محاجة مع آخرين، أَو حتى في حالة ارتياب معين، أَو تساؤل معين يحصل لديك وأنت متولي لله، يحصل من جهة الله ما يدفعك فيخرجك من هذا الظلام الذي داخل نفسك إلى نوره فتأتي في قصة {أو كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} (البقرة: من الآية259).)) ([3])

وولايةُ الله هي ولايةُ الملِك، فالله هو رب الناس وملك الناس، واله الناس، نتولاه ولاية الملك الذي له الحق بالتصرف في مملكته في عبادة يأمر وينهى ويشرع ويقنن ويفرض ويحلل ويحرم وهذا العالم بكله مملكته فهو الملك والمالك والخالق والرازق والمحيي والمميت وهو الذي يحدّد لنا من نتولاه ويقودنا في الحياة. {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُـلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: الآية26) ((هو إلهك هو ملكك، ثم ماذا يعني أن أؤمن بأنه إلهي وإله العالمين، بأنه الملك عليَّ وملك العالمين، بأنه ربي ورب العالمين؟، هو هذا: أن تكون مؤمناً بأنه هو وحده الذي له الحق أن يتصرف في شؤون عباده كلها.)) ([4])

وولاية الله هي: ولاية رحمة يرحم عباده فيتولاهم برعايته، يؤيدهم وينصرهم ويسددهم ويوجههم من منطلق رحمته بهم، يريد لهم أن يكونوا أحراراً يرسل أنبياءه لتحرير الناس من العبودية للطواغيت، وهذا هو جوهر الإسلام وجوهر رسالة الله سبحانه وتعالي إلى العباد، فالله هو الرحيم {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (فصلت:2) فهو الذي يرحم عباده ويقدم لهم توجيهاته على أَسَاس أنه رحيم بهم ليس جباراً على خلقه ومتكبرا عليهم بل جميع توجيهاته وما هدى إليه هي من منطلق رحمته بهم.

((وعندما تعود أَيْـضاً إلى واقع الحياة، تتأمَّلُ في السموات والأرض وما بينهما من خلق الله تجد أن ولاية الله سبحانه وتعالى هي ولاية رحمة، ولاية رعاية، ولاية تربية، ليست مُجَـرّد سلطة هكذا، سلطة قاسية، أوامر ونواهي فقط، ولاية رحمة بكل ما تعنيه الكلمة. عندما تأتي إلى الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) وتتعرف عليه من خلال القرآن الكريم، ومن خلال ما نعلمه من سيرته (صلوات الله عليه وعلى آله) تجد أَيْـضاً أنه كان يجسد هذه الولاية {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أنفسكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128). عندما تأتي إلى ولاية الإمام علي نفس الشيء.)) ([5])

فهو وليٌّ يرعاك، ويدبِّرُ أمرَك، ويهمه أمرُك، يحرص عليك، ويرحمك، ويرفق بك، ولا يريد أن تضل، ولا يريد لك أن تشقى {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران: من الآية108) وهو وليهم يمن عليهم بالتأييد والنصر {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} (آل عمران: من الآية13)

يقول الشهيد القائد: ((لهذا تجد القرآن الكريم عندما ترجع إليه يعبر عن ولاية الله سبحانه وتعالى لعباده بمختلف الأساليب، فهو وليهم يتلقون منه الهداية {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ} (البقرة: من الآية257) فهو وليهم يتلقون منه التأييد بالنصر {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} (آل عمران: من الآية13) هو وليهم وهو يدبر شؤونهم، هو وليهم وهو يرعاهم.)) ([6]) ويقول: ((الإنسان المؤمن يحتاج إلى هداية مُستمرّة، إلى رعاية مُستمرّة فيكون بينك وبين الله في علاقتك به أسس ثابتة تساعدك على أن يرعاك في اللحظات التي تبدو خطيرة بالنسبة لك.)) ([7])

 

ما هو التولي لله وكيف يكون؟

ولايةُ الله من جانبنا تعني: الارتباط الشامل بالله من كُـلّ واقع حياتك في كُـلّ شأنك في كُـلّ أمرك في كُـلّ واقعك في كُـلّ ظروفك في سير حياتك في تصرفاتك ورؤاك ومواقفك.

والتولي لله هو: ارتباطٌ إيماني في كُـلّ جوانبك ابتداءً من واقعك النفسي في محبتك، وفي خوفك، وفي رغبتك، وفي رهبتك فأنت تتولى الله سبحانه وتعالى بمقدار ما أنت تحبه وتخافه، وترغب إليه وبمقدار ما أنت تثق به وتطيعه وتلتزم بهديه سبحانه وتعالى وتسير على منهجيته وتطيع من أمرك باتباعه. ((وحتى نكون من أولياءه يجب أن نثق بالله، ونعتمد على الله، ونتوكل على الله، ونكسب رضا الله، ونخاف من الله، ونستعين بالله، ونسترشد بالله، ونستهدي بالله، ونعتبره ولي أمرنا، وهو هادينا، ومرشدنا، وهو من سيرعانا، ومن سينصرنا، ومن سيؤيدنا. إذاً فكيف نكون من أوليائه إلا إذَا كنا نثق به، نثق بالله، نعتمد على الله، نتوكل على الله، نعمل على الحصول على أن نكسب ونحصل على رضا الله، نخاف من الله، نستعين بالله، نسترشد بالله، نستهدي بالله، نعتبره ولي أمرنا، هو هادينا، هو مرشدنا، هو من سيرعانا، من سينصرنا، من سيؤيدنا.. ولكن ليس مُجَـرّد كلام، ليس مُجَـرّد لقلقة ألسنة، تكون أنت فاهماً وواعياً من هو هذا الذي تريد أن تعتمد عليه، أنه الله القوي العزيز القاهر فوق عباده، الذي له ملك السموات والأرض، وبيده خزائن السماوات والأرض، بيده الأولى والأُخرى، بيده الدنيا والآخرة، تثق به وثوقاً صادقاً عمليًّا لا يتزعزع أبداً أمام أية دعاية أَو إرجاف، أَو تخويف، تعتمد عليه، تتوكل عليه.)) ([8]).

الهوامش:

([1]) الدرس الثاني من دروس معرفة الله نعم الله- ألقاه السيد حسين بدر الدين الحوثي-

([2]) الدرس الحادي عشر من دروس شهر رمضان- أَلقَـاهُ السيد حسين بدر الدين الحوثي. بتاريخ: 11 رمضان 1424هـ – الموافق: 5/11/2003م

([3]) الدرس الحادي عشر من دروس شهر رمضان- أَلقَـاه السيد حسين بدر الدين الحوثي. بتاريخ: 11 رمضان 1424هـ – الموافق: 5/11/2003م

([4]) الدرس السادس من دروس معرفة الله- ألقاه السيد حسين بدر الدين الحوثي

([5]) الدرس الثالث والعشرون من دروس شهر رمضان- ألقاه السيد / حسين بدر الدين الحوثي- بتاريخ 23 رمضان 1424هـ- الموافق 17/11/2003م- اليمن ـ صعدة

([6]) الدرس الثالث من دروس المائدة- ألقاه السيد/ حسين بدر الدين الحوثي- بتاريخ: 15/1/2002م- اليمن – صعدة

([7]) الدرس الحادي عشر من دروس شهر رمضان- أَلقَـاه السيد حسين بدر الدين الحوثي. مصدر سابق

([8]) الدرس الرابع من دروس سورة المائدة- ألقاه السيد/ حسين بدر الدين الحوثي-بتاريخ: 16/1/2002م- اليمن – صعدة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com