بَــــوحٌ للشهداء

 

أشواق مهدي دومان

تغمرُني مشاعرُ الرّضا وَأبلغ مدارج الكمال البشري، وَإن كنت الناقصة التي لن تطاولَ أُولئك العظماء، لكن عند الحديث عنهم، عند نسج حكاياهم وَقصصهم مع التسليم الفكري وَالعاطفي المطلق لله وَالذي يتبعه تسليمهم للروح في سبيله، فهنا وَهنا فقط أشعر بأني أسمو وَأسمو وَأرتفع حتى أغيب عن عالم المشاهدة الدّنيوية إلى عوالم للروح التي ربّما وَمهما حاولت الاطلاعَ عليها فهي خَاصَّة بعالم الشّهداء.

نعم: وَحدَهم من يشهدون عوالمَ غيبية تتفتح لهم معانيها، وَلعلَّ ربَّ العالمين أسمى واحدهم شهيداً وَجمعهم شهداء لفتحه وَمنحه لهم أن يشهدوا وَيشاهدوا عوالم غيبية له بينما لا يمنح سواهم إيّاها، وهنا لا أملك وَلا أعرف عنها إلّا أنّها مفاهيم تأخذني وَتعرج بروحي لجنات لا أرتضي منها إلّا أعلى منازلها وَأساميها وَهي جنّاتُ الفردوس الأعلى.

فقط مع الشّهداء تغلبني دمعات تطفح في كياني وَتفيض من وجداني وَأعماقي، فكأنّها بحر انتابه المدُّ فجرف ما أمامه، هكذا أحيا بين شعورين في وحدة وَتآلف، هو شعور الكبرياء لكنّه مصحوب بصوت كهزيم الرّعد ترتجف له روحي فقداناً لأسمى من خلق الله حين يحيا بيننا أُولئك الأحياء، وَلا ندري بأنهم أحياء إلّا حين تعلن السّماء استقبالهم وَانتشالهم من عالمنا عالم الأموات، حين تقرب منهم وَتهمس إليهم بأنكم ممّن لا خوف عليكم وَلا أنتم تحزنون؛ فلهذا نراهم يمضون مضاء السّيف المسلول من غمده ليقاتل أعداء الله، نراهم لا يبالون بدنيانا الفانية بل وَلا ينظرون للوراء حين يتقدّمون حتّى نقف أمام إرادتهم مكتوفي الأيدي لا نملك من أمرنا شيئاً سوى أن يرحمَ اللهُ قلوبنا وَيعطف علينا بأن يعيدهم منتصرين لا شهداء، ليس حسداً وَلا غيرة حين يُمنحون وسام الشهادة في سبيل الله وَيرقّيهم ربُّ العالمين إلى شهداء مع مراتب الشّرف، وَكأنّ أحدهم يرقى إلى رتبة فريق أَو لواء، وَلكنهم أسمى وَأرقى وَأعلى.

هكذا أفتخر بهم وَهكذا أطمئن لمقامهم عند ربّ العالمين، لكني لا أخفي ألم وَحنين فقدي لهم عرفتهم أم لم أعرفهم، كانوا من أهلي أم من دون ذلك، لكنها آهات الحزن تعصف بي بما لا أسطيع ترجمته وَالإتيان بأسبابه.

نعم.. أبكي كُـلَّ شهيد، وَنعم لا شيء في هذا العالم يهزّ روحي وَيزلزل أركانها كخبر استشهاد أحد أُولئك العظماء، أفتقدهم في غير لقاء بهم ودون سابق معرفة، أعشقهم عشقاً لا يفهمه سواهم، أقدّس سموّهم، وَأتمنى أن أكونَ معهم، وَكم ناجيت أرواحهم بأن خذوني لعالمكم حتّى عبق عَرَق لكم، خذوني معكم كطبع صورة في ذاكرة أحدكم، خذوني معكم حتى عروة زرار في لبس أحدكم، خذوني معكم حتى ذرة رمل علقت في جرح قدم أحدكم، خذوني معكم بأية لغة تحبون وَبأية صورة ترتؤون وَبأية هيئة تختارون، خذوني معكم، لا تتركوني في هذا العالم الميت فأنا أحب الحياة وَأكره الموت، وَسبيلكم وحده هو الحياة وَفيه الحياة الأبدية.. وَأية حياة؟!

إنها حياة المكرّمين عند ربّ العالمين، حياة من يرزقون عند ربهم.

فبالله عليكم فليلتفت أحدكم ليراني منتظرة عند ربوة للعاشقين، وَستعرفونني حين ترون العشق الطاهر مني يلوّح لكم بيديه أن تعالوا فأشواق هنا تنتظركم لأخذها معكم فتفوز فوزاً عظيماً.

ستعرفونني بصبغة روحي المشبعة بحبكم الأسمى، وَستعرفونني بعيني المتكئة فيهما الدمعات على الأجفان تكابر كي لا تخرج لكنها تنساب كرهم المطر تهطل عليكم من سماوات روحي المتشبعة بحبّكم.

أيّها الشّهداء، وَلن أملّ من أن أتمنى مقاماتكم، فرأفة بي، هلّا أرسلتم إليَّ روحَ أحدكم لتأخذني إليكم فمعكم وَبرفقتكم سأحيا حياتي، وَسيحلو الخلود وَأنسى مرارات العلقم التي عشتها مع الأموات الذين يتحَرّكون فوق الأرض، وَسلام.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com