السيد عبدالملك الحوثي في محاضرته الرمضانية الـ 20:

ليلة القدر عظيمةٌ جداً وفرصةٌ لا مثيل لها في الحياة ولها علاقةٌ بتحديد مصيرك ومستقبلك في الدنيا والآخرة

من المهم العناية في العشر الأواخر بالإقبال إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع والابتهال

لا يجوز التفريط في ليلة القدر ومن يهدرها فهو إنسان غافل وجاهل وتائه

 

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنك حميدٌ مجيدٌ.

وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المنتجَبين وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصالحين.

اللَّهُّم اهْدِنَا، وَتَقَبَّــــلَ مِنَّـا، إِنَّــكَ أَنْتَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا، إِنَّــكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْــمُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأَخَوَاتُ..

السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.

مضى ثُلُثَا شهرِ رمضانَ المباركِ، وأصبحنا في الثُّلُثِ الأخيرِ منه، في العشر الأواخر، والعشرُ الأواخرُ لها أهميّةٌ خَاصَّةٌ، وتُلتَمَسُ فيها ليلةُ القَدْرِ على نحوٍ أكبرَ، ومن المعروفِ أنَّ رسولَ الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ” كان يُعْطِي العشرَ الأواخرَ من شهرِ رمضانَ المبارك المزيدَ من الاهتمام، والمزيد من الجد، ويشمِّر في طاعة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وورد عنه الكثير من الروايات فيما يتعلق بهذا الشأن.

البعضُ من الناس قد يكونون أُصيبوا -مع مضي هذه الفترة من شهر رمضان- بالملل وبالفتور، وأصبح لديهم قليلٌ من النشاط، وقليلٌ من الجد، أصبحوا في وضعية فقدوا فيها انتعاشهم الذي كان في أول الشهر، وجِديتهم واهتمامهم الذي كان في بدايته، وهذه من الظواهر التي تحصل للكثير من الناس، يعانون في كُـلّ الأمور المهمة والعملية من المَلَلِ والفتور.

الشيءُ الطبيعي، الشيءُ الصحيح للإنسان: أن يكونَ قد استفاد من كُـلّ ما قد أمضاه من هذا الشهر المبارك، من عبادةٍ، وطاعةٍ، وعملٍ صالحٍ، وإقبالٍ إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، في الارتقاء والسمو الروحي؛ لأَنَّ كُـلَّ شهر رمضان هو موسم خيرٍ، وموسم بركةٍ، وموسمٌ عظيم، وله فضلٌ عظيم، وبركته مهمةٌ جِـدًّا، وعظيمةٌ وواسعة، والأجر فيه مضاعف، في كله من أوله إلى آخره، في كُـلّ لياليه، وفي كُـلّ أيامه، وكذلك استجابة الدعاء فيه، وأثره في الإنسان هو يعتبر فرصة كبيرة، ومساعدة كبيرة للإنسان لإصلاح نفسه، ولتزكية نفسه، فيفترض أن يكون الإنسان قد حقّق ارتقاء نفسياً أخلاقياً روحياً، وأصبح أكثر شعوراً بالقرب من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وأُنْساً بالذكر، والطاعة، والعمل الصالح، والعبادة، واهتداء بالقرآن الكريم، وأكثر وعياً وإدْرَاكاً لأهميّة العمل الصالح، وقيمته، وقيمة الأعمال المقرِّبة إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وأهميّة ذلك بالنسبة له لحياته في الدنيا، لمستقبله العظيم والأبدي والكبير والمهم في الآخرة.

ولذلك يُفترَضُ أن يكونَ الإنسانُ في العشر الأواخر أكثر إقبالاً، وأشد حرصاً على تدارك ما قد فاته من نقصٍ وقصور خلال ما قد مضى من شهر رمضان المبارك، هذا الشيء الطبيعي، بدلاً من الفتور، بدلاً من الملل، بدلاً من التقصير، بدلاً من اللامبالاة، بدلاً من الإهمال، الإقبال بجد، السعي لتلافي القصور والتقصير، السعي لاغتنام ما بقي من هذا الموسم العظيم، من هذه الفرصة العظيمة، ثم السعي بكل جدية لاغتنام الفرصة في العمل لأن يحظى الإنسان بالتوفيق الإلهي في إدْرَاك ليلة القدر واغتنامها على أكمل وجه، هذه مسألة مهمة جِـدًّا.

ليلةُ القدر ليلةٌ عظيمةٌ جِـدًّا، مباركةٌ، وهي فرصةٌ لا مثيل لها في الحياة، لا مثيل لها في العمر، لا مثيل لها في أي وقتٍ آخر، فرصةٌ في استجابة الدعاء لا مثيل لها في ذلك أبداً، وفرصةٌ في مضاعفة الأجر والثواب لا مثيلَ لها في ذلك أبداً، وفرصةٌ مهمةٌ جِـدًّا لها علاقةٌ بتحديد مصيرك ومستقبلك في هذه الحياة، وفي الأُخرى، في الحياة الأُخرى، في الحياة الآخرة، في مستقبلك الأبدي والدائم.

فرصةٌ لها هذه الأهميّة: لا مثيلَ لها في استجابة الدعاء، لا يجوز أن يفرِّط فيها الإنسان، لا ينبغي أن يضيعها، أن يهدرها، الإنسان الذي لا يقدِّر مثل هذه الفرص، هو إنسان غافل، إنسان جاهل، إنسان تائه، فرصةٌ عظيمةٌ يقدِّمها الله لنا، ولا مثيل لها في استجابة الدعاء، وأنت فِيْ أَمَـسِّ الحاجة إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، أنت فقيرٌ إلى الله، أنت محتاجٌ إليه في كُـلّ شيء، في شؤون حياتك هذه، وفي مستقبلك الدائم في الآخرة.

ولذلك من المهم العناية في كُـلّ العشر الأواخر بالإقبال إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” بالدعاء، والتضرع، والابتهال إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، والإلحاح في الدعاء، مع التركيز في الدعاء على الأمور المهمة جِـدًّا بالنسبة للإنسان، ومن أول ما ينبغي أن نطلبه من الله: هو المغفرة، عندما ندعو الله أن نسأل اللهَ المغفرة، أن يغفر لنا ذنوبنا، أن يغفر لنا تقصيرنا؛ لأَنَّ أخطر شيءٍ علينا هو الذنوب، هو المعاصي، الذنوب فيما كان منها تجاوزاً لحدود الله، فيما كان منها تعدياً وانتهاكاً لمحارم الله، وما كان منها تقصيراً تجاه أوامر الله، وهي من أكثر الذنوب التي تحصل: التقصير تجاه ما أمر الله به.

تتراكم ذنوب الإنسان، تتراكم أخطاؤه، تترك تأثيرها السيء على نفسه، على مشاعره، على تفاعله، على استجابته لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، على اهتمامه بما فيه الخير له، وتترك أَيْـضاً تأثيراً سلبياً عليه في ميوله نحو الشهوات والرغبات والأهواء، وانجذابه نحو ما يوقعه في الهلاك، وتضعفه في مقاومته أمام التأثيرات الشيطانية، للمعاصي كُـلّ هذا الخطر على الإنسان.

ثم خطرها عندما تقع في أثرها المباشر على حياة الإنسان، سواءً في علاقته مع الله، فيما يفقده من رعاية الله، أَو في نتائجها الخطيرة والسيئة على الإنسان في الدنيا، ونتائجها الخطيرة المهولة الرهيبة جِـدًّا في الآخرة، التي تجعل الإنسان يخسر رضوان الله، وجنته، ويتجه إلى عذاب الله إلى جهنم والعياذ بالله، ولذلك نحتاج إلى أن نطلب من الله المغفرة، وأن نسأله العتق من النار، عند الإنسان المؤمن اهتمام كبير بهذه المسألة: أن يسعى لفِكَاكِ رقبتِه من النار، أن يسعى للنجاة من عذاب الله.

لاحظوا قرأنا -فيما سبق في المحاضرات الماضية- قولَ المؤمنين الأبرار أولياء الله، وهم يتساءلون في الجنة عن أسباب نجاتهم، فعندما ذكروا أسباب نجاتهم وفلاحهم وفوزهم، كان من ضمن ذلك قولهم: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور: الآية28]، {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور: 26-28]، كنا ندعوه.

الدعاءُ مُهِـمٌّ جِـدًّا، الإنسانُ يحتاجُ إلى معونة الله، إلى التوفيق من الله، إلى الهداية من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، أن يعينك على نفسك، أن يزكي لك نفسك، أن يساعدك في الاستقامة، أن يعصمك من المعاصي والذنوب الخطيرة والكبائر، أنت بحاجة إلى الله، إلى توفيقه، إلى هدايته، إلى رحمته، إلى فضله، فمهم أن يسعى الإنسان للاستعانة بالله، وأن يدعو الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وأن يركِّز أَيْـضاً في الدعاء على هذه النقطة: على العتق من النار، شهر رمضان آخره إجَابَة وعتقٌ من النار، من الخسارة الكبيرة عليك أن ينتهي هذا الشهر، وأن تمر هذه الفرصة، وألَّا تحظى بذلك في كُـلّ شهر رمضان لله عتقاء من النار، إن لم تكن منهم؛ فأنت خاسر، أنت فوّت فرصةً كبيرة، فوّت فرصةً عظيمة، وقد تكون أهدرتها وراء أشياء تافهة، هنا معروضٌ عليك خير الدنيا والآخرة، الله يعرضه عليك، إذَا أضعت هذه الفرصة، وأضعت هذا العرض، ولم تتفاعل معه وراء أشياء تافهة جِـدًّا، فأنت الخاسر، تريد خير الدنيا والآخرة مع بعض، هو هنا يعرضه الله عليك، يعرضه الله عليك، فلا تفوت هذه الفرصة.

المؤمنون يذكر القرآن عنهم في أدعيتهم اهتمامَهم الكبيرَ بالدعاء بالعتق من النار، من أهم الأدعية الجامعة في القرآن الكريم، وهو دعاءٌ جامعٌ ومقارب، ومختصر، وملخَّص، يستطيع أن يدعو به كُـلّ الناس: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: من الآية201]، {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، هذا دعاءٌ عظيمٌ جامعٌ وشامل لخير الدنيا والآخرة، ومختصر، وملخَّص، ويستطيع كُـلّ إنسان أن يحفظه، وأن يدعو به، رجلاً كان أَو امرأة يستطيع ذلك، وفيه الشمولية: يشمل خير الدنيا والآخرة، وآخره يركِّز على: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، هو من الأدعية المهمة التي يركِّز الإنسان عليها في مثل هذه الليالي المباركة.

وأيضاً نجدُ أنَّ اللهَ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” ذكر عن عباده من أهم أدعيتهم: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}[الفرقان: 65-66]، مُهِـمٌّ أن يستفيد الإنسان من الأدعية القرآنية، ومن غيرها من الأدعية المأثورة، وَأَيْـضاً يمكن للإنسان أن يدعو حتى بلهجته العادية، بعباراته المختصرة، وأن يطلب من الله احتياجاته المهمة والأَسَاسية، وأن يتضرع إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، هذا شيءٌ مُهِـمٌّ جِـدًّا، والله قريبٌ من عباده، وقدَّم عرضه العظيم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ}[البقرة: من الآية186]، فقط يقول: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: من الآية186]، {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي}، والإنسان يدعو وعنده توطينٌ للنفس على أن يستجيبَ لله؛ لأَنَّك تستجيب لله فيما هو خيرٌ لك، فيما هو مصلحةٌ لك، فيما فيه فلاحك ونجاتك وفوزك في الدنيا والآخرة، هو لا يطلب منك شيئاً لنفسه ليستفيد منه، هو الغني عنك، الغني الحميد، وهو الغني الذي لم يترك عباده ويهملهم لغناه عنهم، في الدنيا الإنسان إذَا استغنى عن شيء قد يتركه، ولا يبالي به، ولا يهتم به، ولا يلتفت إليه؛ لأَنَّه استغنى عنه، أمَّا الله فهو الغني الحميد الرحيم، مع غناه عنا يقبل علينا برحمته وفضله.

ثم على مستوى أن يدعوَ الإنسانُ فيما يتعلق بشؤون نفسه: همومه، مشاكله، قضاياه الملحة الخَاصَّة، واقعه الحياتي، يتعلق به أشياء كثيرة، فرصة مهمة جِـدًّا للدعاء والإقبال إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وكما قلنا هي فرصةٌ لا مثيل لها، فلا يفوتها الإنسان، ليغتنم هذه الفرصة، رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ” روي عنه أنه كان يقبل إقبالاً كَبيراً على العشر الأواخر، ويهتم بها، ويكثّـف أنشطته، واهتماماته العبادية فيها، على مستوى مضاعفة الأجر في الأعمال، فرصة كبيرة جِـدًّا، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” قال عن هذه الليلة: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر: الآية2]، عن ليلة القدر، ليلة عظيمة، عظيمة الشأن جِـدًّا، هذا تعظيمٌ لشأنها، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (3) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر: 3-4]، فهي خيرٌ من ألف شهر، هي تعادل على المستوى الزمني أكثر من ثمانين عاماً، أكثر من ثمانين عاماً، عمراً بأكمله، فرصة عظيمة جِـدًّا، أنت عندما تحيي ليلة القدر، فكأنك أحييت أكثرَ من ثمانين عاماً، كأنك قمت عمراً بأكمله، أجر كبير جِـدًّا، يمكن للإنسان من خلال مضاعفة الأجر، إن اغتنم ليلة القدر، وقبل الله منه عمله، يمكنه أن يحقّق نقلةً نوعيةً في واقعه العملي، أن يرتفع رصيده العملي ارتفاعاً كَبيراً جِـدًّا، قد يكون مستوى عملك لا يزال محدوداً، لكن الله يعطي لك هذه الفرص، التي يتهيأ لك من خلالها النقلات الكبيرة، والارتفاع الكبير في رصيدك من الأجر والثواب، كيف تفوت هذه الفرصة، هذه تجارة مع الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، هذه نعمة عظيمة من الله، هذه من أبرز مظاهر رحمته وفضله، نعمل، يهيئ لنا على مستوى الزمن مراحل معينة، أوقات معينة، فيضاعف فيها الأجر تلقائياً، بمُجَـرّد أن يدخل شهر رمضان المبارك، تتضاعف الأعمال فيه إلى سبعين ضعفاً، حتى إذَا أتت ليلة القدر، يتضاعف العمل مضاعفةً كبيرةً جِـدًّا، وهكذا، بما يعادل عمراً بأكمله، أكثر من ثمانين عاماً، فرصة عظيمة، ليلة، وقت زمني يدخل، فتتاح أمامك هذه الفرصة، وهذا -كما قلنا- يساعد على نقلات كبيرة جِـدًّا في رصيدك من الأجر والثواب، في عملك ومضاعفة أجورك.

ثم على المستوى الإيماني، على المستوى الإيماني، إقبالك على الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” في ليلة القدر، مع قبول العمل، مع الدعاء، مع التضرع، يمكن أن يكون له أثره الكبير جِـدًّا على نفسك، أن تحظى في تلك الليلة برحمةٍ من الله يصلح بها نفسك، يزكي بها نفسك، أن تشعر على نحوٍ غير مسبوق بالأنس بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وبذكره، وبطاعته، وبالعمل بما يرضيه، فيتحقّق لك من خلال ذلك، من تلك الرحمة من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، نقلة كبيرة في واقعك النفسي، في واقعك النفسي، في سموك الروحي، في ارتقائك الأخلاقي، في ازدياد إيمانك، في شعورك بالقرب من الله أكثر، فترتقي إلى مصاف أولياء الله الذين يحظون برعاية كبيرة من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، ويشعرون دائماً بالأنس والاطمئنان الكبير في إقبالهم على الله، وطاعتهم لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، فلا تفوت هذه الفرصة، لا تفوت هذه الفرصة، أقبل إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”.

على مستوى أَيْـضاً مستقبل حياتك، ابتداءً في الدنيا، وانتهاء بمستقبلك الأبدي الدائم في الآخرة، ليلة القدر هي ليلةٌ يكتب الله فيها ما يكتبه لك أَو عليك، كما قال عنها: {فِيهَا يُفْرَقُ كُـلّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان: الآية4]، على مدى العام القادم سيكتب في هذه الليلة ما يتعلق بمصيرك، ما يتعلق بحياتك، في أشياء كثيرة جِـدًّا من حياتك على النحو التفصيلي، أنت بحاجة إلى أن تكون في تلك الليلة مقبلاً إلى الله؛ ليكتب لك الخير فيما يكتبه لك، ليكتب لك الفلاح والنجاة والفوز فيما يكتبه لك، ليكتب لك ما تأمله من فضله الواسع، من رحمته الكبيرة، فيما يكتبه لك، وليدفع عنك، فلا يكتب عليك وأنت في واقع المستهتر العاصي المهمل المفرِّط اللامبالي، يكتب عليك أشياء نتائج لإهمالك، لتفريطك، لعصيانك، من المصائب، والنقمات، والعواقب السيئة، أَو يسلبك رعايته، أَو توفيقه، أَو رحمته، أنت بحاجة إلى أن تكون مقبلاً إلى الله، عندما تأتي هذه الليلة وأنت معرض، وأنت مهمل، فأنت لغيرها أضيع، أنت لغير هذه الفرصة من الفرص أكثر استهتاراً، وأكثر إهمالاً ولا مبالاة، فرصة بهذا المستوى، بهذه العظمة، بهذه الأهميّة، فرصة ثمينة بهذا المستوى، لا تلتفت إليها، ولا تهتم بها، ولا تبالي بها، أنت لغيرها أضيع، فستكون أنت من الخاسرين، الذين يضيعون حياتهم، ويضيعون أعمارهم.

الإنسانُ على المستوى الشخصي بحاجة إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” فيما يكتبه له، وفيما يدفعه عنه.

والمجتمعُ كمجتمع، والأمةُ التي تتجه اتّجاهاً معيناً، بحاجة إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، فمع الإقبال والإنسان يطلب من الله المغفرة والتوفيق، والمجتمع أَو الأُمَّــة التي لها اتّجاه إيماني معين، مقبلة إلى الله، تطلبه المغفرة، تطلبه العتق من النار، تطلبه خير الدنيا والآخرة، تطلبه النصر، والعون، والتوفيق، والهداية، والسداد، والتأييد، والبركات… إلى غير ذلك، فهي لا تفوِّتُ هذه الفرصة، ستحظى بفضل الله، برعايته؛ لأَنَّه ابتدأنا بعرض هذه الفرصة، ابتدأنا بهذه النعمة، ابتدأنا، وقدَّم إلينا، وأتاح بين أيدينا، هذه النعمة، فإذا أقبلنا، فلن يعرض، لن يتركنا، هو ابتدأ بالنعمة أصلاً، فكيف يعرض بعد الإقبال إليه، والرجوع إليه!

ثم على الإنسان أن يدرك خطورة أن يفرط في مثل هذه الفرص، في مثل هذه النعم التي أتاحها اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” لنا، الإنسان إذَا أمضى عمره وهو يفرِّطُ، وهو يهمل، وهو لا يبالي، وهو لا يقدر هذه النعم وهذه الفرص، سيتحسر في وقتٍ لا يمكنه تدارك شيءٍ فيه أبداً.

أولاً عند الموت، إن الإنسانَ المستهتر، إن الإنسانَ المهمل، إن الإنسانَ الذي لا يقدِّرُ مثلَ هذه الفرص، ستنقضي حياتُه، وسيأتيه الموتُ، فيتفاجأ بذلك، هو لا يدري متى سيأتيه الموت، ولربما البعض يمكن ألَّا يدركَه رمضانُ القادمُ، رمضانُ الآتي، في السنة القادمة، يمكن ألَّا يدركَ البعضُ ذلك الشهر، أَو ألَّا يأتيَ إلا وقد خُذِلوا، وسُلِبوا التوفيقَ نهائياً، أَو غير ذلك.

فالإنسانُ إذَا لم يغتنم هذه الفرص، سينقضي عمره، وسيتحسر أشد التحسر عندما يأتيه أجَلُه، عندما يأتيه الموت فيرى أنه فوت الفرصة، والقرآن الكريم أكّـد على هذه النقطة: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون: 99-100]، عند الموت يستشعر الإنسان أنه أضاع فرصةً كبيرة، وداخل هذه الفرصة، التي هي فرصة العمر، فرصة الحياة، فرصة الوقت، أضاع داخلها فرصاً عظيمةً وثمينة، مثل هذه الفرصة، مثل: فرصة اغتنام ليلة القدر، فيتحسر، يطلب من الله، يرجع إلى الله ويطلب منه بكل إلحاح أن يمهله فرصةً إضافية ليعمل فيها العمل الصالح، ولكنه لا يمكن أن يحظى بفرصة إضافية أبداً، {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون: الآية100].

عند البعث وفي ساحة القيامة الإنسان كذلك يتحسر، يتندم، يتذكر، يتمنى لو أنه لم يضع تلك الفرصة: فرصة الحياة والعمر، وما داخلها من الفرص العظيمة، فيقول آنذاك وهو يتذكر، لكن بعد فوات الفرصة: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإنسان وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}[الفجر: من الآية23]، فات الوقت، لا تنفعه في تلك اللحظات، {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: الآية24]، رأى الحياةَ الحقيقية، الحياة الأبدية، الحياة المهمة، التي الخير فيها خالص، والشر فيها خالص وعلى أشد مستوى وأرقى مستوى، وللأبد، فيتندم، ولكنه يصبح ندمه جزءاً من عذابه النفسي، ولا يفيده بشيء، لكنه يتحسر جِـدًّا، يعض على يديه، على أنامله من شدة الأسف والندم والحسرة الشديدة.

في داخل نار جهنم، بعد أن يلقى بك إلى نار جهنم، وتحترق بنيرانها المستعرة، وتشرب من حميمها، وتأكل من زقومها، وتعيش الآلام الشديدة فيها، أنت في تلك الأحوال تتضرع إلى الله، تصرخ وأنت تتلوى وتتساقط وتتخبط من شدة الألم والاحتراق، فتدعو بذلك الدعاء كما قال الله عن أهلها: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: من الآية37]، أنت تدعو أن يخرجك الله منها {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، فالإنسان وهو يدعو أن يخرجَه الله ليعملَ صالحاً غير الذي كان يعملُه في الدنيا؛ لأَنَّه كان في الدنيا مستهتراً، مهملاً، مفرطاً، شغل نفسه باهتمامات هامشية على حساب الاهتمامات الرئيسية، فالحسرة فيها كبيرةٌ جِـدًّا، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، فما الذي ستكون الإجَابَة لهم؟ هل يمكن أن يعطوا هذه الفرصة؟

اللهُ يحتجُّ عليهم فيقول: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا}[فاطر: من الآية37]، ليس هناك إمْكَانية أبداً لفرصة؛ لأَنَّها قد أعطيت لكم الفرصة، وأنتم من أضعتموها، وجاءكم النذير فأنذركم وحذركم، فلم تحذروا، ولم تلتفتوا، ولم تتعاملوا بجدية، وكنتم مصرين على إهمالكم، على تجاهلكم، على غفلتكم، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}، انتهت الفرصة، لم يعد هناك من فرصةٍ إضافية أبداً، فكم ستكون حسرات الإنسان، وهو يتذكر أن الله أعطاه في فرصة العمر، فرصاً عظيمةً وثمينة لمضاعفة الأجر، هذه من أبلغ مظاهر رحمة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، يدخل زمن معين، كُـلّ عملٍ فيه يتضاعف بأضعاف كثيرة جِـدًّا، بآلاف الأضعاف، كيف إذَا كان هذا العمل الصالح جهاداً في سبيل الله، ووقفةً مع الحق، وعملاً صالحاً شاملاً، أنت تنفق، أنت تعطي بروحٍ خَيِّرةٍ، أنت تستقيمُ على منهج الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، أنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أنت تعطي الفقراء والأيتام والمساكين، وهكذا عملٌ متكامل.

لا ينبغي إضاعةُ هذه الفرصة، ينبغي الاهتمام بالعشر الأواخر بكلها، والاستفادة منها، في كُـلّ هذه الاتّجاهات، ومع الالتجَاء إلى الله بالتوفيق لذلك، والتوفيق لاغتنام ليلة القدر.

نَسْأَلُ اللهَ سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى أَنْ يُوَفِّقَنَا وإيّاكُمْ لِمَا يُرْضِيْـهِ عَنَّا، وَأَنْ يتقبَّلَ مِنَّا ومنكم الصِّيَامَ، والقِيَامَ، وصَالِحَ الأعمال، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بنصْرِهِ.. إِنَّـهُ سَمِيْـعُ الدُّعَـاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه..

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com