معركتنا في مأرب ليست مع أبنائها: السيد عبدالملك الحوثي في خطابه بذكرى جمعة رجب:

بارك للشعب اليمني انتماءَه للهُـوية الإيمانية لأنها خير هُـوية لأي شعب ووطن وأمة، ودعا لترسيخها في الأجيال اللاحقة

 

كل العمليات العسكرية في كُـلّ المسارات تأتي في إطار التصدي لعدوان بدأه الآخرون علينا

 

المشكلة في العدوان والحصار وموقفنا موقف حق وعدل بكل المعايير الإنسانية والأخلاقية والدولية

حركة المنافقين تعمل لضرب الهُـوية الإيمانية بضرب الجانب الأخلاقي عبر نشر الفساد وتمييع المجتمع المسلم خدمة للأمريكيين والصهاينة

شعبنا له امتداد أصيل إيماني عبر التاريخ وُصُـولاً إلى رسول الله، والتكفيريون ينظرون إلى أبناء شعبنا على أنهم كفار إلا من التحق بالمذهب الوهَّـابي والجماعات التكفيرية

أولويةُ أمريكا تمكينُ إسرائيل في المنطقة وتعزيزُ سيطرتها وتفوقها في المنطقة وأن تكون قائدةَ ما يطلقون عليه “الشرق الأوسط”

كشعب يمني وأمة إسلامية نسعى للخلاص من التبعية لأمريكا وإسرائيل فهذا التهديد يؤثر على هُـويتنا الإيمانية

الهُـوية الإيمانية تزيد تمسكنا بقضايا أمتنا وعلى رأسها فلسطين وموقفنا المبدئي من التصدي للهيمنة الأمريكية والوقوف مع كُـلّ المظلومين من أبناء أمتنا

نحن أحرار وهُـويتنا الإيمانية تفرض علينا السعي لتحقيق استقلالنا، لا نريد أن نكونَ تحت وصاية السعودية أَو الإمارات أَو أمريكا وإسرائيل أَو أية دولة خارجية

قبل ثورة 21 سبتمبر كانت هناك وصاية خارجية على رأسها أمريكا، وأمريكا وإسرائيل وجهان لعملة واحدة

الجو الذي يعيشه شعبنا أخوي تربطه الهُـوية الإيمانية الجامعة وهذه أقدس الروابط

أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ.

وارضَ اللَّهُم برِضَاكَ عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المُنْتَجَبين، وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصَّالحِين والشُّهداءِ والمجاهدين.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ:

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

نُبَارِكُ لأبناءِ شعبِنا اليمني المسلم العزيز بهذه المناسبة التاريخية الدينية المقدسة: جُمعة رَجَبَ، هذه المناسبةُ التي نتذكَّرُ فيها صفحةً بيضاءَ ناصعةً من الصفحات المشرقة في تاريخ شعبنا اليمني المسلم العزيز، كما أنها أَيْـضاً من المحطات التاريخية العظيمة والمهمة لشعبنا اليمني العزيز، وترتب عليها التحوُّل التاريخي الكبير في الاتّجاه الإيمَاني العظيم.

في مثلِ هذا اليوم، وصل الإمامُ عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ” إلى صنعاءَ، كان قد وصل يعني قبل ذلك، لكنه اجتمع بالناس في صنعاء، وقرأ عليهم رسالةَ رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” التي يدعو فيها أهل اليمن إلى الإسلام، فبادر الكثيرُ إلى الإسلام، وأعلنوا استجابتَهم بدون تردّد، واستجابوا لهذه الرسالة المباركة، ودخلوا في دين الله أفواجاً، وكانت تلك من المحطات البارزة في إسلام أهل اليمن، وكان المبعوث في هذه المهمة، هو: الإمام عليٌّ “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”، الذي قال عنه الرسولُ “صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”: (أنت مني بمنزلةِ هارون من موسى إلَّا أنه لا نبيَّ بعدي)، بمعنى: أنه اختار لهذه المهمة النبيلة والعظيمة والمقدسة شخصيةً عظيمةً استثنائية، ورَجُلاً عظيماً من رجال الإسلام، هو منه بهذه المنزلة التي أشار إليها في حديثه النبوي الشريف، فكان مبعوثاً خاصاً إلى أهلِ اليمن، بكل ما لذلك من دلالات مهمة ومعبِّرة ومفيدة.

الرسولُ “صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” عندما وصلت إليه رسالة الإمام علي “عَلَيْــهِ السَّلَامُ”، التي تضمَّنت تقريراً مختصراً شرح فيه إقبال أهل اليمن إلى الإسلام، ودخول قبائلهم، -وفي مقدِّمتها: قبيلة همدان الكبرى- في الإسلام، سجد الرسول “صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” لله شكراً، وفرح بذلك، وسُـرَّ سروراً عظيماً.

هذه الذكرى العظيمةُ المهمةُ اخترناها لأَنْ تكونَ مناسبةً مهمةً وأَسَاسيةً لترسيخِ الهُـوِيَّة الإيمَانية لهذا الشعب العظيم، الهُـوِيَّة الإيمَانية التي هي أشرفُ هُـوِيَّةٍ تنتسبُ إليها الشعوبُ والأمم، وتتحلى بها، وتلتزم بها؛ لتبني عليها مسيرةَ حياتها، والتي هي الهُـوِيَّةُ الجامعة، التي يمكن أن يجتمعَ في إطارها كُـلُّ البشر على اختلاف شعوبهم، وأعراقهم، واتّجاهاتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، ومناطقهم، وتنوُّع بلدانهم، على كُـلِّ حال هي الهُـوِيَّة الجامعة التي يمكن للمجتمع البشري أن يجتمع في إطارها، وهُـوِيَّة عظيمة ومقدَّسة وشريفة، هي خير هُـوِيَّة يمكن أن يعتزَّ بها شعبٌ، وأن يفتخرَ بها بلد، وأن تنتسب إليها أُمَّـة، فنحن نبارك لشعبنا العزيز، ونسعى -إن شاء الله- مع كُـلّ الخيِّرين، مع كُـلّ الصالحين، مع كُـلّ المستنيرين بهدى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” لترسيخ هذه الهُـوِيَّة في شعبنا اليمني، الذي يمتاز بأصالته في انتمائه لهذه الهُـوِيَّة، وبمسيرة حياته على أَسَاس من هذه الهُـوِيَّة فيما كان عليه الأخيار والصالحون من أبناء هذا البلد جيلاً بعد جيل، وها هي مسؤوليتنا في هذا الجيل لنرسخ هذه الهُـوِيَّة للأجيال اللاحقة.

عندما نتحدث عن الإيمَان وعن الهُـوِيَّة الإيمَانية فالحديث يطول، الحديث واسع عن هذا الموضوع في القرآن الكريم، ولكننا سنتحدث على ضوء عناوين مختصرة، ونأمل -إن شاء الله- أن تكونَ مفيدة، ويبقى الحديثُ عن هذا الموضوع في إطار التوجيه الديني، والإرشاد الديني، والتعليم الديني، والخطاب الديني، الذي ينبغي أن نركِّزَ عليه في إطار مناهجنا، ومدارسنا، ومساجدنا، وأنشطتنا العامة على المستوى الثقافي، والفكري، والتوعوي، والتعبوي، والتعليمي؛ لأَنَّ المسألة هذه مسألة أَسَاسية بالنسبة لنا كمسلمين.

العنوان الأول: نتحدَّثُ فيه عن أهميّةِ الإيمَان للإنسان، الإيمَانُ ليس عبارةً عن عبءٍ إضافي يضيِّق على هذا الإنسان حياته، ويضيف إليه الكثير من المشاكل في مسيرة حياته، الإيمَان هو حاجة لهذا الإنسان، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” قال في كتابه الكريم آيةً عظيمةً ومهمةً ومباركةً ومفيدة، قال “جَـلَّ شَأنُـهُ”: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل: الآية97]، الحياةُ الطيِّبةُ يُفترَضُ بأي إنسان أن يكونَ تواَّقاً إليها، تكون أمنيَّةً له، وأن يكونَ راغباً في أن تكون حياته حياةً طيِّبة؛ لأَنَّ البديلَ عن الحياة الطيِّبة هو الشقاء، هو الحياة السيئة، الحياة التي يعاني فيها الإنسان من الشقاء والنكد والسوء، فهذا العنوان (الحياة الطيِّبة) يبين لنا أنَّ الإيمَان هو بالنسبة للإنسان حاجة لصلاح حياته، ولتكون حياته حياةً طيِّبة، من منا كإنسان يتجه أَو يفكِّر في أن تكون مسيرة حياته، ويحرص على أن تكون مسيرة حياته إيجابيةً، وصحيحةً، وسليمةً، وطيبةً، وصالحةً، وأن يسعى للنجاة فيها من كُـلّ عوامل الشقاء؟ من منا لا يرغب في ذلك؟! فالإيمَان هو الذي يحقّقُ لك هذه الحياةَ الطيِّبة، هو الذي يمكن من خلاله أن تنالَ هذه الحياة الطيِّبة التي تحتاجُ فيها إلى من؟ إلى واهبِ الحياة، إلى ملكِ السماوات والأرض، إلى الخالق “جَـلَّ شَأنُـهُ”، إلى المنعِمِ العظيم، إلى رَبِّ العالمين، إلى مدبِّرِ الأمر، إلى من له الدنيا والآخرة، ولذلك قال “جَـلَّ شَأنُـهُ”: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، نحتاجُ إلى الله؛ لكي ننالَ هذه الحياة الطيِّبة، نحتاج إلى رعايته الدائمة المستمرة الشاملة الواسعة في كُـلّ شؤون حياتنا؛ لكي ننالَ هذه الحياة الطيِّبة.

كيف يتحقّق من خلال الإيمَان هذا الهدف السامي للإنسان؟ الإيمَان هو صلة يصلنا بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، الإنسان هو مخلوقٌ ضعيف مفتقر، افتقاره هذا هو حالة غريزية يعيشها كغريزة، ويعيشها كشعور، ويعيشها كوجدان، ويعيشها كواقع في حياته، يشعر دائماً بالضعف والحاجة والفقر، يشعر دائماً بحاجته إلى السند الذي يسنده، إلى المعين الذي يعينه، ويحتاج، يشعر بهذه الحاجة أنه بحاجة إلى من يتكفَّل له برزقه، بعونه، بنصره، بتسهيل أموره، بدفع الضر عنه، بكشف الكرب عنه… احتياج شامل، يعيش هذه الحالة كعبدٍ لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وكمخلوقٍ ضعيفٍ مفتقرٍ إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

من أولِ ما يوفره الإيمَان: أنه يجعلُك تعيشُ شعورَ الصلة بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، يصلُك بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، تشعُرُ دائماً أنَّ اللهَ معك، وأنك مع الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، من خلال هذا الشعور تجدُ أنَّ المجال مفتوحٌ بينك وبين الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” للالتجَاء إليه عند كُـلّ كرب، عند كُـلّ شدة، عند كُـلّ محنة، عند كُـلّ تحدٍ، في مواجهة كُـلّ خطر، وبثقةٍ بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وبرجاءٍ وأملٍ في فضله ورحمته وكرمه؛ لأَنَّك تؤمن به أنه ربك، وأنه أرحم الراحمين، وأنه الكريم العظيم، وأنه ذو الفضل الواسع العظيم، وأن بيده الخير كله، وأنه القادر القاهر، الذي يقدر على صرف الشر عنك، وعلى جلب الخير لك، وأنه المنعم العظيم، وما بك من نعمةٍ فمنه، هذا الإيمَان يجعلك تعيش حالة الاطمئنان؛ لأَنَّك في ظل رحمته، وفي كنفه “جَـلَّ شَأنُـهُ”، وترجو دائماً فضلَه ورعايته، أنت لا تشعر أنك لوحدك، وأنك منقطع، أَو أنَّ سندَك في مواجهة التحديات، وظروف الحياة، وشؤونها، وهمومها، ومشاكلها، وتحدياتها، وظروفها الصعبة، أنك بمفردك، أَو تعتمد على سند قد تكون طاقتُه محدودةً، قدراته محدودة، إمْكَاناته محدودة. لا، هذا أولاً.

وهذه الصلةُ لا تعيشُ فيها شعوراً مُجَـرّدَ شعورٍ يخدِّرُك، أَو أملٍ كاذب، أَو رجاءٍ خائب. لا، هذه الصلة بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” هي صلةٌ تصلك برحمته بالفعل، تحظى من خلال الصلة الإيمَانية برحمة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وهو وعد عباده المؤمنين برحمته، برعايته الواسعة والشاملة، التي تعيش كَثيراً من تفاصيلها في واقع حياتك على نحوٍ ملموس، تلمس رحمة الله في قضية، في مشكلة، في همّ، في دفع كرب… في حالات كثيرة من شؤون وظروف حياتك، فلذلك تشعر دائماً بالطمأنينة، وتشعر بأنك في هذه الحياة تواجه أعباء هذه الحياة وتحدياتها وظروفها وأنت مستندٌ إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” العلي العظيم، والرحيم الكريم، والعلي الكبير، هذا جانب من الجوانب الإيمَانية التي تطبع حياتك في هذه الحياة لتكونَ حياةً طيِّبةً تعيش فيها الاطمئنان.

الجانبُ الآخر في إطار المسيرة الإيمَانية، والانتماء الإيمَاني، والصلة الإيمَانية: أنت تتحَرَّكَ وفق توجيهات وتعليمات الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” الحكيمة، التي هي من حكمته ومن رحمته، من منطلق رحمته بعباده، والتي هي تنسجمُ مع الفطرة من جانب، مع فطرتك البشرية، وَأَيْـضاً تتوافق وتنسجمُ مع السنن الكونية التي رسم اللهُ هذه الحياة عليها، فيما يتعلقُ بالأسباب والنتائج، وهذه مسألة مهمة جِـدًّا.

الإنسانُ إذَا انحرف عن خَطِّ الإيمَان، فهو يواجهُ الكثيرَ من المشاكل؛ لأَنَّه يخرُجُ عن الفطرة، يصطدمُ بفطرته النفسية التي فطره اللهُ عليها، فكم في كثيرٍ من تصرفاته المنحرفة، وتوجّـهاته المنحرفة، وسلوكياته المنحرفة، يواجه الكثير من الأتعاب والعقد النفسية، والشقاء النفسي، والآثار النفسية السيئة، التي تجعله يعيش حالةً على المستوى الوجداني والشعوري، وعلى مستوى الإحساس حالةً سلبية، حالةً سلبية تبعده عن الشعور بالاطمئنان: الاطمئنان الصادق، الاطمئنان الطيِّب، تجعله دائماً يعيش في كثيرٍ من حالاته الإحساس بالذنب، الإحساس بالسوء، يفقد -كذلك- كُـلّ الآثار الإيجابية الناتجة عن الاتّجاه الإيمَاني في الانسجام مع الفطرة في شتى شؤون الحياة ومجالات الحياة، في أثرها المعنوي، وفي أثرها الوجداني، وفي أثرها الشعوري.

ثم في واقع الحياة يصطدمُ بكثير من المشاكل، آمال معينة رسمت له بأوهام، يسعى لتحقيقها فلا يصل إليها، مساعٍ نحو السعادة على وهمٍ كاذب، وعلى فهمٍ خاطئ، يجهد نفسه وراءها، ويلهث وراءها فلا يصل إلى نتيجة… وهكذا الكثير من المشاكل والتأثيرات السلبية في واقع الحياة، والهموم المتراكمة في واقع الحياة، والشعور بالخيبة في كثيرٍ من الأمور، بما ترتد عليه بآثار سلبية في واقعه النفسي، فيفقد الشعور بالحياة الطيِّبة.

أولُ متطلبات الحياة الطيِّبة هو الواقع النفسي، كيف تكونُ مسيرتك في هذه الحياة فيما أنت عليه، وفيما تعمله، وفي منطلقاتك العملية، منسجمةً مع فطرتك الإنسانية، وتنمِّي فيك -كذلك- الجانب الإنساني، والقيم الإنسانية، التي تشعرك بالرضا وبالسمو الروحي والأخلاقي، وتمنحك الشعور بالطمأنينة والرضا والقناعة، الجانب النفسي هذا لا بُدَّ له من الإيمَان.

الاتّجاهاتُ الأُخرى، مثلاً: الانهماكُ في المُتَعِ واللذات بالخروج عن الضوابط الإيمَانية له آثارٌ سلبية جِـدًّا على الإنسان في نفسه، وعلى الإنسان في واقع حياته، منشأ الكثير من الجرائم، والبشر يعانون من الجريمة كمشكلة في الحياة، الجريمة من أين تأتي؟ وبماذا تأتي؟ تأتي من خلال الانحراف عن الخط الإيمَاني، الذي يبني هذه الحياة على أَسَاس من الأخلاق والقيم والسمو الروحي، الجرائم في كُـلّ شؤون الحياة: الجرائم على المستوى الأخلاقي، الجرائم على المستوى الأمني، الجرائم على المستوى الاقتصادي، الجرائم على المستوى الاجتماعي… الجرائم في كُـلّ مناحي الحياة، في كُـلّ مجالات الحياة، هي أكبر مشكلة يعاني منها المجتمعُ البشري، وتمثل أكبرَ عاملٍ لإقلاقهم في حياتهم، الواقع الحياتي للبشر ما ينغصه، ما يكدِّره، ما يجلب عليه الشر، ما يفقده الاطمئنان، هو: الجرائم، وآثار الجرائم على المستوى النفسي في واقع البشر، ما تجني به على النفسية البشرية وهي تفقدها مشاعرها الفطرية، تبعدها عن مكارم الأخلاق، تؤثر عليها التأثير السيء، تحول الإنسان إلى عنصرٍ شريرٍ وسيءٍ في هذه الحياة، ثم تكدِّر صفو هذه الحياة في واقع الحياة، تأتي جرائم القتل، جرائم الاغتصاب، جرائم الفواحش والزنا، جرائم النهب والسطو، جرائم… الجرائم بكل أشكالها: جرائم الظلم بكل أشكاله وأنواعه، الجرائم التي تمس الإنسان إما في حياته، إما في عرضه، إما في كرامته، إما في ممتلكاته… في أيِّ شأنٍ من شؤونه، مصدر تلك الجرائم التي تمثل هي المشكلة المزعجة في واقع الحياة، والتي تطبع الواقع البشري بالطابع السيء، وتكدِّر صفو الحياة وظروف المعيشة، منبعها هو الانحراف عن خط الإيمَان، وبما يبنى عليه في مسيرة حياة الإنسان من مبادئ وقيم وأخلاق، وكما قلنا: سمو روحي وأخلاقي.

بينما أفضلُ خيارٍ يختارُه الإنسانُ لمسيرة حياته؛ باعتبَار الحياة الطيِّبة، والمكاسب الحقيقية التي يرجوها لنفسه، والمصالح الحقيقية التي يريدُها لنفسه، هو: الخيار الإيمَاني، الخيار الإيمَاني هو أفضلُ خيارٍ تختاره لتبني مسيرة حياتك عليه وعلى أَسَاسه، هو الأرضية الصلبة المتماسكة التي تبني عليها واقعك ليكون واقعاً صحيحاً يتناسب مع ما يريده الله لك من الخير، وما هيَّأه الله لك في هذه الحياة من عوامل الخير، وعوامل الحياة الطيِّبة والفوز، ثم ما وراء في مستقبلك الأبدي والدائم والكبير في عالم الآخرة.

في هذه الآية المباركة عندما قال اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، يتبيَّن لنا أهميّةُ هذا الإيمَان؛ باعتبَار أنه الذي يتحقّقُ لك به أسمى الغايات، وأعظمَ النتائج، ويقيك أكبرَ الخسارات، أيُّ خيارٍ آخر حتى لو حصَّلت من خلاله مكاسب معينة، فهو في مقابلِ خسائرَ رهيبةٍ وكبيرة جِـدًّا، إلى درجة أننا عندما نقيس المكاسب بالخسائر في أي خيارٍ آخر؛ تطلع تلك المكاسب لا شيء في مقابل الخسائر الكبيرة.

إذا اخترت لنفسك خطاً آخرَ منحرفاً عن الإيمَان، وتجعلُ من حالة الانحراف تلك وسيلةً للحصول على مكاسبَ ماديةٍ مثلاً، وهذا ما يفعلُه الكثير من الناس: في مقابل أن يحصل على أموال كبيرة وإمْكَانات -وقد لا يصل إلى هدفه في ذلك- يمكن أن يقفَ في صف الباطل، يمكن أن يرتكب المعاصي، يمكن أن ينحرفَ عن خط الإيمَان في كثيرٍ من سلوكياته وتصرفاته، يمكن أن يعمل المحرمات، ويقترف المعاصي والذنوب، هدفه من ذلك: أن يجني أهدافاً وفق أهدافه وآماله، مكاسب مادية معينة، أَو مكاسب أُخرى، مثلاً: على مستوى منصب معين يجمع له بين المال والجاه، والسلطة والنفوذ، هو في المقابل إذَا جئنا لنقيس ما كسب، والكثير من الناس يكسبون أشياء ضئيلة جِـدًّا في واقع الأمر، أشياء تافهة جِـدًّا، ولا يصلون حتى إلى مستوى ما يوعدون أَو يمنيهم البعض به، في مقابل أنهم اقترفوا معاصي، أَو جرائم، أَو ذنوب، أَو انحرفوا عن خط الإيمَان بأي شكلٍ من الأشكال، أَو وقفوا في صف الباطل، لكنهم في المقابل خسروا صلتهم بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” بكل ما يترتب عليها، على مستوى الشعور بأنك مع الله، وعلى ما يترتب على ذلك من عطاء الله الواسع، من رعايته الواسعة على المستوى النفسي وفي مسيرة الحياة، خسروا ما كانوا سيحصلون عليه من الله بالحياة الطيِّبة، وبالجزاء العظيم الذي منه الجنة: الحياة الأبدية السعيدة الهانئة، التي فيها أسمى ما يمكن أن تطمح إليه، بل أكبر من مستوى كُـلّ طموح على مستوى النعيم والراحة الأبدية والدائمة، وفي المقابل تورَّطوا إلى أن يسببوا لأنفسهم سخطَ الله، والشقاء في الدنيا بأشكال متنوعة.

قد يأتي الشقاءُ حتى لمن جمع مالاً من الحرام، وهو في مستوى تاجر بشكلٍ أَو بآخر، فلا يسعد بما معه من إمْكَانات مادية، قد يأتي الشقاء لمن هو في منصب وصل إليه بأساليب محرمة، وبمظالم رهيبة، وبوسائل محرمة، فيجد نفسه ليس سعيداً، ولا يعيش الحياة الطيِّبة، وهو في ذلك المنصب قد يكون البعض ملكاً أَو أميراً، قد يكون البعض وزيراً، قد يكون البعض في مستوى معين، لكنه لا يعيش الحياة الطيِّبة، لا يحيى الحياة الطيِّبة، ومستقبله الأبدي مستقبل خسارة أبدية، وخسارة رهيبة جِـدًّا، تلك الخسارة التي أول ما يصل الإنسان إليها، يرى أنما كان قد أمَّل أنه رِبْح، أمَّل فيه أنه خير، أمَّل فيه أنه سعادة، لا شيء في مقابل تلك الخسارة الرهيبة والأبدية، ولهذا يأتي في القرآن الكريم أَيْـضاً في قول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإنسان لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر: 1-3] ما يؤكّـد هذه الحقيقة: الإنسان هو في خُسْر، يعيش فيما يقدِّمه من جهود، ما يعمله من عمل إذَا كان خارج خط الإيمَان، خارج هذا المسار الذي رسمه الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” للربح والفوز والسعادة والحياة الطيِّبة، فهو يشقي نفسه، هو يحمِّل نفسه الأوزار والذنوب، والتي يترتب عليها الخسارة الأبدية، والشقاء الأبدي، والعذاب الشديد والعياذ بالله.

أيضاً يأتي إعلان مهم في القرآن الكريم سطَّر الله به سورةً عظيمةً من سور القرآن الكريم، هي: سورة المؤمنون، هذه السورة المباركة تصدرت بعنوان أَو إعلان عام، إعلان عام، وإعلان مهم جِـدًّا، بعد البسملة يقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون: الآية1]، هذا أتى كإعلان عام وبصيغة مؤكّـدة، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، المفلح في هذه الحياة، الفائز في هذه الحياة، الذي وظَّف في هذه الحياة جهده وسعيه لنيل أسمى الغايات، لضمان الحياة الطيِّبة، لضمان المستقبل الأبدي السعيد الدائم، للوقاية من أكبر الخسارات، للسلامة من الشقاء، للسلامة من العذاب الأبدي، هو المؤمن، المؤمن، فالإيمَان هو الخيار الناجح، والخروج عن خط الإيمَان هو الخسارة، الإيمَان فيما يتحقّق لك به هو حياة طيبة في الدنيا، ومستقبل سعيد أبدي في الآخرة، وسلامةٌ من الشقاء في الدنيا، وسلامةٌ من الخسارة والعذاب الأبدي في الآخرة، فإذاً هو الخيار الناجح، ويفترض بكل إنسان يريد الخير لنفسه أن يتخذ قراره الحاسم، وأن يحدّد خياره الحاسم أَيْـضاً في أن يبني مسيرة حياته على أَسَاس الإيمَان، الإيمَان ليس غبناً، ليس ضيقاً للحياة، ليس حرماناً، سعة الحلال، دائمة الحلال، وما رسمه الله لنا في هذه الحياة لنسير عليه في حياتنا، يحقّق لنا الخير كُـلّ الخير، ويجنبنا الشر والسوء، وكل الأشياء التي آثارها سيئة علينا في أنفسنا، في واقعنا النفسي والشعوري والوجداني، وفي واقع حياتنا على المستوى الشخصي وعلى المستوى المجتمعي، المجتمع الذي يقرّر أن يبني مسيرة حياته على أَسَاس الإيمَان هو ضمن لنفسه بذلك أن يبني حياته على خير أَسَاس، على الأرضية الخصبة للسعادة بكل ما تعنيه الكلمة، أرضية يبنى عليها المحبة، والتعاون: التعاون على البر والتقوى، التعاون على ما فيه الخير والصلاح والفلاح والفوز والسعادة، الواقع الذي تسوده الألفة والانسجام والتعاون، الواقع المعمور بالقيم، بالروحية الطيبة، بالزكاء، بالخير، فهذه الآية المباركة آيةٌ عظيمة تبين لنا ذلك، كما تبين لنا أَيْـضاً من بدايتها أن هذا المجال مفتوحٌ لكل إنسان بدون قيود.

في حياتنا هذه قد تكونُ بعضُ المكاسب المهمة، أَو الأهداف العالية والسامية، أَو الرغبات الكبيرة صعبة المنال، يصعب على الكثير من الناس أن يصلوا إليها، أَو أن تتحقّق لهم، مثلاً: قد يتمنى البعض لنفسه مكاسب مادية معينة، أَنْ يكونَ تاجراً، والقليل من الناس يستطيع أَو يتمكّن من أَنْ يكونَ تاجراً، أَو البعض مثلاً أَنْ يكونَ له جاه معين، أَو أَنْ يكونَ له موهبة معينة، أَو أَنْ يكونَ له مقام معين، أَو… وضعية اجتماعية معينة، فيجد في ظروف هذه الحياة المختلفة الكثير من العوائق التي تحول بينه وبين ذلك، لكن ما هو أسمى من كُـلّ تلك الرغبات والمكاسب والمقامات والمواهب، أعظم من كُـلّ هذه الآمال يمكن أن يحصل عليه أي إنسان كان، لا منطقتك، ولا عرقك، ولا نسبك، ولا وضعك الاجتماعي، ولا وضعك الاقتصادي… ولا أي عائق يمكن أن يمثل عائقاً بينك وبين ذلك، هذه الوجهة التي هي: العمل الصالح والإيمَان التي تنال بها الحياة الطيبة، تنال بها أسمى الغايات، تنال بها أعلى المراتب، تنال بها المقامات العظيمة، تنال بها المنزلة الرفيعة التي تسموا فيها، يكون لك مقامك عند الله فيها، التي تحظى فيها بهذه الرعاية والمنزلة عند الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ليس هناك أي عائقٍ بينك وبين ذلك، المجال مفتوحٌ أمامك، لا يحتاج هذا إلى أَنْ يكونَ لديك إمْكَانات مادية معينة، ولا أَنْ يكونَ لديك هناك شروط أمامك، وعوائق معينة من ظروف هذه الحياة أمامك، المجال مفتوح، وسواءً كان من يريد أن يتوجّـه هذا التوجّـه، أن يحصل على هذا الهدف العظيم والسامي رجلاً أَو امرأة، ذكراً أَو أنثى، بحسب التعبير في هذه الآية المباركة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، (مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى لأَنَّ الإنسان سواءً كان رجلاً (ذكراً) أَو أنثى هو إنسان، الأنثى هي إنسان، والذكر هو إنسان، فالإنسان إذَا أراد أن يتوجّـه هذا التوجّـه -سواءً كان ذكراً أَو أنثى- لن يواجه أي صعوبات أَو عوائق أَو موانع لاعتبار معين من هذه الاعتبارات المتعلقة بظروف هذه الحياة؛ لأَنَّها امرأة لن تعانيَ أَو تواجهَ موانعَ من قبل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، أَو يشترط شروط معينة تتعلق بنسبك، أَو هل هذا ذكر أَو أنثى، أم يمتلك إمْكَانات معينة… أَو غير ذلك، على العموم المجال مفتوح أمام الجميع.

ويحظى الإنسان الذي يتوجّـه هذا التوجّـه بالمعونة من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، بالتجائه إلى الله، باستعانته بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ويجد نفسه في اتّجاه ينسجم فيه مع فطرته، ولذلك الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” جعل طريق الإيمَان هي الطريق اليسرى، اليسرى في أصلها والذي يحظى فيها الإنسان أَيْـضاً بالتيسير من جانب الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” أن ييسره لليسرى، وفيها ما يلبي طموح الإنسان في إنسانيته، قبل مسألة الأهواء والرغبات على المستوى الإنساني، السمو الروحي والأخلاقي، وعلى مستوى الوعي والبصيرة، تسمو بالإنسان، هي طريقٌ تسمو بالإنسان.

الإنسانُ في طريق الإيمَان، في مسيرة الإيمَان واحدٌ من أهمِّ ما يصلُه بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في إيمَانه هو النورُ والهداية والبصيرة، فيكونُ إنساناً مستنيراً واعياً حكيماً راشداً يمتلك الفهم الصحيح، النظرة الصائبة، المعرفة الصحيحة والسليمة؛ لأَنَّ صلة الإيمَان بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” هي صلة تجعل الإنسان يتجه إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” كمصدر للمعرفة والنور والفهم والوعي والبصيرة، فهو يتصل بالمصدر الحقيقي للعلم والمعرفة، للنور والهداية، وهذه مسألة من أهم ما يحتاج إليها الإنسان، الإنسان أول ما يحتاج إليه في هذه الحياة لكي تكون مسيرته العملية مسيرة صحيحة في قراراته، في أعماله، في سلوكياته، في مواقفه، يحتاج إلى معرفة صحيحة، إلى فهم صحيح، يحتاج إلى النور الذي يضيء له الظلمات في هذه الحياة، ولذلك يقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ}[البقرة: من الآية257].

لاحظوا، من خلال هذه الصلة الإيمَانية التي عبَّر عنها بالولاية (وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) يحظون منه برعايةٍ شاملة، في مقدمة رعايته “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” هذه الرعاية: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ)، ويأتي هديه من خلال كتبه ورسله أَيْـضاً في هذا السياق، ليكون هدايةً، ليكون نوراً، ليصنع بصيرةً ووعياً، ليكون رشداً، ليكونَ معرفةً صحيحةً، ليكون مقاييسَ سليمةً وصحيحة، يقولُ اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” عن هدايته للذين آمنوا حتى عند الاختلاف، البشر يختلفون، يختلفون في أشياءَ كثيرةٍ: رؤاهم مختلفة، توجّـهاتهم مختلفة، مواقفهم مختلفة، مساراتهم في هذه الحياة مختلفة، الكثير من المستجدات في حياتهم مختلفة، يختلفون على الدين والدنيا، الذي يحظى به الذين آمنوا (المؤمنون الحقيقيون) أنهم حتى عند حالة الاختلافات والتباينات وتضارب الآراء، وتشتت الاتّجاهات، وتباين المواقف، يحظون برعاية من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” قال عنها: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة: من الآية213]، فالله يهديهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، مهما تشتتت الآراء وتباينت المواقف والاتّجاهات والرؤى والأفكار والثقافات، وتباينت واختلفت، وكثرت وتشتتت، يحظون بهذه الرعاية من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فهم في هذه الحياة راشدون، لديهم المعرفة الصحيحة، الفهم الصحيح، النظرة الصائبة، الرشد الحقيقي، هذا على مستوى الوعي، على درجة عالية من الوعي.

ثم على مستوى الزكاء النفسي والسمو الروحي، وعلى مستوى كذلك السمو الأخلاقي، من أهم ثمار الإيمَان في الإنسان في نفسه هو: السمو الروحي، والسمو الأخلاقي، وزكاء النفس، النفس في فطرتها التي فطرها الله عليها هي تنسجمُ مع مكارم الأخلاق وهي تمجّد مكارمَ الأخلاق، وتعظِّمُ مكارمَ الأخلاق، وهذا أمرٌ يقر به البشرُ في حياتهم وفي شؤونهم؛ ولذلك تجد البشر بمختلف مشاربهم ومآربهم وتوجّـهاتهم، ومهما بلغ بعظهم في إجرامه وسوئه وانحرافه وطغيانه وفساده يرفع دائماً العناوين المعبرة عن الحق، وعن الأخلاق، وعن الخير، ويتهم الآخرين مهما كانوا هم عليه من إيمَان واستقامة وصلاح وزكاء وحق، ومهما كانوا مظلومين يوجّه إليهم أَو يتهمهم بتلك العناوين ويلبسهم إياها؛ ولهذا كان فرعونُ على ما هو عليه من طغيان يقولُ لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر: من الآية29]، يحمل عنوان الهداية يحمل عنوان الهداية إلى سبيل الرشاد، يوجه إلى موسى التهم السيئة والعناوين السيئة، ويظهر مخاوفه من هذا الرجل على قومه، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَو أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرض الْفَسَادَ}[غافر: من الآية26]، لاحظوا كيف يوجه تهمة الفساد إلى من؟ إلى موسى، ويدعي لنفسه أنه يريد أن يهديهم إلى سبيل الرشاد.

الآن واقعُ البشر يعني، حتى مثلاً: الجرائم، أكثر الجرائم يتفق البشر بكلهم: كافرون، ومؤمنون… بكل أديانهم، بكل اتّجاهاتهم يتفقون على أنها جرائم بشكلٍ عام، مبدئياً يتفقون على الكثير من الجرائم أنها جرائم، وعلى الكثير من الأشياء السيئة أنها أشياء سيئة، يتفقون مبدئياً على الكثير أنه يندرج تحت قائمة القبيح أَو الشر أَو السوء، وتحت كثيرٍ من العناوين أنها تندرج تحت عنوان الخير والحق، يختلفون في المصاديق وما تنطبق عليه العناوين، ويشتغلون في عملية التضليل على هذا نفسه.

فالواقع يشهدُ أن الإنسانَ بفطرته ينسجمُ مع مكارم الأخلاق، بل إن الإنسان قد يتأثر جِـدًّا إلى حَــدّ أن يبكي إجلالاً وخشوعاً عندما يسمع أَو يشاهد مشاهد معينة: إما تعبر عن مظلومية، أَو تعبر عن تضحية، أَو تعبر عن مكارم أخلاق، أَو تعبر عن أشياء عظيمة إيجابية في الحياة، يتأثر بها الإنسان، يخشع لذلك، يتفاعل مع ذلك، ينسجم مع ذلك، هذه مسألة معروفة في الواقع البشري، لكن ما يحقّق للإنسان هذا الهدف، ما يمكن أن يرتقي بك فعلياً للسمو الإنساني والقيم الفطرية الإنسانية هو الإيمَان، ولكن وفق المفهوم الصحيح الذي يمكن أن يربيَك تربيةً عاليةً على كُـلّ مكارم الأخلاق، البشر مثلاً يتفقون على أن الصدق من مكارم الأخلاق، أعظم ما يمكن أن يربيك على الصدق هو الإيمَان، أعظم ما يمكن أن يجعلك ملتزماً بالصدق هو الإيمَان، يتفق البشر على أن الصبر من مكارم الأخلاق، أعظم ما يمكن أن يربيك على الصبر هو الإيمَان، أعظم ما يمكن أن يربيك على الالتزام دائماً بالصبر هو الإيمَان، وهكذا بقية مكارم الأخلاق: الشجاعة، التضحية، الكرم، الإحسان، الإيثار… كُـلّ مكارم الأخلاق، العدل، كُـلّ مكارم الأخلاق، كُـلّ الصفات الحسنة والإيجابية، لا شيء كالإيمَان يمكن أن يربيك عليها.

ولذلك كانت تزكيةُ النفوس هدفاً أَسَاسياً في الرسالة الإلهية، إلى درجة أن الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” قال في القرآن الكريم: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إذ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أنفسهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} لاحظوا كيف قال {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[آل عمران: الآية164]، فالتزكية للنفس في تربيتها على مكارم الأخلاق، وفي العمل على تخليصها وتنقيتها من مساوئ الأخلاق، من التصرفات السيئة، من الأشياء السيئة، من التوجّـهات والنزعات السلبية والسيئة، أعظم ما يمكن أن يسهم في ذلك وأهم أرضية تحقّق للإنسان ذلك هو الإيمَان، هكذا نجد أثر الإيمَان العظيم في نفس الإنسان على مستوى وعيه ورشده، فكره، بصيرته، معرفته، فهمه، وعلى مستوى زكاء نفسه، وصلاحه، ومكارم أخلاقه، وتخليصه من الشوائب السيئة جِـدًّا، من التوجّـهات السيئة جِـدًّا، من الرذائل، من المفاسد التي تدنسه، تسيء إليه، تخزيه، تنحط به، تنحط به حتى عن المقام الإنساني، عن المستوى الإنساني، يصبح أشبه بالحيوانات الأُخرى.

ثم عندما نأتي إلى الإيمَان في مسيرة الحياة، أول الثمار التي تتحقّق للإنسان في مسيرة حياته: أن الإيمَان هو الذي يكفل لك -وبشكلٍ حصري- أن تنال الحرية الحقيقية من كُـلّ أشكال الاستعباد لكل العبيد، نحن في هذه الحياة عبيدٌ لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وكل المخلوقات هي ملكٌ لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، والله “جَـلَّ شَأنُـهُ” هو ملك السماوات والأرض ورب العالمين، ورب الخلائق أجمعين، الإنسان في هذه الحياة بين خيارٍ من خيارين: إما أن يذعن لربوبيته لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وهو لا يستطيع أن يخرج عنها في واقع الحال، لكنه يسيء إلى نفسه حينما يعبِّد نفسه لغير الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وهو لا يخرج بذلك عن سلطان الله، ولا عن مملكة الله، لا يزال مصيره بيد الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” وسيعذبه، لكنه هيّأ لك الفرصةَ أن تتجهَ في مسيرة حياتك هذه وفق تعليماته وتوجيهاته، التي هي كلها خيرٌ لك ورحمةٌ بك، وتنسجم مع فطرتك، وتنسجم مع سنن هذه الحياة، ونتائجها كلها خيرٌ لك، أَو أن تنحرف عن ذلك فتكون خاسراً وشقياً، وتتجه بنفسك نحو الشقاء الأبدي والعذاب الدائم والخسارة الأبدية في عالم الآخرة، مع ما تعانيه في واقع هذه الحياة على مستوى واقعك النفسي وواقعك الشخصي، ومسيرة حياتك، وظروف حياتك.

الإنسانُ إذَا أراد الحريةَ لنفسه بالسلامة من كُـلّ أشكال الاستغلال والاستعباد فلا يحقّقُ له ذلك إلا هذا التوجّـه، وإلا فهو يُخضِعُ نفسَه للطاغوت ويشقى ويخسر، الاتّجاهُ الإيمَاني هو الاتّجاهُ الذي يكفل للإنسان الحريةَ الحقيقية؛ ولذلك قال الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُـلّ أُمَّـة رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: من الآية36]، وقال “جَـلَّ شَأنُـهُ”: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفصام لَهَا}[البقرة: من الآية256]، لا يمكن للإنسان أن يسيرَ حُـرًّا حقيقيًّا في هذه الحياة متحرّراً من العبودية للطاغوت إلا بالإيمَان الصادق بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” الذي يربطه ويصله بتعليمات الله، فيبني مسيرة حياته على أَسَاس هذا الإيمَان، يبني مواقفه، تصرفاته، توجّـهاته، على أَسَاس هذا الإيمَان، وفق تعليمات الله وتوجيهات الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، هذا أول ما يكفل لك الحرية ويحقّق لك الحرية، أن تكون متخلصاً من التبعية التي تخضعك للطاغوت، والطاغوت يصلك بالشيطان، بعدوك الرجيم، والشيطان ما الذي يريده منك؟ {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أصحاب السَّعِيرِ}[فاطر: الآية6]، وهذه مسألة مهمة جِـدًّا، مهمة جِـدًّا؛ لأَنَّ البعض عندهم سوء فهم ونظرة سلبية تجاه الإيمَان، ما عدا الإيمَان بمفهومه الصحيح هو يخضعك للطاغوت هنا أَو هناك من طواغيت الأرض، وللاستغلال وللخضوع لغير الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

ثم الإيمَانُ هو -كما قلنا- الأرضيةُ الصلبةُ التي تبني عليها مسيرة حياتك في واقعك العملي، ونعود إلى الآية التي بدأنا بها في حديثنا، وهي قوله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، الثمرة والنتيجة الأَسَاس للإيمَان هي: العمل الصالح، هي تصويب مسيرة حياة الإنسان؛ لأَنَّ مسيرة الإنسان هي مسيرة عمل، الإنسان يعمل في هذه الحياة، وهو في واقعه الحياتي في حالة عمل: إما له، وإما عليه، فالمسيرة الإيمَانية عندما تبني مسيرة حياتك العملية على أَسَاس الإيمَان فاتّجاهك في هذه الحياة سيكون على هذا الأَسَاس (في العمل الصالح)، ويأتي العمل الصالح في كُـلّ مجالات الحياة، ليكون هذا العنوان حاضراً في كُـلّ ميدان من ميادين الحياة.

في الواقع الاجتماعي كُـلّ ما تعمله في علاقاتك الاجتماعية، وأنشطتك الاجتماعية، وروابطك الاجتماعية، وتحَرّكك في هذا الاتّجاه يكون محكوماً بهذا الضابط المهم جِـدًّا والعنوان المهم: (العمل الصالح)، لا تعمل الأشياءَ السيئة، تتجنب الأشياء السيئة، تتجنب الأشياءَ التي تخرج فيها عن ضابط الأخلاق، عن ضابط القيم، تتصرف في ذلك وفق تعليمات الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وتعليماته هي التي تكفل لك أَنْ يكونَ ما فعلته وما تفعله هو الصالح، هو العمل الصالح، السليم من الفساد، السليم من السوء، السليم من الشر، السليم من الخطأ والانحراف عن الأخلاق والقيم والخير.

عندما تتحَرَّكُ في المجال الاقتصادي في أي عمل من الأعمال الاقتصادية، في أي نشاط من الأنشطة الاقتصادية، في أي اهتمام من الاهتمامات الاقتصادية ستتحَرّك في ذلك وفق تعليمات الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” التي تضمن لك أَنْ يكونَ ما تعمله، وما تفعله، وما تتحَرّك فيه، وما تنتجه، وما تشتغل فيه صالحاً وبعملٍ صالح، ليس فيه فساد، ليس فيه سوء، ليس فيه شر، ليس فيه انحراف عن ضوابط القيم والأخلاق.

عندما تتجه في المسار السياسي في هذه الحياة سيكون هذا الإيمَان هو الأَسَاس الذي تنطلق على أَسَاسه، وستكون أعمالك صالحة، اهتماماتك صالحة، نواياك صالحة، توجّـهاتك صالحة، سالمةً من شوائب الفساد، من شوائب الشر، من شوائب الانحراف، من شوائب السوء.

وهكذا نجد أن الإيمَان ثمرته في هذه الحياة هي العمل الصالح، والعمل الصالح في كُـلّ مناحي الحياة، عندما تتحَرّك في الاتّجاه الأمني، في الاتّجاه العسكري… في كُـلّ مجال من مجالات هذه الحياة، فالإيمَان هو ينظم لنا مسيرتنا في هذه الحياة، في أدائنا العملي، ثم في النتائج المترتبة على ذلك لتكون نتائج طيبة، نتائج تصلح بها الحياة، تستقيم بها الحياة، تستقر بها الحياة، وكما قلنا في سابق الكلام وفي بداية الحديث المسارات الأُخرى إنتاجها جرائم، إنتاجها مظالم، إنتاجها مفاسد، الإيمَان إنتاجه عمل صالح ونتائج صالحة سالمة، من المفاسد، من المظالم، من الشوائب هذه السيئة والانحرافات الخطيرة التي تضر بالناس في حياتهم، في استقرارهم، في معيشتهم، في واقعهم الحياتي، لنفهم -في نهاية المطاف- أهميّة الإيمَان في حياة الإنسان، وحاجة الإنسان إليه لينال الحياة الطيبة، حاجة الإنسان إليه في نفسيته، وفي مسيرة حياته، وفي واقع حياته، وفي ظروف حياته، وبما يتحقّق له به من أسمى الغايات في الدنيا وفي الآخرة للمستقبل الأبدي العظيم.

يبقى ماذا؟ يبقى أن نحرص على أن تكون من ضمن اهتماماتنا الرئيسية العناية بالجانب الإيمَاني، الإيمَان هو مسيرة حياة، والمستوى الإيمَاني بالنسبة للإنسان هو مستوى مفتوح، بمعنى: مسار ارتقاء، يعني ليست المسألة أنك ستصل إلى أعلى المراتب الإيمَانية من أول لحظة، وأنك ستصل إلى مستوى عالٍ في الإيمَان، الإيمَان هو درجات، على مستوى الروحية، والوعي، والانضباط، والالتزام، والاستقامة، والتوجّـه، درجات ومراتب، ولكن المجال فيها مفتوح لكل إنسان، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، مجال مفتوح لكل ذكرٍ ولكل أنثى، الإنسان هو يحرص على أن يتجه أن يعمل بجد على أن يرتقي إيمَانياً على مستوى روحيته وأخلاقه، وصلته الإيمَانية بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في محبته لله، في يقينه بالله، في خوفه من عقاب الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، في رجائه لله… إلخ. في التزامه العملي، في استقامته العملية، في واقعه وسموه الأخلاقي والروحي، والأَسَاس الرئيسي والمهم هو الالتزام العملي؛ لأَنَّ الانتماء الإيمَاني هو يفرض علينا كمصداقية لهذا الانتماء أن نلتزم عمليًّا، وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم بالميثاق، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” قال في كتابه الكريم: {وَاذْكُرُوا} يخاطب من؟ الذين آمنوا، {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ، إذ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[المائدة: الآية7]، الالتزام العملي على أَسَاس هذا الانتماء الإيمَاني في السلوكيات والاهتمامات وفي كُـلّ مجالات الحياة، وفي المواقف، وفي النهوض بالمسؤولية، هذا ما لا بدَّ منه لتكون صادقاً في انتمائك الإيمَاني، ثم التوجّـه على هذا الأَسَاس كتوجّـه جماعي، على المستوى الفردي واضح، ثم على المستوى الجماعي (الأمة المؤمنة)، مسيرة الحياة البشرية هي مسيرة جماعية، الإنسان لا يعيش بشكلٍ شخصيٍ ومنفردٍ عن بقية المجتمع من حوله، الحياة البشرية هي حياة اجتماعية مترابطة، ولهذا يأتي الإيمَان لصياغتك على المستوى النفسي والشخصي، ويأتي أَيْـضاً لينظمَك ضمنَ هذه المنظومة المجتمعية، لتكونَ عنصراً خيراً فيها، فلذلك يقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئك سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: الآية71]، فتأتي المسيرة الإيمَانية مسيرة جماعية تجمعك بكل إخوتك الذين لديهم هذا التوجّـه الإيمَاني، ولا تأتي مسيرة انفرادية، تتجه فيها بمفردك بعيدًا عن الآخرين، لماذا؟؛ لأَنَّ هناك ترابط في واقع الحياة البشرية، في واقع المجتمع البشري، ترابط لا بد منه، حياة مترابطة، وفي إطار ذلك هناك مسؤوليات جماعية، مسؤولية لا يمكن أن تنهض بها بمفردك، هي مسؤولية عليك مع إخوتك من المؤمنين وأخواتك من المؤمنين والمؤمنات، ولهذا تأتي الآية المباركة لتؤكّـد هذا التوجّـه المنسجم المترابط الجماعي: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ} في إطار هذا الولاء الإيمَاني الذي يجعلهم أُمَّـة واحدة متآخين، متناصرين، متكاتفين، متظافرة جهودهم في الاتّجاه هذا نفسه المرسوم في هذه الآية المباركة، إخوة متعاونون بكل ما تعنيه الكلمة، {بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فمسيرتهم مسيرة التزام، وفي نفس الوقت مشروع يتحَرّكون على أَسَاسه في مجتمعهم، في الساحة التي يعيشون فيها، في الواقع من حولهم، في إطار مجتمعهم الإنساني والبشري، يتحَرّكون ملتزمين بالمعروف، وآمرين بالمعروف، ولهم ضمن هذا النشاط الواسع، المعروف عنوان واسع يشمل كُـلّ ما أمرنا الله به “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” وأرشدنا إليه، وكلما فيه الخير للبشرية، والصلاح للبشرية، كلما ينسجم مع القيم والأخلاق الفطرية التي فطرنا الله عليها، كلما يندرج في إطار الخير والعدل والإحسان والفضل والصلاح في شؤون الدنيا والدين؛ لأَنَّ الدينُ هو للدنيا، هو للحياة.

{وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، يعملون على تنظيفِ الساحة من المنكر؛ لأَنَّ المنكر سيءٌ، وشر، وخطر، وجرائمُ، وفسادٌ، ومدمِّـرٌ للحياة، فهم يسعون لتنظيف الساحة من المنكر بكل أشكاله وفي كُـلّ المجالات: على المستوى السياسي، على المستوى الاقتصادي، على المستوى الاجتماعي، على كُـلّ المستويات، على المستوى الأخلاقي… إلخ. المنكر أَيْـضاً عنوان واسع يشمل كُـلّ الأشياء السيئة في حياة الناس والتي تؤثر على دينهم ودنياهم.

{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، السمو الروحي، الصلة الروحية بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” المعبر عنها بالصلاة، والتي الصلاة أهم شيء فيها أصلاً، يلحق بها بقية الأشياء، ويؤتون الزكاة، على مستوى العطاء الإنفاق، إخراج الزكاة. {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} كعنوانٍ شامل.

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، قبل ذلك قال: {أُولئك سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وعد برحمة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” التي نحتاج إليها كبشر. {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أكبر ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: الآية72]، وهذه النتيجة أَو الغاية البعيدة رضوان الله الأكبر والجنة التي يعيش فيها الإنسان في سعادة أبدية وحياة سعيدة بلا نهاية، فوز عظيم، ذلك هو الفوز العظيم، هنا المحطة التي تصل إليها في نهاية المطاف عندما تسير في الاتّجاه الإيمَاني: الفوز العظيم بكل ما تعنيه الكلمة.

في مسيرتهم في هذه الحياة يقولُ اللهُ عنهم في إطار تحَرّكهم للنهوض بالمسؤولية: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء: من الآية76]، يقول أَيْـضاً وهو يحكي ما سعى إليه البعض من انتماء إيمَاني وطابع إيمَاني ونسخة إيمَانية مزيَّفة: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإيمَان فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شيئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأموالهِمْ وَأنفسهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئك هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: 14-15]، الأعراب حاولوا أن يقدِّموا نسخةً أُخرى من الإيمَان، يجردون فيها هذه النسخة من النهوض بالمسؤولية، من الجهاد في سبيل الله، من بذل المال والنفس، من التضحية، من مواجهة التحديات، من التحرّر من الطاغوت، وأن تكون ذات طابع روحي أخلاقي وشعائري طقوسي بحت، ولكن ذلك لم يقبل من جانب الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا}، ثم قدم ما يعبر عن حقيقة الإيمَان والمصداقية الحقيقية للانتماء الإيمَاني في قوله “جَـلَّ شَأنُـهُ”: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، (لَمْ يَرْتَابُوا) كانوا على ثقة تامة بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فلم يشكوا ولم يرتابوا بوعده الصادق لهم بالنصر، وبسائر وعوده التي وعدهم بها، ولم يشكوا في موقف الحق، ولم يرتابوا في موقفهم الحق، وفي انتمائهم الحق، وفي مسيرتهم الحق (وَجَاهَدُوا{وَجَاهَدُوا بِأموالهِمْ وَأنفسهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئك هُمُ الصَّادِقُونَ}.

ثم عندما نأتي إلى الثمرة العظيمة لهذا الإيمَان في واقع هذه الحياة كصلة بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، عندما تتحَرّك الأُمَّــة لتنهض بمسؤولياتها الإيمَانية فالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” يقدم الوعود ويطمئن: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}[الحج: من الآية38]، يقول “جَـلَّ شَأنُـهُ” أيضاً: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: من الآية47]، يقول “جَـلَّ شَأنُـهُ”: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: من الآية8]، فليس هناك ما يبرّر للبعص التهرب من المسؤوليات الإيمَانية مما يبتني على هذا الإيمَان من مسؤوليات عملية والتزامات عملية: في أمرٍ بمعروف، في نهيٍ عن منكر، في جهادٍ في سبيل الله، في مواجهة للطاغوت الظالم المستكبر، في التصدي للطغيان والظلم والفساد، ليس هناك ما يبرّر التهرب والتنصل من هذه المسؤولية الإيمَانية.

عندما نتحدث عن المسيرة الإيمَانية في حياة مجتمعنا الإسلامي، نفترض بها أن تكون هي المسيرة الأَسَاس التي نتحَرّك جميعاً؛ مِن أجلِها، نتحَرّك لترسيخها كهُـوِيَّة، نتحَرّك لترسيخ الانتماء إليها، نربي على هذا الأَسَاس، نعلم على هذا الأَسَاس، نتحَرّك عمليًّا على هذا الأَسَاس، فهل يصفوا ذلك في واقع الساحة، في ساحة المجتمع الإسلامي، في واقع الأُمَّــة الإسلامية؟ هل هذا هو السائد، وهل هذا هو التحَرّك الرئيسي أَو التحَرّك الوحيد في الساحة الإسلامية؟ بالطبع لا.

يُفترَضُ -كما قلنا- أَنْ يكونَ هذا هو التحَرُّكُ الرئيسي لمجتمعنا الإسلامي على هذا الأَسَاس، على أَسَاس من انتمائه الإيمَاني وفي هذا الاتّجاه، الساحة الإسلامية تشهد أَيْـضاً، وشهدت على مرَّ التاريخ تحَرّكاً مناوئاً للاتّجاه الإيمَاني في مفهومه الصحيح الذي تحدثنا عن بعضٍ من عناوينه، ومن داخل الساحة الإسلامية نفسها، ومن داخل هذا الانتماء الإيمَاني نفسه، بمعنى: يأتي البعض من ذوي الانتماء الإيمَاني، من الذين يقدمون أنفسهم كمؤمنين من داخل الساحة الإسلامية، من داخل المجتمع المسلم ليكون لهم تحَرّك ينحرف بالأمة عن البناء الإيمَاني، عن المنطلقات الإيمَانية، عن الاتّجاه الإيمَاني، عن العمل الصالح، عن المسار الإيمَاني في كُـلّ مناحي الحياة إلى اتّجاهات أُخرى هي تتناقض أصلاً مع مبادئ الإيمَان، مع قيم الإيمَان، مع أخلاق الإيمَان، مع التعليمات الأَسَاسية، مع الأهداف الأَسَاسية، للإيمَان، مع النتائج والأهداف الرئيسية للإيمَان.

الحركةُ الأُخرى المناوئة هي حركة النفاق، وهذا الموضوع هو من المواضيع التي غيِّبت في الإرشاد الديني، والتعليم الديني، والخطاب الديني، والخطاب التوعوي، ومناهج الأُمَّــة إلى حَــدّ كبير، وعندما تقدم تقدم بشكلٍ ضئيل، وبشكلٍ لا يرقى إلى مستوى الخطر والأهميّة، ولا ينسجمُ مع ما أعطى القرآنُ الكريمُ هذه المسألةَ من مساحة كبيرة، من اهتمام كبير، من تقديم قوي جِـدًّا للمسألة، من تركيز كبير على الموضوع، وهذه آفة من ضمن المشاكل الثقافية الكبيرة في واقع الأُمَّــة، ولذلك كان الوعي ناقصاً وقاصراً تجاه هذا الموضوع.

القرآنُ الكريم يقدمُ المساراتِ المتحَرّكةَ في الساحة الإيمَانية على أن فيها مساراً أصيلاً، سليماً، صحيحاً، ينطلقُ من الانتماء الإيمَاني في مبادئه، في قيمه، في اتّجاهه، وكأُمَّةٍ تبني مسيرة حياتها على هذا الأَسَاس، هم المؤمنون الحقيقيون، ويقدم لنا -في نفس الوقت- الصورة التي تكشف لنا حقيقة الاتّجاه المناوئ الآخر الذي يشكل خطراً كَبيراً على الأُمَّــة في ساحتها الداخلية.

حركةُ النفاق المضادةُ داخل الساحة الإسلامية هي لا تقتصرُ على مُجَـرَّدِ الانحراف عن خَطِّ الإيمَان فحسب، هي تروِّجُ لهذا الانحراف، هي تتحَرَّكُ باتّجاه إبعادِ الأُمَّــة والدفع بالأُمَّةِ بعيدًا عن تلك المبادئ الإيمَانية، والقيم الإيمَانية، والأخلاق الإيمَانية، والتعليمات التي رسمها الله، والمسؤوليات الإيمَانية، والمواقف الإيمَانية، البعض مثلاً في الساحة الإسلامية كمسلم قد يعصي، قد ينحرفُ، وقد يتوبُ، قد يذكر فيتوب ويرجعُ إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، لكن عندما يصلُ الحالُ بالإنسان أن يروّجَ للانحراف، أن يدعوَ إلى الانحراف، أن يدفعَ بالأمة باتّجاه الانحراف: إمَّا عن الإيمَان في مبادئه وأخلاقه وقيمه، أَو عن الإيمَان في المسؤوليات والقيم، في المسؤوليات الإيمَانية، في المواقف الإيمَانية، في الولاء الإيمَاني، في الاتّجاه الإيمَاني، في بناء مسيرة الحياة في شؤونها العامة والمختلفة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، على أَسَاس من هذا الإيمَان، الانحراف عن هذا الاتّجاه هو حركة يتحَرّك فيها المنافقون، ويسعون لذلك، ولذلك يقولُ اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ}[التوبة: من الآية67]، لا يكفيهم أن يتجهوا في المنكر، لا يكفيهم أنهم يقعون على مستوى سلوكياتهم، تصرفاتهم، مواقفهم في المنكر، مواقفهم منكرة سيئة، انحرافاتهم في المواقف، في السلوكيات، في الأعمال، في… لا يكفيهم ذلك، إنما يأمرون {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ}.

{وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}، لا يكتفون بأن ينحرفوا عن المعروف، يكون عندهم: سواءً على المستوى الاقتصادي، السياسي، الاجتماعي، المواقف العامة، المسؤوليات الكبرى، أنهم ينحرفون عن المعروف في مواقفهم، أَو تصرفاتهم، أَو اتّجاهاتهم، لكنهم ينهون، يصدون، يسعون لإبعاد الناس عن المعروف.

{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}، هم يبخلون، يبخلون عن الإنفاق، حَيثُ أمر الله به، عن الإنفاق، حَيثُ أمر الله أن ننفق، حَيثُ أمرنا الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” أن نعطي. {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}، لا ينفقون في موارد الإنفاق ومجالات الإنفاق التي وجه إليها القرآن الكريم، ومشكلتهم هي النسيان لله في حساباتهم ودوافعهم العملية، وفي منطلقاتهم العملية، وفي توجّـهاتهم العملية، لم يحسبوا حسابَ الله، حساباتهم أُخرى، اهتماماتهم أُخرى.

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}[التوبة: 67-68]، ينحرفون في الولاء، تبعيتهم في ولاءاتهم ومواقفهم لأعداء المسلمين، قال عنهم: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أولياء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء: من الآية139]، حركتهم في الساحة الإسلامية فيها خداع، وقد تكون حتى تحت عناوين إيمَانية، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أنفسهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[البقرة: 8-9]، يحكي عنهم أَيْـضاً أنهم عندما ينصحون، عندما يُحذرون لا ينتصحون فيما يتجهون فيه من إفساد في الساحة الإسلامية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأرض قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}[البقرة: 11-12]، فهم يعتبرون أنفسهم مصلحون وحزب إصلاح، ولكنهم كما قال عنهم: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}.

هذه الفئة تشكل خطورة في الساحة الإسلامية، وقلق كبير في الساحة الإسلامية، ومعارضة كبيرة للاتّجاه الإيمَاني الصحيح، وهي تنشط: ثقافيًّا، فكرياً، إعلامياً، سياسيًّا، اجتماعياً، عسكريًّا، أمنيًّا، سيما في هذا الزمن، حضور المنافقين في هذا الزمن في الساحة الإسلامية، نشاطهم الواسع، أصبحوا بشكل أنظمة، حكومات، كثيرٌ منهم، كيانات، كيانات النفاق حاضرة في الساحة الإسلامية تشتغل بكل معاول الهدم لتدمير الهُـوِيَّة الإيمَانية للمجتمع الإسلامي، الذين يتجهون لتزييف الشكل الإيمَاني والحقيقة الإيمَانية، وتقديم صورة أُخرى مزيفة كما هو حال التكفيريين، والذين يتجهون لضرب الهُـوِيَّة الإيمَانية من خلال ضرب الجانب الأخلاقي في هذه الهُـوِيَّة، والالتزام الأخلاقي، ونشر الفحشاء والفساد الأخلاقي، وتمييع المجتمع المسلم، والانحطاط به، وتدنيسه، وابعاده عن الزكاء، وكلا الاتّجاهين هما في حالة تبعية لأعداء الأُمَّــة، لأعداء الأُمَّــة من الكافرين، كُـلّ منهم يعمل لمصلحة أعداء الأُمَّــة الإسلامية، لمصلحة أعدائها من الكافرين، في هذا الزمن لمصلحة الأمريكي والإسرائيلي والغرب، الذين يعملون لتشويه الإسلام، وتدمير الأُمَّــة الإسلامية من الداخل، ونشر البغضاء والكراهية والعداوة بين المؤمنين، وتقديم صورة وحشية إجرامية هم التكفيريون يعملونَ لمصلحة أعداء الأُمَّــة الإسلامية، والذين يسعون لتقويض الأخلاق الإسلامية والقِيَمِ من أبناء مجتمعنا المسلم، ونشر الفحشاء، والرذائل، والمفاسد، والانحلال الأخلاقي، هم يعملون لمصلحة أعداء الأُمَّــة، وكلا الطرفين يتجهان بالأمة نحو النفاق، ونحو التبعية لأعداء الأُمَّــة، ويسعون لإبعاد الأُمَّــة عن الاتّجاه الإيمَاني الصحيح.

في المقابل، نحن معنيون في ترسيخ الهُـوِيَّة الإسلامية في كُـلِّ جوانب هذه الحياة: على المستوى الأخلاقي والقيمي، على مستوى المسؤوليات الإيمَانية، المواقف الإيمَانية، الاتّجاهات الإيمَانية؛ لأَنَّ الإيمَان يبنى عليه منظومة متكاملة من الأخلاق، والتعليمات، والمسؤوليات، والتوجّـهات، تنظم لنا مسيرة حياتنا على هذا الأَسَاس، وهذا ما نحن معنيون به كشعبٍ يمني.

في هذا الزمن نواجهُ الكثيرَ من التحديات والمخاطر، والمخاطر الكبيرة هي تصُبُّ نحونا، وتتجه نحونا، ومصدرُها حركةُ النفاق في هذه الأُمَّــة، سواءً ممن يأتون لاستهدافنا ممن هم محسوبون على هذا البلد وهم موالون لأعدائه… أَو من أي كان، نحن علينا دائماً كشعبٍ يمني أن نتذكَّر قول النبي “صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”: (الإيمَان يمان، والحكمة يمانية)؛ لنعرف أنَّ هُـوِيَّتنا إيمَانية، وأنَّ علينا أن نبني مسيرة حياتنا في كُـلّ مجالاتها على هذا الأَسَاس، بناءً على هذه القيم، بل أن نتجه حضارياً لنبني لنا حضارةً نقدِّم فيها نموذجاً إيمَانياً، ساحتنا الإسلامية بشكلٍ عام هُـوِيَّتها -بانتمائها الإسلامي- هُـوِيَّة إيمَانية، ويجب أن يتوجّـه الجميع لترسيخ هذه الهُـوِيَّة التي هي هُـوِيَّة جامعة، هُـوِيَّة عظيمة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: من الآية10]، تعزز أسمى وأقدس الروابط بين أبناء المجتمع البشري، وتتجه بالجميع في أشرف مسيرة حياة، وأسعد مسيرة حياة، وأسمى مسيرة حياة في الواقع البشري والإنساني.

علينا أن نحاربَ كُـلَّ دعوات الفُرقة، والشتات، والبغضاء، والكراهية، والدمار، والعداء، والنزاعات الداخلية في الساحة الإسلامية، من خلال الدعوة إلى جمع شتات هذه الأُمَّــة على أَسَاس هذه الهُـوِيَّة الجامعة والعظيمة والمقدسة والمشرِّفة، والتي يصلح بها واقع الأُمَّــة، وأن نتصدى لخط النفاق في داخل الأُمَّــة، أن نتصدى له؛ لأَنَّه خط يشكِّل خطورة على الأُمَّــة في واقعها الداخلي، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” قال عن المنافقين: {هُمُ العدوّ فَاحْذَرْهُمْ}[المنافقون: من الآية4]، بهذا التعبير: {فَاحْذَرْهُمْ}، وبَّخ بعض المسلمين الذين يتأثرون بهم، قال: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}[التوبة: من الآية47]، من يتأثر بالمنافق، يسمع له، يتأثر بخداعه، بعناوينه التي يرفعها، لأنشطته التخريبية في الساحة، لأنشطته العدائية في الساحة، هو محط توبيخ، وبَّخه الله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، النظرة إليهم يجب أن تكون نظرةً قرآنية، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” قدَّم عنهم الصورة الحقيقية لهم، حتى الوعيد توعدهم بأشد العذاب، قال “جَـلَّ شَأنُـهُ”: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء: الآية145].

نحن كشعبٍ يمني -وما نأمله لأمتنا الإسلامية كافة- في مسيرة حياتنا، في مواقفنا، في سعينا للخلاص من التبعية لأمريكا وإسرائيل، في هذا الزمن التي تعتبر فيه هذه مشكلة رئيسية في ساحتنا الإسلامية، وتهديدها يطال انتماءنا الإيمَاني، ويتجه صوب انتمائنا الإيمَاني بالمفهوم الصحيح؛ لأَنَّ التبعية لأمريكا وإسرائيل لا يمكن أن تكون إلَّا في حالة نفاق، لا تنسجم أبداً مع الانتماء الإيمَاني، لا يمكن أن تتحقّق مع المصداقية في الانتماء الإيمَاني، هي انسلاخ عن مبادئ الإيمَان، وقيم الإيمَان، ولمصلحة من؟ لمصلحة من يستهدف هذه الأُمَّــة، من يعادي هذه الأُمَّــة، من يتآمر على هذه الأُمَّــة، من هو عدوٌ حقيقيٌ لهذه الأُمَّــة.

إسرائيلُ مهما قال المطبِّعون الموالون لها، مهما برّروا ولاءَهم للعدو الإسرائيلي، فكلها تبريرات زائفة مخادعة، نظرته حتى إليهم هي نظرة احتقار، العدوّ الإسرائيلي ينطبق على واقعه ما قاله الله عن أسلافه: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}[آل عمران: من الآية119]، هم لا يحبون حتى من يحبهم، من يواليهم من المنافقين هم لا يحبونه، وليس له عندهم أي قيمة ولا مقدار، هم يجعلونه وسيلةً يستغلونه في واقعه وضد أبناء أمته، وهذا ما عليه حال بعض الأنظمة، ما عليه حال النظام السعودي، النظام الإماراتي، الأنظمة التي طوَّعت نفسها، وجعلت من نفسها أدَاة لخدمة أعداء الأُمَّــة في الداخل الإسلامي، في مؤامراتهم، في تنفيذ مخطّطاتهم، في الاستهداف لهذه الأُمَّــة.

العدوان على شعبنا اليمني هو أتى في هذا السياق: استهداف هذا الشعب؛ لأَنَّه شعبٌ أراد التحرّر، أراد أَنْ يكونَ متخلِّصاً من التبعية لأعداء الأُمَّــة، أراد أن يتحرّر مما أسموه هم رسميًّا بالوصاية، كان هناك وصاية معلنة على هذا الشعب، في بعض الحالات تستعمر بعض الشعوب لكن بأساليب مخادعة، وبصورة غير معلنة، تستعمر بشكل سياسي، بشكل عملي، بأُسلُـوب معين، تنفذ فيها الهيمنة الأمريكية -تتحكم بالسياسات والمواقف- إلى الداخل، ينفذ إليها الإسرائيلي ويتحكم بالسياسات والمواقف من الداخل. أمَّا عندنا في اليمن فما قبل ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر، كان هناك وصاية خارجية على رأسها أمريكا، وأمريكا وإسرائيل وجهان لعملة واحدة، وجهان لعملة واحدة، أمريكا هي، حَيثُ تكون إسرائيل، هي تضمن مصالح إسرائيل، هي تعمل لمصلحة إسرائيل، في أولوية أولوياتها: تمكين إسرائيل في المنطقة، السيطرة الإسرائيلية في المنطقة، التفوق الإسرائيلي في المنطقة، أن تكون إسرائيل هي الذي يقود هذا المجتمع الذي يطلقون عليه عبارة: الشرق الأوسط، كان هناك وصاية معلنة على هذا الشعب، وصاية شاملة، ووصاية سيئة، الأوصياء فيها ليسوا من ذوي الرحمة بهذا الشعب، والله لا الأمريكي ولا الإسرائيلي ولا غيرهم من أُولئك الأوصياء يمكن أن نقول عنهم أنهم رحماء أَو أمناء في وصايتهم على هذا الشعب.

مسألة أَنْ يكونَ هناك وصاية خارجية على هذا الشعب، هي بحد ذاتها تقدِّم صورة سيئة جِـدًّا عن هذا الشعب، هي احتقار، هي امتهان لهذا الشعب، هي استغلال، هي استعباد، هي إهانة، هي إهانة، والذين رضوا بتلك الوصاية، وروَّجوا لها، ومكَّنوّها، ثم وقفوا معها عندما اتجه شعبنا اليمني ليرفض هذه الوصاية، وهذا الاستعباد، وهذا الشكل من أشكال السيطرة التامة عليه، اتجهوا هم مع الخارجي، اليمن ثار ليتحرّر من هذه الوصاية، بعد تحرّره من هذه الوصاية وثورته هذه، اتجه الآخرون بعدوان عليه، وقف البعض ممن أيَّدوا تلك الوصاية، واتجهوا لتمكينها في هذا البلد على هذا الشعب، ليحاربوا مع الأجنبي، ولذلك حربنا منذ بداية العدوان وإلى اليوم هي حرب دفاع في مواجهة معتدين، حربهم علينا كانت في ذلك السياق الذي أرادوا فيه أن يكونوا مسيطرين علينا، وأن يكونوا متحكمين بنا، وأن يكونوا متغلِّبين علينا، ومستحوذين علينا، ومتحكمين بنا في مسيرة حياتنا.

نحن شعبٌ هُـوِيَّته إيمَانية، نحن شعبٌ نريد أن نبني مسيرة حياتنا على هذا الأَسَاس، بناءً على هذا الانتماء الإيمَاني، ونريد أن نتحرّر من الهيمنة الأمريكية، ومن هيمنة أدوات أمريكا، لا نريد أن نكون تحت الوصاية السعودية، ولا تحت الوصاية الإماراتية… ولا تحت وصاية أي بلد خارجي، ولا تحت وصاية الأمريكي والإسرائيلي ولا وصاية من يواليهم، نحن أحرار، نحن شعبٌ هُـوِيَّته الإيمَانية تفرض عليه وفق انتمائه الإيمَاني أَنْ يكونَ شعباً حراً، يسعى لتحقيق الاستقلال بناءً على هذا الانتماء، يسعى لبناء حضارته بناءً على هذا الانتماء، يسعى لأَنْ يكونَ متحرّراً حتى في ثقافته، حتى في نمط حياته، لا يعيش حالة التبعية العمياء التي تبعده عن القيم والأخلاق القرآنية والإيمَانية. فمشكلتنا اليوم في التصدي لهذا العدوان، في أعدائنا في التحالف، هي حرب معهم؛ لعدوانهم علينا في سعيهم على الاستمرار في السيطرة والوصاية علينا.

ثم عندما نخوضُ هذه المعركة في أية محافظة من المحافظات التي قاموا باحتلالها، نحن نخوضُها في هذا السياق، معركتنا في مأرب، أَو معركتنا في الجوف، أَو معركتنا في تعز، أَو معركتنا في البيضاء أَو معركتنا في شبوة… أَو معركتنا في أية محافظة من المحافظات، معركتنا التي جرت في الساحل، في الحدود… في كُـلّ الاتّجاهات، هي تَصَـدٍّ لهذا المعتدي الذي حارب شعبنا؛ لأَنَّه يريدُ السيطرة عليه، والوصاية عليه، ليس لدينا مشكلة كشعب يمني في معركتنا في مأرب، أَو في معركتنا في أي محافظة مع أبناء المحافظة، أبناء المحافظة هم جزءٌ من هذا الشعب، هم جزءٌ من هذه الهُـوِيَّة، الذي ينحرف منهم ويلتحق بالأجنبي، كما فعله البعض في مأرب وليس الكل، أكثر أهل مأرب هم شرفاء، وهم أحرار، وهم ضمن هذا النسيج المجتمعي، يحسون بانتمائهم إلى هذا الشعب، إلى هذه الهُـوِيَّة الإيمَانية، قلة قليلة منهم التحقوا بصف العدوان، يقاتلون تحت إمرة ضابط سعودي يقودهم، يحاولون أن تبقى السيطرةُ السعوديةُ تحت الإدارة الأمريكية، في إطار الولاء لإسرائيل، والتطبيع مع إسرائيل، مسيطرة على تلك المحافظة، كما هو حال أي مناطق أُخرى يسيطر عليها العدوّ اليوم.

بينما الواقعُ في بقية المحافظات المتحرّرة -والحرة والتي لم يتمكّن أَيْـضاً الأعداء من احتلالها- يشهدُ أن الجوَّ الذي يعيشُه أبناء هذا الشعب هو جو أخوي، تربطهم هذه الهُـوِيَّة الإيمَانية الجامعة بأسمى وأقدس الروابط، هم يتجهون كشعب موحد، له موقف واحد، توجّـه واحد، هدف واحد: صد هذا العدوان، ضمان الحرية والاستقلال، والعيش بكرامة، رفض هذه الوصاية الخارجية، وهذه الهيمنة والسيطرة من جانب أعداء هذا البلد المتآمرين على هذا البلد، الذين لهم أطماع تدفعهم إلى السيطرة على هذا البلد، وأهداف وأجندة خطيرة ومدمّـرة على هذا البلد.

الاتّجاهُ التكفيري هو اتّجاهٌ خرج وانسلخ عن هُـوِيَّة هذا الشعب الإيمَاني، ولا يؤمنُ بالأصالة الإيمَانية لهذا البلد، فيما الرسول “صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” يقول: (الإيمَان يمان، والحكمة يمانية)، وفيما لهذا الشعب امتداده الأصيل الإيمَاني عبر مسار التاريخ وُصُـولاً إلى رسول الله “صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ”، ينظر البعض إلى هذا التاريخ الإيمَاني بكله والامتداد الإيمَاني بكله نظرة سلبية تكفيرية، ويعتبر أبناء هذا البلد كفَّار، إلَّا من يلتحق بالمذهب الوهَّـابي التكفيري النجدي، ويتناسون ما قال الرسول “صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِـهِ” عن قرن الشيطان، عن أين موطن قرن الشيطان، أين ينطلق قرن الشيطان، أين منبع الفتنة، هم يعتبرون أنه فقط من له ولاء لقرن الشيطان، من له ولاء تكفيري، من له ولا وهَّـابي هو مؤمن، ويكفِّرون بقية أبناء هذا البلد.

إنَّ أبناءَ هذا البلد، الأحرارَ منهم، الغيورين، الواعين، الذين يتجهون ضمن هذه الهُـوِيَّة الإيمَانية الجامعة من مختلف المناطق، ومختلف القبائل، ومختلف المذاهب، إخوة اليوم، يتجهون اتّجاهاً واحداً، وحُضن هذه الهُـوِيَّة الجامعة مفتوحٌ لكل أبناء هذا البلد في كُـلّ المحافظات، ليس هناك استهدافٌ لأحد، بل إنَّ كُـلّ العمليات العسكرية في كُـلّ المسارات التي نتصدى بها لعدوانٍ بدأ هو علينا، واحتل أرضنا، وأتى لارتكاب أبشع الجرائم بحق شعبنا من مختلف المحافظات، وعلم بها كُـلّ العالم، وهي محط اجماع عند كُـلّ العالم، بأنها جرائم مروِّعة لم يعد لها مثيل في هذه المرحلة. نحن نقولُ للجميع: موقفُنا هو التصدي لهذا العدوان، أيدينا ممدودةٌ لكل أبناء شعبنا، نحن نريد الخير لكل أبناء شعبنا، ولكل أبناء أمتنا، نحن نتمنى للجميع أن تتعزز الروابط الأخوية بناءً على هذه الهُـوِيَّة الإيمَانية الجامعة، التي تجعلنا أَيْـضاً دائماً وأبداً ثابتين ومستمرين ومؤكّـدين في كُـلّ مرحلة وفي كُـلّ مناسبة تمسكنا بقضايا أمتنا الكبرى، في مقدِّمتها: القضية الفلسطينية، وقوفنا إلى جانب الشعب الفلسطيني، تمسكنا بالأُخوَّة الإسلامية بين المسلمين، موقفنا المبدئي من الهيمنة الأمريكية والتصدي لها، والسياسات العدائية للولايات المتحدة الأمريكية ضد أمتنا، موقفنا مع كُـلّ المظلومين من أبناء أمتنا انطلاقاً من هذه الهُـوِيَّة الإيمَانية الجامعة، والتي تنسجم مع الفِطرة البشرية والإنسانية.

نحنُ في ختامِ هذه الكلمة ندعو شعبَنا العزيزَ للاستمرار في التصدي للعدوان انطلاقاً من هذا الواجب الإيمَاني والأخلاقي والإنساني والوطني، والتحَرُّك الجاد بناءً على هذا الأَسَاس، كما ندعو تحالُفَ العدوان إلى وقفِ عدوانه ورفعِ حصاره؛ لأَنَّ المشكلةَ تتمثل بعدوانه ابتداءً علينا، واستمراريته في هذا العدوان، وحصاره غير المشروع الذي يعذِّب به أبناء هذا البلد في كُـلّ معيشتهم وشؤون حياتهم، واستمراره في هذا الحصار، هنا المشكلة، موقفنا موقف حق، موقف عدل، موقف إنساني، موقف مشروع بكل الاعتبارات: الدينية، والإنسانية، والأخلاقية، والعرفية، وبحسب القانون الدولي… وبكل الاعتبارات المعترَفِ بها في المجتمعات البشرية.

نَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يوفِّقنا وإياكم لما يُرْضِيْهِ عَنَّا، وَأَنْ يرحَمَ شهداءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ ينصُرَنا بنصره، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ.

نُنَوِّهُ في آخرِ الكَلِمَةِ إلى أنَّ هناك محاضَرَةً ممتازةً ومُفيدةً جداً بعنوان الهُوِيَّة الإيمانية للسيد حسين بدر الدين الحوثي “رِضْوَانُ الله تَعَالَى عليه”، مطبوعة في ملزمة أيضاً، وهي مفيدةٌ، يمكن للإنسان أن يستفيدَ منها فيما يتعلَّقُ بالجانب الإيماني والهُوِيَّة الإيمانية.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com