فضائل أهل اليمن.. الشواهدُ والأبعادُ الإيمـانيةُ والتاريخية (1-2)

 

المسيرة/ د. حمود عبدالله الأهنومي

بعد أن شنّ العدوان حرْبَه المُدَمِّرة علينا، بات يُلِحّ عليَّ سؤالٌ هام، ولا سيما حين ألتقي يمنيين مُجْتَمِعِين، وقد وفدوا من مناطقَ عديدة، فأقول لهم: لماذا نحن اليوم هنا؟ وما الذي جمعنا؟ ومن نحن؟ ومن هو الآخَر بالنسبة لنا؟ ولماذا رأينا المرتزِقة على اختلاف أصنافهم وألوانِهم وثقافاتهم في صفِّ العدوان؟ ما هو الخلل الذي أُتُوا من قِبَلِه؟ لماذا سارعوا إلى العدوان وموالاته؟ ولماذا بقي الجمُّ الغفير من أحرارِ هذا البلدِ يدافِعون عن بلدهم؟ ما هي القيمة الثقافية والأخلاقية والفكرية والدينية التي ميّزت المدافِعين عن المسارعين؟ أين ذهبت الوطنية عن أولئك الذين أَكْثَــروا من التشدُّق بها و(الطنطنة) حولها؟ وأين عزب الإيْمَــان عن الذين طالما لوَوْا أشداقهم بها على منابر المسلمين، ثم رأيناهم جنودا طيعين تحت إمرة اليهود والنصارى المعتدين؟ هذه وغيرها من الأسئلة التي بحتميِّتها تعيد السؤال دَائماً وبشكل ملحّ عن الهُوِيَّة الجامعة وآثارِها ومظاهرِها ونواقضِها ومصادرِ كُلٍّ؟

غير أنه من الطبيعي أن تَطْرَح المجتمعاتُ أسئلة الهُوِيَّة في محطات الصراع ولا سيما حينما يستهدف الصراعُ وجودَها وهُوِيّتها وكيانها؟ وحين ينسلخ بعض المحتمين بها ليقاتلوا في صفوف الأعداء الذين يستهدفون المجتمعات على أساس الهُوِيَّات المميِّزة..

في إحدى المحاضرات طرَحْتُ مثلَ هذه الأسئلة على أبناء قبيلتين متصارعتين، كانوا حاضرين فيها، فعادوا ليستغربوا كيف أن آباءَهم كانوا يَصطرعون على هُوِيات صغيرة، قبلية، ومكانية، وإدارية، وغيرها، وكانوا يقتتلون الشهور والسنين الطويلة من أجل ترسيم الحدود بين القبيلتين، سألتهم لماذا كان الوضع على ذلك الشكل؟ لقد كانت الإجابة واضحة، وهي أننا أضعنا الهُوِيَّة الإيْمَــانية الجامعة، واحتمينا بهُــوِيَّات صغيرة لا تعبر عن حقيقة اليمنيين وإيْمَــانهم..

 

المسارعون إلى الأعداء وإضاعة الهُوِيَّة

أما لماذا هرول المُهَرْوِلون إلى الاصطفاف ضد وطنهم ومجتمعاتهم، فإن ما يجمعهم على اختلاف فئاتهم فهو أنهم ظلوا يعانون من نقصان كبير في الانتماء إلى الهُوِيَّة المعبِّرة عن ثقافة المجتمع وتاريخِه وذاتيَّته؛ لهذا فما يجمع المُرتزِق اليساريَّ الاشتراكيَّ العلمانيَّ بالمرتزِق اليميني الإسْــلَاموي الوهابي تحت الراية السعوديّة والإماراتية والأمريكية هو أن جميع أولئك لا يؤمنون بالهُوِيَّة اليمانية الإيْمَــانية الجامعة..

لقد كانت لديهم هُــوِيَّات بعيدة أَو مناقِضة للهُوِيَّة الإيْمَــانية اليمانية الجامعة، فهُوِيَّةُ الإسْــلَاموي المتطرف هُوِيَّة مستورَدة غريبة على هذا البلد، وتَدين بالولاء للوهابية السعوديّة أَكْثَــرَ مما تَدين بالولاء لليمن الإيْمَــاني؛ لهذا عند احتدام الصراع لحِقَ كلٌّ بأصله، وعاد كلٌّ إلى هُــوِيَّته، فلحق اليمانيون بيمانيتهم، ولحق النجديون بنجديتهم.

المرتزِق اليساري الاشتراكي لم يكن على علاقة متينة بالهُوِيَّة الإيْمَــانية اليمانية، ونظرياتُه مستوردة من الخارج، فهو يَدين في الفكر والثقافة بما عليه منظرو الاشتراكية الذين كانوا يحملون هُــوِيَّات وطنية مغايرة، في الوقت الذي كان منفصلا تماما عن هذه الهُوِيَّة الإيْمَــانية اليمانية، وكان احتماؤه بهذه الهُــوِيَّة البعيدة والمغايرة حامل التباس ذاتي بالنسبة له، سرعان ما كشفت الأحداث أنه كان بعيدا عن الهُــوِيَّة الجامعة؛ ولهذا لم تبق لديه حتى الهُــوِيَّة الوطنية لتؤثر في وعيه رفض الاحتلال والغزو الأجنبي لبلده، على أنه كان ينظر إلى تاريخ اليمن ورموزه وأعلامه باحتقارٍ وازدراء؛ لهذا وقع خارج دائرة الواجب، وسهُلَتِ السيطرةُ عليه وعلى أمثاله من قبل أعداءِ هذه الهُوِيَّة وغرمائها، بل وصاروا جنودا للمعتدين ضد بلدهم وأمتهم وشعبهم ومجتمعاتهم.

إن ما يعيشونه اليوم هو حالةٌ من التنكُّر للهُوِيَّة اليمانية الإيْمَــانية، وهو نتيجة من نتائج بُعْدِهم عن الهُوِيَّة الإيْمَــانية اليمانية.

إن المسألة غاية في الأهميّة، وهنا أقتبس بعض العبارات من كلام السيد القائد حفظه الله وهي أنه قال: “يجب أن ننظر لهذه المسألة مسألة الهُوِيَّة على أنها غاية في الأهميّة”، وقال عن الهُوِيَّة الإيْمَــانية بأنها تنتمي للإيْمَــان، وأن “الإيْمَــان مبادئ، وقيم، وأخلاق، والتزامات، ومفاهيم تَنزِل إلى واقع الحياة، وتُبْنَى عليها الحياة، وهو مواقف، وسلوكيات، وأعمال، ومسار حياة، ومشروع حياة”، وذكر أن: “القيمة الإنْسَــانية قيمة عظيمة في الهُوِيَّة الإيْمَــانية”، وذكر أن “أسوأ عملية مسخ للإنْسَــان اليمني أن يخرج من الحالة الإيجابية الراقية التي عُرِفَ بها الإنْسَــانُ اليمني الإسْــلَامي وهُــوِيَّته، والتي توارثها منذ فجر الإسْــلَام، ومنذ الصدر الأول للإسْــلَام على يد رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى يد تلامذته العظماء، وفي طليعتهم الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام، ومعاذ بن جبل، وغيرهما”.

 

الاحتفالُ بعيد الإسْــلَام تعبيرٌ أصيلٌ عن الهُوِيَّة الأصيلة

من جانب آخر كان من حُسْنِ حظِّ اليمنيين أنهم الشعب الوحيد في هذا العالم الذي يحتفل بعيد إسْــلَامه، وأفضل من ذلك أن إيْمَــانَهم ارتبط مباشَرةً بالنبع الصافي، والمصادر الأصيلة في الإسْــلَام، حيث تعلّموا على يد تلامذة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المقرَّبين كالإمام علي، ومعاذ بن جبل، ثم هم الشعب الوحيد الذي ظلَّ يتمسّك بالثقلين كتاب الله وعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا شكَّل ضمانة بأن تكون وسائط الهداية مضمونة، وذات قيمة إيْمَــانية عالية وموثوقة، وذلك هو عينُ ما عبّر عنه النص النبوي الشريف (الإيْمَــان يمان).

لهذا نجد أن عمومَ مَنْ يدافع عن البلاد اليوم، ويتحَــرّك تحت راية الجهاد – لهم علاقة وطيدة بهذه الهُوِيَّة الإيْمَــانية، ولهم انتماء صادق إليها،..

هذا التقديم يعطي أهميّة كبيرة جدا لبحث موضوع الهُوِيَّة الإيْمَــانية اليمانية، التي تشكل هُوِيَّة استثنائية من بين الهُــوِيَّات الوطنية العالمية؛ كونها إسْــلَامية، وكونها جاءت مباشَرة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونها هُــوِيَّة تعالج الأخطاء الحتمية التي تقع فيها الهُــوِيَّات الوطنية القومية، والعرقية، والمناطقية، والعصبوية.

في هذه الورقة -التي اتبعت المنهج الوصفي التحليلي- سيتم معالجة فضائل أهل اليمن والشواهد التاريخية من هذه الزاوية، زاوية علاقتها بالهُــوِيَّة، وبالصراع الراهن، بشكل أَو بآخر، وتسلط الأضواء على بعض الالتباسات التي قد تطرأ على مَن لم يمعن النظر في طبيعة الصراع القائم..

 

فضائلُ أهل اليمن في القُــرْآن الكريم

ورد عددٌ من الآيات الكريمات، ذكَرَت الرواياتُ الحديثية أنها في فضل أهل اليمن، وهي مع ذلك تنسجم والمنطقَ التاريخيَّ لدور أهل اليمن في الإسْــلَام، قديما وحديثا، ومن المهم التنبيه بأنه حين يتم الحديث عن هذه الفضائل فهو ليس من باب الفخر، ولا من أجله، وإنما من أجل كشف العلاقة بين الحَـقّ وأهله في هذه الزاوية، وتبيين الحكم الشرعي على مَن لهم علاقة، ولا سيما اليمنيين، تجاه هذه النعمة، وتجاه ما يستتبعها أَيْضاً من شكر لمولي النعم وبارئها، وهو الله تعالى، والعمل على استكمالها في واقعنا، وأن نكون من أهلها المستحِقِّين لاستمرارها.

 

وهذه بعض الفضائل القُــرْآنية:

1- قوله تعالى: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ) [الأنعام:89].

هذه الآية تتحدَّث عن أنه إن كفر هؤلاء (أهل مكة) بالكتاب والحكم والنبوة التي أُنزِلت على الأنبياء، فإنه عز وجل قد وكّل بها قوما لا يكفرون بها دَائماً، أي هم مؤمنون بها بشكل مستمرّ، واختيار عبارة (وكَّلنا) التي تعني التوكيل من الله وإنابتَه لقومٍ آخرين يكونون على قدر المسؤولية في الحفاظ على تلك الأمور والقيام بها، له دلالة على عظيم المسؤولية التي قلّد الله بها أولئك القوم، وعلى عظمة دورهم ومكانتهم، وهم الأنصار من الأوس والخزرج، الذين وصفَتْهم الآية بأن من شأنهم الإيْمَــانَ بالله دَائماً، (ليسوا بها بكافرين)، وهي الجملة التي تعني الاستمرار والثبات على الإيْمَــان، المفهوم من نفي الكفر دَائماً.

التوكيل هذا أمرٌ موعود به، وهي سنة من سنن الله عز وجل، وهي سنة الاستبدال بقوم آخرين، فكلما تحقّق كفر كافرين بهذا الدين، فإن لله تدخُّلا إلهيا بتهيئة قوم آخرين، وتوكيلِهم للقيام بعملية الحفاظ عليه، والاستمرار في ذلك، وهذا هو ما يحصل اليوم، وقد تخلى الكثير عن مبادئ هذه الدين وفرائضه الكبيرة، فظهر اليمنيون متمسكين به، ومستمرّين عليه، وهذا هو معنى أن ينص الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن (الإيْمَــان يمان).

2- قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].

وصف الله الأنصار بأنهم الذين تبوّأوا الدار والإيْمَــان من قبلهم، وهنا إشارة إلى الهُوِيَّة التي حملها الأنصار، فلديهم دار، ولديهم منهج، يحكُم تلك الدار، وهناك انصهارٌ كامل بين الدار ومنهجها، ولكن لا بدّ لأحدهما من الآخر لينتُجَ عنه تشكُّلُ الهُوِيَّة المطلوبة، لا بد للمنهج (الذي هو الإيْمَــان) من دارٍ، ولا بدّ للدّار من منهج، وهو تنظيمها على أساس الإيْمَــان.

والدار في القُــرْآن الكريم في أَيَّـام الشدة والجهاد تكون دارين، دار إيْمَــان، والكلمة فيها للمؤمنين، ودار كفران ونفاق، والغلبة فيها لأئمة الكفر والنفاق، وقد خص الإسْــلَام الدار الإيْمَــانية بأحكامٍ تميّز المسلمَ عن كونه مسلما فقط، فالمسلم من أهل دار الإيْمَــان يختلف عن المسلم الذي ليس من أهلِ دار الإيْمَــان، حيث المسلم المهاجر إلى الدار الإيْمَــانية له حقُّ الولاية الكاملة، والمناصرة الكاملة من قبل جميع المسلمين الآخرين، لكن المسلم الذي لم يهاجر لا يحصل على هذه المزية، فيجب نصرته في الدين فقط، ولكن لا يجوز نصرته على المحاربين له والمرتبطين مع مجتمع المؤمنين بعقود صلح، ومواثيق سلام، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال:72].

الآين تبين أنه قد صار الإيْمَــان وطنا، قال السيد القائد حفظه الله: “ما أعظم هذه العبارة استوطنوا الإيْمَــان كما استوطنوا الدار، إيْمَــان راسخ، إيْمَــان ثابت، إيْمَــان عظيم”. واللفظ القُــرْآني قوي في تشبيه الإيْمَــان بالدار التي يمكن أن تُسْتَوطَن وتُتَبَوّأ، وهذا أمرٌ ظاهر في حق اليمنيين اليوم، حيث يُمثِّلون دارَ الإيْمَــان، التي تواجِه أئمةَ الكفر، تماما كما حصل مع أجدادهم الأنصار في المدينة المنورة..

3- قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:54].

هذه الآية أتت في سياق التحذير من فتنة الولاء لليهود والنصارى وأن الذين في قلوبِهم مرض من جماعة المؤمنين يُسارعون في موالاتهم والارتداد عن الدين بإطاعتهم، والانتماءِ إليهم، وأنه سيسقط المنافقون في هذا الاختبار، بموالاتهم والانتماء إليهم، وهنا ميّز الله قومًا مؤمنين وعَدَ عزَّ وجل أن سيأتي بهم، كما تقتضيه سنته في الاستبدال، وقد حدد مواصفاتِهم ومحدِّدات هُوِيَّتهم الإيْمَــانية، فقال عز وجل: (يحبهم ويحبونه)، ومن كان هذا شأنه فإن الله لن يتخلى عنه.

– (أذلة على المؤمنين) ولم نر هذا يتحقّــق إلا هنا في أهل اليمن، في جهادهم لليهود والنصارى المعتدين، وأوليائهم المنافقين..

– (أعزة على الكافرين) وهل هناك من يصرخ في وجوه أئمة الكفر في هذه الدنيا سوى أبناء اليمن المؤمنين.

– (يجاهدون في سبيل الله) الهُوِيَّة الإيْمَــانية تقتضي منا أن نكون أعزاء بعزة الله وأن نجاهد في سبيل الله.

– (ولا يخافون لومة لائم) قد تجاهد ولكن عندما يوجّه إليك اللوم قد تسقط، لكن المؤمنين لا يسقطون حتى في هذه الجولة الأخيرة من جولات الصراع.

هذه محدّدات الهُوِيَّة الإيْمَــانية اليمانية التي ذكرها القُــرْآن لأهل اليمن، وهي توصِّف وتشخِّص طبيعة الصراع الراهن، وتشير إلى الأوصاف التي يكون عليها المؤمنون المخالفون للمنافقين والمسارعين في موالاة اليهود والنصارى المعتدين.

أما المنافقون الذين يظهَرون في القُــرْآن الكريم دَائماً حين يكون هناك حديثٌ عن الهُــوِيَّة الإيْمَــانية، وعن الموالاة، وابتغاء العزة، فقد عرّفهم القُــرْآن الكريم بأنهم مَنْ لديهم خللٌ في منظومة الولاء والانتماء، فقال عزّ من قائل: (بشِّرِ المنافقين بأنه لهم عذاباً أليماً، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) [النساء:138-139]. لاحظوا كيف جعل الله العزة جَميعاً له، فمن ابتغاها من أعدائه أيا كانوا فهو إنما يعبِّر عن مدى اهتزاز هُوِيَّته، وضعف ثقته وإيْمَــانه بالله، يقول تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر:10].

ويقول عن المنافقين: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8].

من جانبٍ آخَر فقد بيّنَتِ الأحداث القائمة أن هذا الشعب جدير بوصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه يحقِّق ما قاله عنه، حيث ينطلق في موقفه المناهض للعدوان من مبدأ إيْمَــاني، وثقافة قرآنية، يقول السيد القائد: “لا يمكن لهذا الشعب أن يُفارق عِزَّته إلا ويفارق إيْمَــانه”، ويقول: “اليوم نحن نجد أن الهُوِيَّة الأصيلة لشعبنا اليمني لها أبلغ الأثر، لها أكبر التأثير في ثباته في مواجهة التحديات”، ويقول: “هُــوِيَّتنا تَفرِض علينا أن نكون أعزاء وأن نكون عبيدا لله تعالى فقط”.

4- قال تعالى: (هَا أَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].

الآية في سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بيّن الله فيها شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجهادية التي بالتأكيد عاشت أجواء الصراع مع الكفر من جانب، ومع النفاق من جانبٍ آخَر، في سياق الحديث عن الجهاد، ثم بيّنت الآية هذه بأنه حين يكون هناك تولٍّ، أيَّ تولٍّ كان، كفرا أَو فسقا أَو نفاقا أَو بخلا، فإن الله هو من يُهيِّئ ويُوَكِّل ويَسْتَبدِل قومًا آخَرين، وقطعاً لن يكونوا كأولئك المفرِّطين.

إن التدخُّل الإلهيَّ يأتي في أوقاتِ الشدة، حين يكون هناك انحراف خطير، أَو حين تمارَس ضغوط كبيرة ضد الأُمَّــة المؤمنة تضطر بعضَهم إلى الخضوع والإعلان عن موالاة اليهود والنصارى أَو الوقوع في حالة التولِّي والانحراف، وهنا تحصل المعجزة الإلهية بتوكيل الآخَرين، وهم القوم من الغير، الذين لن يكونوا مثل أولئك، وهذا كله هو ما يحمل على القول بأن حركة اليمنيين الجهادية اليوم، وهي تمثل ريادة الجهاد في العالم الإسْــلَامي، ما هي إلا تعبيرٌ إلهي عن سنة الله في الاستخلاف، ومظهرٌ من مظاهر الاستبدال الإلهي، ومشهدٌ من مشاهد التوكيل الرباني.

5- قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الجمعة:3-5].

قال المفسرون: إن هذه الآية (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) نزلت في أهل اليمن، ومعلوم أن (وآخرين) الواو واو العطف، وهو معطوفٌ بالمفعولية على ضمير (ويزكيهم)، أَو الواو واو المعية، وهو منصوب بالمفعولية، على أن مفعول معه، بعد (الأميين)، أي ويزكي آخَرين لمَّا يلحقوا بهم، أَو مع تزكيته لقوم آخرين لما يحلقوا بهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، من باب التنازع، تنازع أَكْثَــر من عامل تتوجَّه كلُّها إلى معمول واحد، وهذه الآيات في سورة الجمعة، وهي السورة التي خصّصت مساحة واسعة لخطر اليهود، وردّت على بعض ترهاتهم.

وهذا ليس بعيدا عن واقع صراعنا اليوم، وما يحصل في اليمن من عملية الاهتداء بالقُــرْآن الكريم، والتزكّي به، لإنتاج مواقف حكيمة، هو مصداق عظيم من مصاديق الآية الكريمة.

 

أليس (الإيْمَــان يمانياً والحكمة يمانية) إذن؟

أتذكر أن السيدَ القائدَ قال ذات مرة: الأُمَّــةُ اليوم وهي تخوض هذه المرحلة الخطيرة من الصراع أحوج ما تكون إلى القُــرْآن الكريم، فقد تحدَّث رسول الله عن الفتن ذات مرة، وكان لديه هناك طالب نجيب، هو الإمامُ علي عليه السلام، بادره بسؤاله، قائلا: ما المخرج منها يا رسول الله، قال: (كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم،… إلخ).

6- قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ:15]، وهي تدل بوضوح على طيبة البلدة، وكون أهلها ممن يهتدون ويتوبون إلى الله بشكل أفضل من غيرهم؛ ولهذا اختارها الله لتكون موطنا للإيْمَــان، ومتبوأ للجهاد والمجاهدين.

7- قال الله تعالى عن الملأ من مملكة سبأ، بأنهم وصفوا أنفسهم أنهم (أولي بأس شديد): (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) [النمل:33]، وبينت الآية شدة بأسهم، ومبلغ حلمهم، وحصافتهم، ليس استدلالا بقول اليمنيين، ولكن بطريقة حوارهم وإدارتهم لهذه الأزمة، ثم بإقرار القُــرْآن الكريم لهذه الأوصاف.

8- قال تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم * إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) سورة النصر.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com