ازدواج موقف المرتزِقة والتباس المفهوم

 

عبد الرحمن مراد

جدلية الصراع تخلق لنفسها منظومة ثقافية بديلة، وبها ومن خلالها يحدث الالتباس،  وعلى ذلك دلت شواهد التاريخ من دم عثمان إلى نقطة الانحراف في المسار في زمن معاوية.

والالتباس قضية شائكة لا ينتج عنها إلّا ضيق الأفق، وضبابية الموقف وازدواجية النظرية والفعل، والوقوع في الوهم وهو القضية الأخطر؛ لأَنَّه يعمد إلى ملء الفراغات بقيم نقيضة تعمل على إخلال المنظومة القيمية وتفسد الثقافات ولا تتورع عن ليِّ عنق النصوص المقدسة للقيام بأفعال التبرير.. وقد رأينا في واقعنا ما أنتجه فقه الواقع وما أنتجه فقه الثورات، وكيف تفاعل القرضاوي مع قضايا الموت وسفك الدم وكيف أباح استخدام المال المشبوه لتلك الغاية في سوريا، مع أن علة التحريم في مسألة الخروج على الحاكم في مرجعيات أهل السنة هي حرمة الدم المسلم الذي يُراق، ولم نستبنْ من فتوى القرضاوي عِلل الخروج ولا مقاصد ذلك الدم الذي يسفك ولم نسمع إلا كلاماً إنشائياً خالياً من التبرير الشرعي والتبرير المنطقي، وهو الأمر الذي يجعلنا نسبح في فلك التيه، وندور في أبراج الوهم التي وصلنا إليها بحكم التضخم الذي أصاب الشخصية المحورية زمن الربيع العربي، إذ أخذتها العزة بالوهم فرفرفت فوق واقعها ولم تدرك حقيقة واقعها أَو جوهره وموقعها منه.

يقول المفكرون, إن توزيع نظام القيم يتصل بالسلطة بأشكالها المتعددة الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية، وسوء ممارسة السلطة يطور دائماً قيماً سلبية، تجد من يسعى لانتهاكها.. انطلاقاً من رؤيةٍ ما أَو منظور معين، وهنا تتقاطع وجهات نظر الفاعلين، هذا التقاطع هو الذي يشكل باستقطاباته النسيج الدلالي.

الأمر الذي يجعل من قضية الالتباس قضية احتيال في مستوى يمكن التفكير فيه، فحقل الاحتمالات الدلالية المتشعب عنها يفصح عن قصور وعجز في التفسير والتأويل وتحديد المآلات، وهنا ينشأ -كما يقول المفكرون- نوع من التضاد الذي يتعمق كلما استمر سوء الفهم، فالذين يمارسون ازدواجاً ظاهراً في شلالات الإيحاءات هم أكثر حرصاً على إرسال رسائل مشبعة بالرموز والقرائن يهدفون من خلالها إلى تحقيق غايات ومقاصد في نفوسهم، والوقوف أمام تلك الإيحاءات والقيام بتنضيدها والتأمل فيها يجعلها قابلة للفهم في كونها اتّجاهاً لا ينتج عنها إلّا قيم سلبية وقاتلة.. ولعل الحرب التي نتفاعل مع قراءتها ورموزها والتي تحدث في بقاع متناثرة من اليمن، تجعلنا نقف حائرين أمام شلالات إيحاءاتها،  وازدواج الموقف السياسي منها.

القضية هنا شائكة؛ لأنَّ الازدواج بين الفعل السياسي والمبادئ العامة للدين في بعديها الروحي والأخلاقي يصبح تفكيكاً للمنظومة القيمية وهدماً للدين في كلياته ورمزياته، ونماذج مثل ذلك قائمة في فضائيات مرتزِقة العدوان وهم يسعون جاهدين في خطابهم الإعلامي والسياسي على إسقاط بعض المفاهيم العقائدية على الفعل السياسي والحالة السياسية، وهم يحرصون على إباحة الدم وتجاوز محدّداته الشرعية… وثمة قضايا كثيرة، تحضر في الإعلام الموجه التابع للعدوان وفي إعلام المرتزِقة أنفسهم كما تحضر عند المتلقّي للحدث والمتفاعل معه، الأمر الذي أفضى ويفضي إلى الوصول إلى حالة اللامعيارية، ومثل ذلك يعمل على تشويه صورة المجتمع في المستقبل المنظور.

وحالة اللامعيارية عند علماء الاجتماع- لمن لا يعرف ذلك- هي انعدام القانون وفقدان القدرة على الانضباط وانعدام الشكل والنماذج وانعدام الأخلاق، وهذا المفهوم أصبح حالة اجتماعية وسياسية نشعر بها في واقعنا، وقد عاش مجتمعنا الكثير من تفاصيلها في المناطق المحتلّة كتعز وعدن وأبين ومارب وما يزال، ولا يصر على عدم الاعتراف بها إلاّ مكابر، ومفهوم اللامعيارية أفضى بالضرورة إلى شعور الناس بالاغتراب وفق مفهومه الاجتماعي فالاغتراب هو الشعور القاسي بفقدان القوة ولذلك نراهم اليوم يتظاهرون في تعز تحت شعار ثورة الجائعين كمعادل موضوعي للتوازن النفسي بعد فقدانهم للقوة وعجزهم في امتلاك زمام أمرهم.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com