الجغرافيا وتبريرُ التدخلات الخارجية

 

أنس القاضي

في العام 2015م صدر كتابٌ جديدٌ للمؤلف والصحفي الأمريكي «روبوت كابلان» أسماه “انتقام الجغرافيا”، وهوَ كتابٌ رجعي يعكس الفلسفةَ العدوانية الأمريكية في علوم الاجتماع.

وضع المؤلف لانتقام الجغرافيا عنوانا تفصيليا هو: ماذا تخبرنا الخرائطُ عن الصراعات القادمة والمعركة مع القدر؟.

يطرح المؤلف تساؤلاً مفتاحياً لكتابه، مفادُ هذا السؤال: هل يمكن أن تتوطنَ وتنضجَ الديمقراطية في البلدان النامية في دول القارة الإفريقية والشرق الأوسط، على غرار أُورُوبا؟ أم أن هناك تحدياً جغرافياً يُعيقُها؟

بعد طرحِ هذا السؤال، يقومُ المؤلفُ الأمريكي بتقديم إجاباتٍ عبارة عن قناعات مسبقة، يخون فيها العلم والإنسانية.

كان كابلان أحد أعضاء الجهاز الاستشاري للإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بوش الابن، الأمر الذي يجعل إجاباته انعكاساً لسياسات النظام الأمريكي، لا مخرجات بحث علمي.

إن أخطر ما في كتاب “انتقام الجغرافيا” هو التوجّـه الرجعي والنزعة الاستعمارية التي تنضحُ من بين السطور، يبرّر الكاتب هذه النزعة العدوانية استناداً على عامل الجغرافيا، بقوله:

“تمثل الخرائط دحضاً للمفاهيم نفسها المتعلقة بمساواة ووحدة الجنس البشري؛ لأَنَّها تذكرنا بجميع البيئات المختلفة للأرض”.

في المقولة السابقة للمؤلف، تصريح بسيادة قانون الغاب ونظرية البقاء للأفضل، فالمؤلف ينقل القوانين الطبيعية السارية في عالم الحيوان إلى العلوم الإنسانية؛ مِن أجلِ تبرير الغزو والعدوان الأجنبي، التي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية.

ويعد كتاب انتقام الجغرافيا، امتدادا للأفكار العنصرية الإنجلوساكسونية وللأفكار الصهيونية، هذه الأفكار التي تقسم الشعوب إلى درجات متفاوتة، فتبيحُ استغلالَ إنسان لإنسان وأمة لأمة.

يزعم المؤلفُ الأمريكي بأن الحداثة والإنسانية حكراً على جغرافيا أُورُوبا الوسطى وأمريكا وبريطانيا، بناءً على هذه المزاعم الرجعية فَـإنَّ التخلُّفَ والاستبدادَ هو قدرُ شعوب إفريقيا وآسيا ودول البلقان، والجزر الكورية، ودول الخليج الكاريبي في أمريكا اللاتينية.

يمهد المؤلف بهذه التعميمات الرجعيةِ للوصول إلى تبرير التدخلات الغربية العدوانية ضد هذه الدول، فيما يجري تصوير هذه التدخلات الاستعمارية بأنها تدخلات إنسانية، يقوم بها الغرب الإنساني في الشرق المتوحش.

يقول المؤَلف مفاخراً:

“كنت من مؤيدي الحرب في العراق، سواءً في الصحافة المطبوعة أَو كجزء من المجموعة التي حثت إدارة بوش على شن الغزو”.

وعلى شاكلة التدخل العدواني في دول البلقان والعراق، فالعدوان على اليمن يُعدُّ امتداداً لهذه التدخلات الأمريكية المُقنعة بالإنسانية. المُلاحَظُ في كتاب انتقام الجغرافيا أن المؤلف الأمريكي بالَغَ في احتساب المخاطر اليمنية على السعودية من منطق الحتمية الجغرافية، وكأنه يُقدم تبريرات للعدوان السعودي قبل حدوثه.

يقول المؤلف:

“خلاصة القول أنهُ في شبه الجزيرة العربية يبقى في جنوب غرب البلاد ذو الكثافة السكانية العالية هوَ المنطقة التي تكون المملكة العربية السعودية فيها غير حصينة بالفعل، فمن هنا تتفق الأسلحة، والمتفجرات، والمخدرات، وأوراق القات، عبر الحدود اليمنية. إن مستقبل اليمن المزدحم بسكانه وذوي الطبيعة القبلية سيمارس دوراً كَبيراً في تحديد مستقبل المملكة العربية السعودية، وربما كانَ ذلك متعلِّقاً بالجغرافيا أكثر مما يتعلق بالأفكار”.

يقع المؤلفُ في أخطاء فادحة من الناحية العلمية، بربط ظواهر اجتماعية سياسية منشأها التقدم الإنساني كالديمقراطية بالجغرافيا، حَيثُ يقول المؤلف:

“إن أمريكا وبريطانيا لم يمكنهما امتلاك زمام الريادة في مجال الحريات إلا لأَنَّ البحر حماهما من أعداء الحرية الملتصقين بالأرض”.

يُشدّد المؤلفُ الأمريكي في كتابه على عامل الجغرافيا؛ لأَنَّ هذا العامل لا يُمكن تغييره، ونتيجة هذه المزاعم فالولايات المتحدة الأمريكية والدول الأُورُوبية، ستظل بلداناً ديمقراطية؛ لأَنَّ جغرافيتها تجعل منهم ديمقراطيين، فيما بلدان الشرق وبلدان العالم الإسلامي تجعل جغرافيتها منها دولاً استبدادية متخلفة.

يحيل المؤلف كُـلّ تقدم إنساني إلى عامل الجغرافيا، فيصور شعوب الشَرق بأنها شعوب تحمل جينات متخلفة وبأنهم أنصاف وحوش، فيما يحصر صفة الإنسانية على العالم الغربي، ويتجاهل المؤلف حقيقة أن القيم الإنسانية، التي تنادي بها الأمم المتحدة اليوم، يتجاهل أنها موجودة في التجربة الإسلامية كوثيقة المدينة المنورة وعهد الإمام علي لمالك الأشتر، وهي وثائقُ إنسانية راقية في العلاقات الإنسانية أشرقت من نور الرسالة المحمدية في الجزيرة العربية، ولم يكن منشأها أُورُوبا الوسطى!

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com