الصناعات المحلية اليدوية.. اختفاء من الأسواق لصالح السلع الخارجية!

الآنسي: لا يوجد اهتمام للمحافظة على الحرف والصناعات المحلية لعدم توفر الدعم المالي والإمكانيات المادية لتصنيعها

الشرفي: اختفت الكثير من الصناعات النحاسية المحلية فحلت محلها الصناعات المستوردة والمصنوعة من الألمنيوم

الروضي: المشتري يسعى خلف السلعة الأرخص والأكثر تواجداً وإن كانت صناعتها رديئة

الناشري: سبب اختفاء الصناعات المحلية عدم وجود اليد العاملة المحترفة إلى جنب تراجع الطلب

شعلان: علينا أن نعرف أنه لا يوجد جنابي صيني ولكن التسمية أطلقت على الجنابي التي تُصنع من البلاستيك

حرفيون يطالبون بدعم المنتج الوطني وتقليل الاستيراد

 

المسيرة- محمد الكامل

تختفي الكثيرُ من الحِرَفِ المحلية وتتلاشى تدريجيًّا من الأسواق اليمنية لتحل محلَّها صناعاتٌ مستوردةٌ تأتي من الخارج لتملأ الأسواق المحلية.

ويظل السؤال البارز هنا: ما سر اختفاء هذه الصناعات المحلية والحرف اليدوية في بلادنا الغنية، وما هي الأسبابُ التي حالت دون ذلك، وكيف يمكن معالجةُ هذه الإشكالية وإيجاد الحلول لها.

 

أولى الحلول.. إنشاءُ معامل

يقول تاجر الصناعات الحرفية في سوق الملح بصنعاء، محمد الآنسي: إن هناك الكثيرَ من الصناعات الحِرَفية والمحلية التي كانت تُصنعُ في اليمن مثل “الدلات” حق القهوة والفخار حق الماء والمواقد والبرمة حق اللحمة والمقالي والمباخر المصنوعة من الفخار، إضافةً إلى المعاشر والمدقات المصنوعة من النحاس والمعدن، مُشيراً إلى أن هذه الصناعات وغيرها الكثير اختفت تدريجيًّا، حَيثُ لم يكن هناك اهتمامٌ في المحافظة على هذه الحرف والصناعات التي كانت تُصنَعُ محلياً.

ويرجع التاجر الآنسي أسبابَ عدم هذا الاهتمام إلى عدم وجود الدعم المالي والإمْكَانيات المادية لتصنيعها، مؤكّـداً أنه أخذ العجينةَ أَو النماذجَ الكاملة اليمنية لهذه الصناعات وقام بتصنيعها في دمشق وحلب بسوريا عام 1970م، ومن ثم في الهند في العام 75م وعاد لبيعها هنا بعد تصنيعها في الخارج.

ويؤكّـد الحاج محمد خلال حديثه لصحيفة “المسيرة” أن عمليةَ التصنيع في الخارج كانت مكلفةً مادياً ومتعبةً جِـدًّا في عملية النقل والشحن، فلجأ إلى الصناعات المستوردة لنفس الأغراض من مقالي وقدور وملاعق وغيرها ولكنها مصنعة من الألمنيوم وليس من الفخار أَو المعدن والنحاس التي كانت تتميز به اليمن في هذه الصناعات، خَاصَّة أنها كانت أقل تكلفةً وأسهلَ في عملية النقل، إلى جانب الإقبال الكبير على شرائها في السوق؛ نظراً لرخص ثمنها من جهة وانبهار الزبائن بها من جهة ثانية.

ولإحياء هذه الصناعات من جديد يجبُ توفيرُ الدعم كبداية، حَيثُ ممكن إنشاء معمل على أرض مناسبة من حَيثُ المكان والمساحة وتجهيزه بما يلزم من أدوات ومعدات ومن ثم استخراج النحاس والمعادن وكل المواد من جبال اليمن الغنية بالنحاس والمعادن والفضة والعقيق وكل المواد المطلوبة موجودة فيها.. المهم يكون في نية ودعم من قبل الدولة”. حسب كلام الحاج محمد.

ويؤكّـد الحاج محمد أننا نستطيعُ تصنيع كُـلّ الأدوات المنزلية من مدقات ومباخر ومدايع ومساحق ومقالي وصحون وأدوات منزلية مختلفة، والدعم هو الأَسَاس والتشجيع من قبل المختصين، فالأمر مؤلم حين تشوف هذه الحاجات تغزو سوقك المحلي من الخارج وأنت وأرضُك غنية ومليئة بالإمْكَانيات، لكن أين الاهتمام؟

من جهته، يؤكّـد لطف الشرفي لصحيفة المسيرة أن “الكثيرَ من الصناعات النحاسية كانت تتم صناعتها محلياً مثل المزهريات والمعاشر وأدوات الطبخ بأنواعها والأواني المختلفة، إلَّا أنه للأسف الآن اختفت لتحل محلها الأواني المصنوعة من الألمنيوم المستوردة من الخارج”.

ويضيف الشرفي أنه إلى جانب اختفاء الأيدي العاملة في هذه الحرف الذي تفرقت بهم السبل، واستغناء الكثير منهم عنها تحت ظروف شخصية ومعيشية مختلفة”، موضحًا أن “التكلفةَ العالية في أجور الأيدي العاملة كانت من أهم الأسباب إلى عزوف الكثير على طلبها واستخدامها وكنتيجة تراكمية لذلك أَدَّت إلى شح الطلب على هذه الصناعات المحلية نفسها للارتفاع في ثمنها، وبالتالي أصبح استخدامُ هذه الصناعات النحاسية نادراً جِـدًّا وللزينة فقط بعد أن كانت مستخدَمةً بكثرة سابقاً”.

ويواصل الشرفي قائلاً: “الآن تعال انظر أغلب الألمنيوم أَو معدن يسمونه “ستيل” مستورد من الخارج وكل الصناعات الآن في السوق والتي تجدها وأنت تتجول عبارة عن صناعة خارجية هي أرخص ثمناً وأكثر إقبالاً من قبل الزبائن”.

ويشير الشرفي إلى “ضرورة تأهيل الأيدي العاملة وتوفير الإمْكَانات اللازمة من معدات وأفران وفتح المجال للشباب وتدريبهم على هذه الأفران في صب النحاس وتشكيلها بأشكال ومكائن ضغط وتصليح هذه النحاسيات حسب الرغبة والغاية، ونحن لا نطلب شيئا صعبا هي معامل بدائية وسهلة الإنشاء إن وُجد الاهتمام والرغبة لدى الجهات المختصة”.

ويبيّن الشرفي لصحيفة المسيرة، أن المعامل البدائية هي مكائنُ مكابس يمكن شراؤها وتشغيلها ومن ثم يتم ضغطُ النحاس فيها ومن ثم تشكيلُها والرسم عليها يدوياً من قبل العامل نفسه بعد أن يتم تدريبُه أَو عادة تأهيلهم بشكل عام، وبالتالي نستطيع أن نعمل على أي شيء، بحيث نصب المدقات أَو الهاونات بعملية سهلة، حَيثُ نصُبُّ النحاس في هذه الأفران ليصبح سائلاً ومن ثم نشكلها في قوالبَ بالراحة وبالشكل الذي تحب وتلمعه فيصبح جاهزاً.

ويزيد بالقول: “أنت متخيل حجمَ الاستيراد في النحاسيات وحجم الضرائب والتكلفة للنقل والشحن، كُـلُّ هذا بيزيد سعرَ السلعة، ومرهقة لنا وللمشتري أَيْـضاً، والمشكلة أرضنا غنية بكل ما هو مطلوب ونحن نستورد من الخارج إلى متى؟”.

 

خيار ثان.. استغلالُ اليد العاملة وتأهيلها:

في سوق الحدادة بسوق الملح في صنعاء القديمة يجلسُ لطف الروضي على كرسيه اقتربنا منه وعند سؤاله يقول: كُـلّ السوق أصبح مستورداً حتى عندنا في سوق الحدادة بعض المواد المستخدمة في الحدادة والزراعة والحراثة مستورة بعد أن كان كُـلّ شيء محلياً”.

ويستشهد بمثال: “أنا أقوم بتصنيع مطارق وأعمل كُـلّ شيء بجهد وأبيعها بمبلغ 1500 ريال، بينما باستطاعة أحدٍ شراءَ المطرقة الخارجية بمبلغ 1000 ريال”.

ويوضح الروضي “أن السبب يعود إلى التجار الكبار الذين يبحثون عن الربح السريع، كما أن الزبون يسعى خلف السلعة الأرخص والأكثر تواجداً وإن كانت صناعتها رديئة، ولكننا نستطيع بدعمٍ من الدولة ضبط عملية إدخَال هذه الصناعات المستوردة وإن على فترات ومن ثم دعمنا بما نحتاجُه وأضمن لك كُـلَّ شيء سيعودُ ونستطيع تصنيعُه هنا محلياً بجودة أفضل بكثير وبدرجات مختلفة وممكن تكون أرخصَ”.

وبسبب الاستيراد الخارجي توقفت الأعمال الحرفية وصناعاتها المحلية بالكامل وبكميات كبيرة، وبالتالي توقفت الصناعات الحرفية اليدوية؛ لأَنَّ الخارجي يأتي أرخصَ وبكميات كثيرة كما قلت، حَيثُ الألمنيوم طغى وانتشر، وبالتالي حَـلّ محلها الصناعات المستوردة من مقالي وقدور وملاعق وغيرها والتي تصنع من الألمنيوم من الصين وغيرها من أدوات النجارة والحدادة والزراعة أَيْـضاً كله أَو أغلبه أصبح استيراداً خارجياً. أَو هكذا يقول الروضي.

ويؤكّـد لطف الروضي لصحيفة المسيرة أن “الحلَّ هو تخفيفُ الاستيراد ودعم الصناعات والحرف اليدوية واستغلال اليد العاملة المتوفرة بكثرة، بحيث لا ينقصهم إلَّا الدعم والتشجيع، إلى جانب توفير الآلات والمعدات الخَاصَّة بهذا الأمر، ونستطيع أن نعمل كُـلّ الصناعات اليدوية التي اختفت أَو قل طالبوها وعُمَّالها الحرفيون”.

 

صناعةُ الفضة والجنابي.. بين خطر التقليد وتوجّـه المجتمع:

الصناعاتُ اليدوية كثيرة ومتنوعة بتنوع جبال وسهول اليمن، والحرفيون اليمنيون كثيرون وفي مختلف المناطق اليمنية، ويلاحظ أن كُـلّ نوع من هذه الحرف والصناعات اليدوية كانت تمارَس من قبل أسر معينة أَو في مناطق معينة ظلت تتوارثها جيلاً بعد جيل إلى وقتنا الحاضر، كما يقول عبدالله الناشري “هي صناعات محلية توارثناها عن آبائنا وأجدادنا الذين كانوا يقومون بكثير من هذه الصناعات ومحلي، هذا ورثته عن الوالد والذي اشتغل في كُـلّ الصناعات هذه الذي أمامك وجيت أنا من بعده نبيع ونشتغل في المرجان والكهرمان والفضيات والمسابح وبعض النحاسيات” كما يؤكّـد عبدالله الناشري.

ويوضح الناشري لصحيفة المسيرة أن الكهرمان والمهرجان وبعض الصناعات الأُخرى كانت موجودةً في الماضي، وخَاصَّة في فترة ما قبل ثورة 26 سبتمبر ولكن الآن اختفت خَاصَّة الفضيات وصناعتها مثل سوق الفضة، وأشهر أنواع الفضيات هو الفضيات البوساني المستخدم في الجنابي والثوم أَيَّـامَ زمان ولكن اختفى الكثير الآن أمثال البوساني وشغل البديحي والزيدي والآن أغلب الشغل جديد مثل شغل بيت الأكوع، حَيثُ يشتغلون الجنابي الفضة الثوم بالليزر والفضة بشغل جديد يمني ولكن ليس مثل أول”.

ويزيد بالقول: “إن سببَ هو عدمُ وجود اليد العاملة المحترفة، كما أنه في السوق نفسه خف الطلبُ على هذه الأشياء، لا أعرف لماذا ولكن الشغل لم يعد مثل السابق والطلب كذلك، ربما بسَببِ أن الأغلب الآن اتجه للمقلد أَو الصيني؛ لأَنَّه أرخص”.

ويؤكّـد الناشري لصحيفة المسيرة أن الحل يكمن أولا في توفير اليد العاملة وتأهيلها إلى جانب المكان والمساحة المطلوبة لإنشاء معمل وتجهيزه بالمطلوب من فضة ومعدات يدوية من مخرطة للجرور وعدد من القطع التي تُعرف باسم (كلبتين) وبقية المعدات الخَاصَّة بالتصنيع وإعادة إحياء هذه الصناعات بشكل كامل.

ويشير الناشري إلى أن المشكلة الآن هي في الصناعات الصينية التي أصبحت تملأ السوق من خواتمَ وغيره صُنعت في الصين، حَيثُ يقومُ بعضُ المستورين اليمنيين هنا بأخذ نماذجَ وعيناتٍ للخواتم القديمة اليمنية مثلاً ويصنع نفسها ولكن في الصين ويأتي يبيعُها هنا بسعر أقل”.

وتزخر اليمنُ بعددٍ كبيرٍ من الصناعات التقليدية مثل صناعة العقيق اليماني وصناعة الفضيات وصناعة النحاسية وصناعة الجنابي، حَيثُ امتهن الكثير من اليمنيين صناعةَ الجنابي وبيعها بعد أن توارثوا هذه المهنة عن آبائهم وأجدادهم، فهي زينةٌ للرجال ورمزٌ للشرف والرجولة والتراث والقوة، إضافة إلى كونها موروثا أسرياً واجتماعياً، كما تعد رمزاً لشخصية من يرتديها فهي تعبّر عن اعتزازه بتراثه.

ويروي شيخ سوق الجنابي وأحد أقدم ساكني صنعاء القديمة، شعلان الحباري، تاريخ الجنبية اليمنية وأهميتها: “كانت ولا زالت الجنبة رمزاً للمكانة الاجتماعية بين اليمنيين من قديم الزمن، وهي صفة وصورة نمطية وثقافية عن اليمني كذلك”.

وتحدث الشيخ شعلان الحباري للصحيفةِ: نحن في صنعاء القديمة منذ ستين سنة وهي مدة عملي في الجنابي والذي ورثته عن أبي، ولي عدة محلات لبيع الجنابي في صنعاء القديمة.

ويوضح شعلان أن أفضلَ الجنابي هي المصنَّعة من قرون وحيد القرن الذي كان يُستخدم أَيْـضاً في صناعة مقابض السيوف اليمانية قبل الإسلام، منها أبو عسكري ومنها أبو شمس والمهند والزمهري، بينما يعودُ عمرُ وتاريخُ صناعة الجنبية اليمنية إلى 1200 سنة”.

ويبيِّن شعلان لصحيفة المسيرة أن أهمَّ وأفضلَ الجنابي هي الصيفاني، في حين يعتبر الأفضل في النصلة هي الحضرمي الغساني القصبي.

والجنبية من حَيثُ الصناعة فهناك رداعي ونخيري وعنقادي وهي الدرجاتُ الممتازة على التوالي.

ويؤكّـد الشيخ شعلان أن الجنابي يبقى لها رونقُها وقيمتُها وأهميتُها رغم أن هناك بعضَ المحاولات التي يتم صناعتها من البلاستيك وبقايا الأحذية، وهي المعروفة بالصيني رغم أنها تُصنع هنا في اليمن.

ويزيد الشيخ شعلان بالقول: “علينا أن نعرفَ أنه لا يوجدُ جنابي صيني ولكن التسمية أُطلقت على الجنابي التي تُصنع من البلاستيك وبقايا الأحذية ويتم صهرُه وتشكيل الجنبية وصناعتها هنا وليس في الصين ويتم بيعها بما لا يزيد عن 2000 ريال”.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com