السيد عبدالملك الحوثي في خطابه بذكرى استشهاد الإمام علي:

 

الإمام علي النموذج الذي يمكن للأمة أن تتطلع إليه في كل عصر

استشهد وهو يقوم بدوره العظيم في التصدي لحركة النفاق والانحراف في الأمة ويواصل مشوار الإسلام في امتداده الأصيل والنقي

الإمام عليٌّ تصدى للدور الأموي وقام بمسؤولياته على أكمل وجه وحفظ للإسلام نقاءه وقدَّمه في مواقفه وسلوكه

الآيات القرآنية والروايات تقدم لنا الإمام علياً الشاهد والنموذج الذي يقدم الصورة المتكاملة الراقية عن الإسلام

كان الإمام علي متميزاً في جهاده ورجل المهمات الصعبة والمواقف الاستثنائية والبطولات التي لا مثيل لها في تاريخ الإسلام

مسيرة حياته متميزة على نحوٍ فريدٍ وعجيب، فهو وليد الكعبة وفي ختام حياته شهيد المحراب

 

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنك حميدٌ مجيدٌ.

وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المنتجَبين وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصالحين.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ..

السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.

وعظَّم اللهُ لنا ولكم الأجرَ في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين، وسيِّد الوصيين، وإمامِ المتقين عليٍّ بنِ أبي طالب “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”، الذي أُصيب في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك، والتحق بالرفيق الأعلى في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك آنذاك، فكان ميعاده للقاء ربه في أشرف الليالي، وأشرف الشهور، وأشرف الأوقات وأفضلها.

واستشهد الإمامُ عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” وهو يقومُ بدوره العظيم في التصدي لحركة النفاق والانحراف في الأُمَّــة، ويواصل مشوار الإسلام في امتداده الأصيل والنقي، الإسلام المحمدي الأصيل، الإسلام الذي هو وفق منهج الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”.

والإمامُ عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” عندما نتحدث عنه، فمن المهم لنا كأمةٍ مسلمةٍ أن نستفيدَ من سيرته ومن عطائه، وأن نعي منزلته، وطبيعة علاقتنا به كأمةٍ مسلمة.

وعندما نعودُ إلى الآيات القرآنية، والنصوص النبوية، ونعودُ إلى سيرة عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”، نجدُ كُـلَّ ذلك يتمحور حول جانبين أَسَاسيين، كُـلٌّ منهما له علاقةٌ بنا نحن:

الأول: أنَّ الرواياتِ، وقبل ذلك الآيات القرآنية، إضافة إلى سيرة عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”، كُـلّ ذلك يقدِّم لنا نحن علياً “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”؛ باعتبَاره النموذجَ، وحسب التعبير القرآني: الشاهد الذي يقدِّم الصورة المتكاملة الراقية عن الإسلام، الإسلام في أثره في الإنسان، الإسلام الذي يتجسد كمبادئ، وأخلاق، وقيم، وسيرة عملية في واقع الحياة، وهذا جانبٌ مهمٌ لنا نحن، نتطلَّع إلى عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” على هذا الأَسَاس؛ لنرى فيه ما يجسِّدُ هذا الإسلام بشكلٍ كاملٍ وراقٍ يبرز عظمته، قيمته، أثره، أهميته.

ونرى أَيْـضاً هذا الإسلامَ في الواقع الحياتي والعملي في أثره ونتائجه، وفي أثره التربوي في الإنسان، كيف يسمو بهذا الإنسان، كيف يرتقي بهذا الإنسان، كيف تبرز آثاره على كُـلّ المستويات في هذا الإنسان، فيؤدي دوره في الحياة دوراً عظيماً متكاملاً.

ونرى الإسلامَ بصفائه، بنقائه، بحقيقته، سليماً من كُـلِّ شائبة، من كُـلّ تشويش، وهذه مسألة في غاية الأهميّة لنا نحن، نحن فِـيْ أَمَـسِّ الحاجة إليها كأمةٍ مسلمة؛ لأَنَّه في تاريخِ الأُمَّــة وإلى اليوم، يبرز الكثير ممن يقدَّم لنا؛ باعتبَاره يقدِّمُ النموذجَ الذي يعبِّر في سلوكه، في أعماله، في مواقفه، في فكره، في ثقافته عن الإسلام، بينما تشوبهُ الكثيرُ من الشوائب التي تشوِّه الإسلام، وهذا يحصل كَثيراً في تاريخ الأُمَّــة، وفي حاضرها، ويحصل أَيْـضاً في مستقبلها، فعندما تكون هناك نسخة أصيلة، سليمة، موثَّقة، نقية، متجسِّدة بسيرتها بسلوكها، تمثل هي النموذج الحقيقي، يمكننا أن نستفيدَ من ذلك على امتداد تاريخنا، ثم في حاضرنا وفي مستقبلنا.

والجانبُ الآخرُ بالنسبة للإمام عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”: هو ما يمثله من دورٍ أَسَاسيٍّ في الامتداد لهذا الإسلام ما بعد وفاة النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، في موقعه في القُدوة والهداية، وهذه أَيْـضاً مسألة مهمةٌ جِـدًّا، وبالذات تجاه ما عصف بالأمة من الفتن والمؤامرات، والنشاط الكبير لحركة النفاق والانحراف في داخل الأُمَّــة، التي سعت إلى تزييف حقيقة الإسلام، وإلى تغيير الكثير والكثير من معالمه، وإلى التشويش على الكثير والكثير من حقائقه.

وعندما نتحدث عن عناوينَ مختصرة من مسيرة عليٍّ في المرحلتين: في مرحلة التنزيل، وفي مرحلة التأويل، في ظل حياة النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” وما بعد ذلك، حتى من خلال عناوين محدودة، وعرضٍ موجز، يتجلى لنا ذلك بوضوح.

الإمام عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” كانت مسيرةُ حياته متميزةً، وعلى نحوٍ فريدٍ وعجيب، فهو وليد الكعبة، وهو في ختام حياته شهيد المحراب، وما بين ولادته واستشهاده مسيرة حياةٍ كلها متميزةً بالإيمان، والتقوى، والعمل الصالح، والسمو، والارتقاء الإنساني والأخلاقي وعلى نحوٍ عجيب.

الإمام عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” حظي في طفولته، ثم ما بعد ذلك في كُـلّ مرحلة حياته مع رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” إلى أن توفي رسولُ الله، حظي بعلاقةٍ واختصاصٍ في صلته برسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، فهو تربَّى عند رسول الله، كفله رسول الله “صلَّى اللهُ وسلم عليه وعلى آله”، وربَّاه عنده، ومنذ طفولته المبكرة نشأ في بيت رسول الله، وعند رسول الله “صلواتُ الله وسلامه عليه وعلى آله”، ورسول الله حتى ما قبل البعثة كان إنساناً عظيماً، ومؤمناً، متكاملاً، وعلى درجةٍ عظيمةٍ في أخلاقه، ونبله، ومرتبةٍ عاليةٍ جِـدًّا في ذلك، وموحِّداً لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، ويحظى بعناية إلهية خَاصَّة ما قبل البعثة إلى الناس.

ثم في تلك المرحلة التي ربَّى فيها علياً عنده، لم يكن اهتمامُه بعليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” منحصراً على العناية به في التغذية والاحتياجات الخَاصَّة الإنسانية، فيهتم به فيما يتعلق باحتياجاته كإنسان من غذاء وكساء ونحو ذلك، إنما كانت عنايته أَيْـضاً بعليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” متجهةً إلى التربية الأخلاقية، فكما قال عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” وهو يتحدث عن تلك المرحلة في طفولته: (ولقد كنتُ أتَّبِعُهُ اتِّباعَ الفصيل أثر أُمَّـه، يرفع لي في كُـلّ يومٍ من أخلاقه عَلَماً ويأمروني بالاقتدَاء به)، هكذا كان يتربى تربية يسمو فيها على المستوى الأخلاقي والروحي والتربوي والإنساني على نحوٍ فريد، مع قابليةٍ عاليةٍ جِـدًّا عند الإمام عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”، وهبه الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” قابليةً عالية، ثم هيَّأ له هذا المربي العظيم: رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”.

عند البعثة كان رسولُ الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” وهو يعتني بهذا الفتى اليافعِ عنده، كان عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” السابق إلى الإيمان برسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، والمصدِّق به، وبرسالته، وببعثته على نحوٍ متميز، لم يسبق ذلك شركٌ، ولا شيءٌ من دنس الجاهلية، الذين أسلموا، أسلموا مع سابقة شرك، مع ماضٍ من دنس الجاهلية وسلبياتها، أمَّا الإمامُ عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” فكانت سابقتُهُ الإيمانية متميزةً بأنه لم يسبقها أبداً شيءٌ من الشرك، ولا من دنس الجاهلية ورذائلها.

والسبقُ فضيلةٌ عظيمة، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” يقولُ في القرآن الكريم: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئك الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة: 10-11]، سبقٌ إلى الإيمان، أَيْـضاً الإيمان على نحوٍ راقٍ جِـدًّا، وإلى نصرة رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، فسبق كمؤمنٍ عظيمٍ، وجنديٍّ متميزٍ، ومناصرٍ صادقٍ مع رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”.

ثم في إطارِ مسيرة حياته هذه المسيرة الإيمانية مع رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، كان في حياته، وفي أثر تربية رسول الله له، يرتقي ارتقاء عظيماً ومتميزاً على المستوى الأخلاقي والإيماني، وعلى المستوى المعرفي، وعلى مستوى الهداية والوعي والبصيرة، فكان هو النموذج الأول، والمصداق الأول لكل ما ورد في القرآن الكريم من آياتٍ قرآنية فيها ثناءٌ على المؤمنين، وحديثٌ عن مواصفاتهم، وبشارةٌ لهم، وكما قال ابن عباسٍ رحمه الله: (أنَّ كُـلّ آيةٍ نزلت فيها ثناءٌ على المؤمنين، وبشارةٌ لهم، وإلَّا وكان عليٌّ أميرها)، يعني: كان هو المصداق الأول، والنموذج الأكمل، المصداق الأول لتلك الآيات التي تتحدث عن المؤمنين، عن مواصفاتهم، عن الثناء عليهم، وعن البشارة لهم، وعن النموذج الأكمل فيما بينهم، ولذلك كان هو الشاهد -بحسب التعبير القرآني- الذي يشهد فيما هو عليه من سلوك، في أثر الإسلام فيه، في سموه الإنساني والأخلاقي، يشهد على عظمة الرسول، على عظمة الرسالة، على عظمة القرآن؛ لأَنَّه من خلال أثر التربية النبوية في هذا الإنسان، أثر القرآن فيه، أثر الإسلام فيه، يتجلى للناس أنَّ عظمة الإسلام فعلاً مسألة مؤكّـدة ومتجسِّدة في واقع الحياة، وليست فقط نظريةً مثاليةً لا يمكن أن نلمسَ أَو نرى آثارَها في واقع الحياة.

عندما نأتي إلى مسيرةِ حياتِه في ظِلِّ رسولِ الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، مؤمناً به، ومناصِراً له، وجندياً مخلِصاً معه، ووزيراً صادقاً، نجد تلك الحياة المتميزة الإيمانية العظيمة، فعلى مستوى الجهاد، كان جهاده في سبيل الله، وبيعه لنفسه من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وتفانيه في سبيل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” على نحوٍ متميزٍ، جعل منه رجل المهمات الصعبة، والمواقف الاستثنائية، والبطولات التي سطَّرها التاريخ، ولا مثيلَ لها في تاريخ الإسلام.

الإمامُ عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” في مرحلةِ مكة، ما قبل الهجرة، كان ملازِماً لرسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، وكان هو الحارسَ الشخصي الملازم على نحوٍ دائم، والحاضر في كُـلّ لحظة لأن يفدي رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” بنفسه، بروحه وحياته، وفي تلك المرحلة الحسَّاسة كان يواصل هذا الدور، إلى أن أتى ميعاد الهجرة من مكة إلى المدينة، فكان هو الذي قام بالمهمة في تلك الليلة، مهمة الفداء، مهمة المبيت على فراش النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، في عملية تمويهية أمنية، تمثل غطاءً لخروج النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، وانتقاله من منزله إلى خارج مكة، إلى الغار.

فالإمامُ عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” في تلك الليلة عندما عَرَضَ عليه النبيُّ “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” هذه المهمة الفدائية، تلقَّاها بكل استبشار، بكل رحابة صدر، بكل شوقٍ وتلهف، بإيمانه العظيم، وكان المهم عنده هو سلامة رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، وبات في تلك الليلة جاهزاً بشكلٍ تامٍ للشهادة في سبيل الله، والتضحية في سبيل الله، بائعاً نفسه من الله، وكان أن صدَّر القرآن الكريم ليلة الفداء هذه، وذلك الموقف الذي باع فيه نفسه من الله، واستعد بشكلٍ تامٍ للشهادة في سبيل الله، القرآن سطَّر هذا الموقف وجعله نموذجاً، وهذا ما ركَّز عليه القرآن في كُـلّ ما قدَّمه بشأنٍ عليٍّ أنه يقدمه كنموذج في دائرة العنوان الإيماني؛ ليكون نموذجاً للمؤمنين، نموذجاً للناس في الإيمان، والارتقاء الإيماني، والالتزام الإيماني، والاستعداد العالي للتضحية في سبيل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، فقال الله “جلَّ شأنه”: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: الآية207]، فالقرآن يقدِّم لنا هذا الموقف العظيم، ويكشف لنا في هذه الآية المباركة حتى عن مشاعر عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”، أنه عندما قدَّم نفسه في سبيل الله، مستعداً للتضحية على نحوٍ تامٍ بدون أي تردّد، وبدون أي توجس، وبدون أي قلق، هو يبتغي بذلك مرضاة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، مخلصاً لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وكان الإخلاص لله من أبرز العناوين التي نجدها في سيرة عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”، في أعماله، في مواقفه، في جهاده، في كُـلّ أعماله الصالحة، الإخلاص لله، والابتغاء لمرضاة الله، والسعي لنيل المحبة لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” ومرضاته، كان هو الهدف والغاية الرئيسية للإمام عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”، وهذا درسٌ عظيمٌ ومهمٌ لنا جميعاً، لكل المسلمين، لكل المؤمنين.

وهكذا استمرَّ في عطائه مع الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، بعد هجرة النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” أَدَّى عنه الودائع، وكان يؤدِّي أَيْـضاً هذا النوع من المهام التي لها صلة مباشرة وخَاصَّة برسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، فيؤدي عنه، فأدَّى عنه الودائع في مكة، كان هو أَيْـضاً الذي يقضي دينه، يؤدي كُـلّ المهام الخَاصَّة المتصلة بالنبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، يثق به ثقةً كاملة، ويطمئن إليه أنه سيؤدي عنه ما يؤديه، وهاجر أَيْـضاً والتحق برسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، ونقل معه أسرة النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” إلى المدينة، في قصةٍ مشهورة تحدى فيها خطر المشركين، عندما حاولوا أن يلحقوا به، وأن يحولوا بينه وبين الهجرة، وأن يعيدوا من معه من أسرة رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، إلَّا أنه تصدى لهم بكل حزم، ونجح في مهمته.

في مرحلة المدينة أَدَّى دوره على نحوٍ عظيمٍ ومتميز، فكان في كُـلِّ أدائه الجهادي، وفي كُـلّ المعارك، وفي كُـلّ المواقف والتحديات التي كانت أبرز ملاحم الإسلام، هو البطل الأول الذي يؤدِّي دوره العظيم كجنديٍّ عظيمٍ متميز، ومتفانٍ في سبيل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”:

في غزوة بدرٍ الكبرى كان له أكبرُ رصيدٍ بين المجاهدين مع رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” في تفانيه، واستبساله، ونكايته بالمشركين، وكان هو من باشر القتل بمعظم القتلى الذين قتلوا في غزوة بدر، وعندما برز هو وعمه حمزة بن عبد المطلب، وابن عمه عبيدة بن الحارث، نزلت الآية القرآنية: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}[الحج: من الآية19]، فكان هو المخاصم لأعداء الله، للذين واجهوا الإسلام، وحاربوا الإسلام، وبرز هو وعمه وابن عمه في أول ما بدأت تلك المواجهة في تلك المعركة في موقفٍ تاريخيٍّ مذكورٍ في السِّير النبوية.

واستمر كذلك، في معركة أُحُد كان له أبرز دورٍ في نصرة الإسلام، في الجهاد، فكان هو قاتل حملة الرايات، وقاتل الصناديد والأبطال من المشركين، وكان هو الثابت المتفاني المستبسل عند الهزيمة التي شملت الكثير من المسلمين، {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أحد وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}[آل عمران: من الآية153]، كانت هزيمةً مؤلمة، وكانت المرحلة آنذاك وذلك الظرف الحساس يشكِّل خطورةً كبيرةً على حياة النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، فكان ثابتاً مع رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، ومستبسلاً، ومتفانياً إلى حَــدٍّ عجيب، كانت كلما أتت كتيبة تتجه نحو النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، وتزحف بكل جدية، وبكل اهتمام؛ بهَدفِ قتله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، يتجه الإمامُ عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” إلى تلك الكتيبة بكل استبسال وتفانٍ ويقتل قائدها، فتنكسر وترجع من زحفها، ثم يتجه إلى الكتيبة الأُخرى… وهكذا من هنا وهناك بكل استبسالٍ وتفانٍ، إلى درجة أن عَجِب جبرائيل -وهو حاضرٌ إلى جوار النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”- من هذا الاستبسال، من هذا التفاني، فقال: (إنَّ هذه لهي المواساة)، فقال النبيُّ “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”: (إنَّه مِنِّي وأنا منه)، فقال جبرائيل: (وأنا منكما)، هذا شرفٌ عظيمٌ جِـدًّا جداً.

في معركة الخندق، وهي معركة خطيرة، وحساسة، وحوصرت فيها المدينة، وبلغت الحالة في داخل المدينة مبلغاً كَبيراً من الضغط النفسي والمعنوي على المسلمين، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب: من الآية11]، وتحدث المنافقون بالإرجاف والتهويل والتشكيك، ولعبوا دوراً سلبياً في زعزعة الوضع الداخلي للمسلمين، واشتدت المشكلة على المسلمين، وتضاعف الهم والمحنة عليهم، كان للإمام عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” دوره البارز والمتميز، وتصدى هو لعمرو بن عبد ود العامري، وضربه ضربته الشهيرة، وقُتِلَ وهو من أكابر فرسان المشركين، ومثَّل قتله ضربة معنوية كبيرة للأعداء، وكانت تلك المواقف البطولية، وذلك الدور الرئيسي، في كُـلّ تلك المرحلة، مرحلة غزوة الخندق منذ بداية الحصار، إلى حين انكشافه وهزيمة المشركين ورجوعهم، كان الدور المحوري البارز للإمام عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” يقدم النموذج الذي تحدثت عنه الآية المباركة في سورة الأحزاب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب: الآية23]، فكان المصداق الأول، والنموذج الأكمل لهذه النماذج، الإمام عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”، وحمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب، كانوا هم النموذجَ الأكملَ، وهم المصداق الأول، وهي تشملُ كُـلَّ المؤمنين الذين نهجوا هذا النهج، ولكنهم يبقون دائماً في أول القائمة، وفي أول العنوان، على نحوٍ متميزٍ في كمال ما كانوا عليه من ذلك، وفي أنهم الذين بادروا وسبقوا إلى ذلك.

فيما بعد ذلك أَيْـضاً، في ملاحمِ الإسلام الأُخرى في خَيْبَرَ، وملحمة خَيْبَرَ من أبرز الملاحم التاريخية، ومن أهم الملاحم في السيرة النبوية، وقد تراجع فيها المسلمون مرةً تلو أُخرى، إلى أن قال النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”: (لأبعثن غداً عليهم رجلاً يُحِبُّ اللهَ ورسولَه، ويُحِبُّهُ اللهُ ورسولُه، كراراً، غير فرار، يفتح الله على يديه)، الإمامُ عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” كان في المراحل التي تراجع فيها المسلمون في تلك الملحمة، كان مُصاباً بالرمد، كان مريضاً، لا يبصر، لا يكاد يبصر موضع قدميه، فلم يكن حضر وباشر وشارك في تلك العمليات التي تراجع فيها المسلمون، ولكن رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” تفل بريقه المبارك في عينيه، ودعا له بالشفاء، وشفي بشكلٍ تام، وأعطاه الراية، وانطلق، وفتح الله على يديه في لحظةٍ سريعةٍ ومعركةٍ حاسمةٍ وسريعة.

وكانت هذه المواصفاتُ العظيمةُ والراقيةُ تقدِّمُه أَيْـضاً كنموذج، رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرار، غير فرار، يفتح الله على يديه، فنجده أَيْـضاً في ملحمة حنين كان هو الثابت بعد الهزيمة الكبيرة التي لحقت بأكثر المسلمين، ولم يبقَ مع رسول الله إلا القلة القليلة، كان أبرزهم وأكثرهم تفانياً واستبسالاً، وأكثرهم عناءً وجهداً وعملاً، وإسهاماً في الدفع عن رسول الله وعن الإسلام والتصدي للأعداء، كان هو عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وتراجع المسلمون، وختمت تلك الملحمة التاريخية، والمعركة الكبيرة بالنصر الحاسم لصالح المسلمين.

وهكذا في محطات كثيرة، وفي مراحل كثيرة، وفي تحديات كثيرة، كان يتميز الإمام عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” بتفانيه في سبيل الله، ببطولاته التي لم تكن فقط مبنيةً على الشجاعة الفطرية فحسب؛ وإنما تستندُ أَيْـضاً إلى هذا الرصيد الإيماني العظيم، وإلى هذا التوفيق والتأييد الإلهي الكبير، الذي كان يحظى به لإيمانه، وصلته بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وعظيم منزلته في الإسلام.

والجهادُ في سبيل الله عندما ينطلق من هذا المنطلق الإيماني، وبهذه القيم، وبهذا الوعي لعظمة الإسلام، وبهذا الحمل للإسلام كقضية تدافع عنها وتجسدها في واقعك العملي، فضيلةً عظيمةً ومرتبةً عاليةً جِـدًّا، وهو في سلم الأعمال الصالحة، وفي سلم العناوين، وفي قائمة العناوين الإيمانية في المرتبة الأولى، {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً}[النساء: 95-96].

الإمامُ عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” على هذا المستوى في جهاده، في ارتقائه الإيماني، في علمه ومعرفته، وما منحه الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” من الهداية، كان هو الأُذُن الواعية، المصداق الأول في الأُذُن الواعية، في الوعي، في الاستيعاب، في التفهم، في الاستنارة بنور الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، في الاستيعابِ لما بلَّغه رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” للأمه، وفيما علَّم به هذا التلميذ العظيم، وكان هو باب مدينة العلم، كما في النص عن النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” وهو يكشف لنا المقام العلمي العظيم من جهة، والجانب المؤتمن لحمل وتبليغ ما أداه النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” إلى الأُمَّــة، على نحوٍ وثيقٍ وصادقٍ ونقيٍّ من كُـلّ الشوائب، وسليمٍ، أمانة عاليةٍ، واستيعاب كبير، ومن واقع هذا الدور الذي يؤديه من خلال اقترانه بالقرآن، وكان كما قال عنه النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”: (عليٌّ مع القرآن، والقرآن مع علي)، فكان مع القرآن، استوعب القرآن، استوعب هداية القرآن الكريم على نحوٍ عظيم يناسب هذا الدور الذي أوكل إليه، هذا الدور الذي عليه أن يقوم به، ثم مع ذلك كان مجسداً للقرآن الكريم في واقع حياته كمواقف، وكتعليمات، وكسلوك، وكأخلاق، وكمبادئ، وكمسيرة عمل يلتزم به، يتحَرّك على أَسَاسه، فكان قرآناً ناطقاً بكل ما تعنيه الكلمة، وكان يمثل استمرارية الإسلام بشكلٍ صحيح، في تقديمه للأُمَّـة، وفي الحركة بالأمة على أَسَاسه بشكلٍ صحيح، حتى تكون الأُمَّــة مهتديةً بالقرآن، حتى لا تتشوش عليها هذه العلاقة مع القرآن بمفاهيم غير صحيحة، بتأويلٍ غير صحيح، بتفسيرٍ غير صحيح، بتزييفٍ للمفاهيم التي تحسب على القرآن الكريم، فكان هو الذي قاتل على تأويل القرآن، كما قاتل النبي على تنزيله، كما أخبر النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” بذلك، وهو يخبر هذه الأُمَّــة، ويطلعها على طبيعة هذا الدور الذي يقوم به عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” ما بعد وفاة النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، فأخبر الأُمَّــة أن علياً “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” سيقاتل على تأويل القرآن، كما قاتل النبي على تنزيله.

فكان في مرحلة التنزيل في ظل حياة النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” ذلك النموذج العظيم، الأكمل، والمصداق الأول على مستوى العناوين الإيمانية والقرآنية، وما بعد وفاة النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” كان هو الذي يؤدي هذا الدور في الحماية للمفاهيم القرآنية، ومعارف الإسلام، وحقيقة الإسلام، ويتحَرّك بالأمة على هذا الأَسَاس بشكلٍ صحيح؛ حتى يحميها من الانحراف، الانحراف الخطير الذي تتحَرّك به حركة النفاق والانحراف في داخل الأُمَّــة، وتحَرّكت، وتحَرّكت بذلك.

الإمام عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” منزلته التي كان فيها في ظل حياة النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، وما بعد وفاة النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، حدّدها ووضحها وبينها النص النبوي الذي رواه المسلمون بكل مذاهبهم، عندما قال “صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ” للإمام عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعد)، فله هذه المنزلة وهو يؤدي هذا الدور، في عهد النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، وما بعد وفاته، وبقي الإمام عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” يمثل العلامة الفارقة بين الإيمان والنفاق، فهو يمثل الاتّجاه الصحيح، السليم، في مسيرة الإسلام، وعندما أتت حركة النفاق لتناوئ هذا المسار، ولتحارب هذا المسار والامتداد الأصيل والصحيح، كانت مكشوفة، كانت مفضوحة؛ لأَنَّ هناك ما يعبر عن الامتداد الصحيح، ما يمثل النموذج، وما يمثل الشاهد، وما له موقع القيادة والهداية، وهذه نعمة كبيرة جِـدًّا للأُمَّـة، هذه نعمة جِـدًّا، حتى لا تلتبس الأمور ما بعد وفاة النبي “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”؛ لأَنَّ النبي أنذر أمته بأنها مقبلةٍ على فتنٍ كقطع الليل المظلم، وأنها مقبلةٌ على حالةٍ من التلبيس والانحراف، وأنها مقبلة على حالةٍ من الانحراف الذي يشكل خطورةً كبيرةً عليها في نقاء الإسلام، في فهمها الصحيح للإسلام، في أن تسير بشكلٍ مكتملٍ وفق مبادئ الإسلام كاملةً نقية.

فعمليةُ الانحراف والتلبيس لن تأتيَ لتغيُّرِ العنوان الإسلامي بكله، ولكنها تشوشه، تُلَبِّس فيه، تزيف الكثير من حقائقه، فتلبس الحق بالباطل، وتحول هذا الإسلام إلى إسلام مختلطٍ بكثيرٍ من المفاهيم التي تحسب عليه وليست منه، وإنما هي في حقيقة أمرها تعبر عن النفاق، وقد كان هذا الخطر على نحوٍ كبيرٍ جِـدًّا في مرحلة عودة الدور الأموي والنفوذ الأموي من جديد في واقع الأُمَّــة، وكان يشكِّل خطراً كَبيراً جِـدًّا على هذه الأُمَّــة، في إسلامها، في إسلامها أن يبقى نقياً، أن يبقى سليماً، أن تبقى له ثمرته الحقيقية في الإنسان والحياة، وأن يبقى له أثره المبتغى منه في واقع الحياة، وفي الدنيا والآخرة.

فالدورُ الأموي الذي شكَّل تهديداً بالغاً، وغذّى معه كُـلَّ أشكال الانحراف، ووظّف معه كُـلّ حالات الانحراف الموجودة والممتدة في مختلف الساحة الإسلامية، والتي وصلت إلى مستوى التوغل إلى داخل الكوفة، عاصمة الإمام عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”، عاصمة الأُمَّــة الإسلامية، فوظف كُـلّ حالة الانحراف، وغذاها، وحركها، بما في ذلك ظاهرة الخوارج، استفاد منها الجانب الأموي، وحركها وفق خيوطه وأساليبه الماكرة والخبيثة، وشغَّلها على النحو الذي يحقّق له أهدافه ومآربه الشيطانية.

فالإمام عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” تصدى للدور الأموي على أكمل وجه، قام بمسؤولياته على أكمل وجه، حفظ للإسلام نقاءه، وهو يبلِّغ، وهو يعبِّر، وهو يقدِّم هذا الإسلام، وهو يجسد هذا الإسلام في مواقفه، في سلوكه، في أعماله، في مواقفه، وهو يجاهد بكل أشكال الجهاد، ويدافع عن هذا الإسلام، عن الأُمَّــة نفسها؛ ليبقى لها هذا الإسلام كما هو، وليعطي هذا الامتداد في مرحلة من أخطر المراحل، ومن أسوأ المراحل، تشكل تهديداً على الإسلام، وتمثل منعطفاً خطيراً جِـدًّا في تاريخ الأُمَّــة.

وفي نهايةِ المطافِ استشهد، ضحى بحياته، بروحه، في سبيل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وقد أتم دوره وقام بواجبه على أكمل وجه، فكان هو الشاهد في كُـلّ تلك المراحل، في مرحلة التنزيل، وفي مرحلة التأويل، وكان هو النموذج الذي يمكن للأُمَّـة أن تتطلع إليه في كُـلّ عصر، لتقيس على تلك الروحية، على تلك المنهجية، كُـلّ النماذج الأُخرى، فتشاهد النموذج الأصيل والعظيم جِـدًّا، والراقي جِـدًّا، والكامل، الذي تقيس عليه النماذج الأُخرى مهما صغرت، فلا تلتبس عليها مسألة الرموز، مسألة القادة، مسألة الأعلام الذين تسير بعدهم، الذين تتأثر بهم، الذين تتجه بهم؛ لأَنَّ أمامها نموذجاً واضحاً جِـدًّا، وكامل جِـدًّا، ويؤدي دورَه في الشهادة على نحوٍ مُستمرٍّ عبر الأجيال.

عندما نأتي إلى زمننا هذا نتطلع إلى الإمام عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” وهو في هذا الموقع، في موقع القُدوة والقيادة، وهو في موقع أَيْـضاً النموذج الأكمل، والمصداق الأول لكل تلك العناوين والمواصفات الإيمانية العظيمة، فنرى فيه مدرسةً متكاملةً معطاءةً وغنية، نستهدي بها، نستهدي بسيرتها، نستهدي بما قدمه في مواقفه، في صبره، في عطائه، ونجد فيه النموذج الإنساني الراقي المكتمل، الذي قدمه القرآن أَيْـضاً في سورة الإنسان في عطائه الإنساني، وهو كما قال عنه “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” وهو يقدم صورةً من عطائه مع أصحاب الكساء: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يوماً عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان: 8-10]، وهكذا تقدم هذه الآيات المباركة وهو في عطائه إلى هذا المستوى الذي يؤثر على نفسه في أضيق الحالات، في أشد الظروف، في أقسى الظروف، على المستوى المعيشي، فيؤثر حتى بطعامه الذي لا يمتلك غيره، يؤثر الفئات المحتاجة، من مسكينٍ ويتيمٍ وأسير، ويبقى جائعاً، هذا هو عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” في عطائه الراقي جِـدًّا، وبإخلاص عظيمٍ لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، ليس لأهداف أُخرى، حتى على مستوى الشكور، على مستوى الثناء، على مستوى المديح، لم يسع لذلك من خلال عطائه، كان ذلك النموذج الراقي في عطائه، في إخلاصه، تجسدت حالته الإيمانية في اهتمامه بأمر الناس، واهتمامه بعباد الله، ورحمته بالمستضعفين، ودفاعه عنهم، وعطائه لهم، مع خوفٍ من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، ومحبةٍ عظيمةٍ لله “جلَّ شأنه”، وصلةٍ إيمانيةٍ راقية، ثم كان هو ذلك الذي عندما أتت الشهادة قال كلمته الشهيرة: (فُــزْتُ وَرَبِّ الكعبة)؛ لأَنَّه كان على يقين من سلامة منهجه، من صحة موقفه، كان على بصيرةٍ عاليةٍ تجاه مسيرته ومواقفه، كان يدرك أَيْـضاً فضل الشهادة، وعظيم منزلتها، وعظيم منزلته هو فيما أداه، وفيما توفق له، وفيما كان عليه من إيمانٍ عظيم، وفيما عمل به وقدمه من العمل الصالح العظيم، وبقيت أعماله، وآثار أعماله، ممتدةً فيما قدمه، وفيما أسهم به، في رفع راية الإسلام، وفي تخليد الحق، وفي خدمة المستضعفين، ممتدةً إلى يوم القيامة.

مدرسةٌ وقُدوة ومنهجيةٌ نستفيدها من الإمام عليٍّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” في مرحلةٍ نحن فِـيْ أَمَـسِّ الحاجة إلى ذلك، وكان حبه علامةً فارقةً بين الإيمان والنفاق، لهذا الدور الذي يؤديه في مستقبل الأُمَّــة، ويبقى علامةً فارقةً بين الإيمان وبين النفاق؛ لأَنَّ الإيمانَ في امتداده الأصيل جسَّده عليٌّ، وقدّمه علي، والنفاقُ كان دائماً في الاتّجاهِ المناوئ لعلي، والمعارِضِ لعلي، والباغِضِ لعلي، والكاره لعلي، والمستاء دائماً من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا وإيّاكُمْ لأَنْ نقتديَ بالإمام عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، لأَنْ نقتديَ برسولِ الله “صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله”، فيما يمثِّلُه عليٌّ من حلقة وصلٍ برسول الله، حلقة وصلٍ موثوقةٍ وأمينةٍ وصادقةٍ وأصيلةٍ، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا وإيّاكُمْ لِمَا يُرْضِيْـهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بنصْرِهِ.. إِنَّـهُ سَمِيْـعُ الدُّعَـاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه..

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com