أكد أن حقائق التأريخ تروي أن الغزاة دائماً يستحقرون عملاءهم.. الدكتور حسـن مجلـي يكشف عوامل منسية عن رحيل الغازي البريطاني

الاستقـــــلال ([1])

(30 نوفمبر 1967م)

 

عــــــــرض: الدكتور

حسـن علـي مجلـي

أستاذ علوم القانون – جامعة صنعاء

 

تنويــــه:

لكي يستطيعَ القُرَّاءُ معرفةَ بعض تفاصيل استقلال جنوب اليمني ثم، بناءً على ذلك، إجراء المقارنة بين الوضع الآن، حيث تحتل السعودية والإمارات وأعوانهما من المرتزقة والإرهابيين وفي مقدمتهم (داعش) وَ(القاعدة) مناطقَ شاسعةً من جنوب اليمني. حيث سيصل القارئ حتماً إلى نتيجة فاصلة، وهي أن الاحتلال الأجنبي أياً كان نوعه مصيره الزوال مهما تعددت وجوهه وكثر عملاؤه وتضخمت إمكانياته وشاعت أكاذيبه.

ما أحوجنا اليوم وبلادنا تتعرض للحرب العدوانية الرجعية الاستعمارية والغزو والاحتلال والتدمير بقيادة (المملكة السعودية) وبقية أعراب الخليج ومرتزقتهم من الداخل والخارج أن تتذكر اللحظات المشرقة للاستقلال ونستلهمهما في كفاحنا الجديد للتحرر والوحدة.

 

تمهيـــد:

هنالك مجموعةٌ من الأسباب وقفت وراء قرار بريطانيا الانسحاب من الجنوب اليمني، لعب الكفاح المسلح للثورة اليمنية دوراً هاماً من بينها، حيث كان دوره حاسماً في التعجيل بانسحاب القوات البريطانية وتقريب تأريخ جلائها. بيد أن قرارَ الانسحاب البريطاني يعود في الواقع إلى فترة زمنية سابقة على اندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963م.

كانت الإمبراطورية البريطانية العجوزُ قد أخذت في التفكك، واضطرت بريطانيا إلى الاعتراف باستقلال معظم مستعمراتها السابقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945م)، التي تسببت في إصابة الاقتصاد البريطاني بأضرارٍ بالغة، بحيثُ أصبح يئن تحت وطأة نفقات القاعدة العسكرية البريطانية في (عدن) التي قدرها البعض بحوالي (66 مليون جنيه) سنوياً في ذلك الوقت.

والواقع أن قاعدة (عدن) اليمنية لم تعد تفي بالاحتياجات الحربية للاستعمار البريطاني؛ لأن التسهيلات البحرية بها لم تكن كافيةً لخدمة الأسطول البريطاني الذي كان يحصل على التسهيلات والخدمات البحرية المتقدمة من (سنغافورة) والخليج.

 

عوامـــل منسيـــة لانسحاب الغازي البريطاني

هناك مجموعةُ عوامل هامة أخرى غفل عنها الذين تناولوا مسألة الانسحاب البريطاني من (عدن)، هذه العوامل هي:

العامل الأول: تراجُعُ أهمية القاعدة العسكرية البريطانية في (عدن) بعد استقلال المستعمرات البريطانية في الشرق الأقصى وخاصة الهند، دُرَّة التاج البريطاني كما كانت تسمى.

العامل الثاني: غيابُ شبح الحرب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى فواجعَ إنسانية واقتصادية مدمرة، وهزيمة دول المحور التي كان يمكن أن تهدد المصالح البريطانية فيما وراء البحار.

العامل الثالث: تولي الولايات المتحدة زعامة العالم الغربي بعد أن لعبت الدورَ الأهمَّ في حسم الحرب العالمية الثانية. وفي الشرق الأوسط تعزز الدور الأمريكي بشكل كبير في أعقاب حرب السويس 1956م، حيث تم جلاء القوات البريطانية، الفرنسية، الإسرائيلية عن مصر بفضل الضغط الأمريكي، ولما كانت المنطقة قد تحولت إلى منطقة نفوذ أمريكي في ذلك الوقت فلم يكن معقولاً أن تظل القاعدة البريطانية في (عدن) لحماية النفوذ الأمريكي الذي حل محل النفوذ البريطاني، ولهذا فإن بريطانيا قررت إثر حرب السويس سحب قواعدها في منطقة (شرق السويس).

العامل الرابع: كما أنه بعد أن أوكلت مهمةَ حماية المصالح الغربية في منطقة الخليج العربي إلى (إيران) الشاه، التي تحوّلَ شاهها إلى شرطي لحماية المصالح الغربية، والأمريكية بشكل خاص، لم يعد هنا كما يبرر الإنفاق على القاعدة البريطانية في (عدن).

 

السيطرة على الجنوب:

كانت السيطرةُ قد سبقت الانسحابَ البريطاني، حيث سيطرت الجبهة القومية على مختلف مناطق الجنوب اليمني فعلياً وبالتدريج اعتباراً من شهر يونيو 1967م. وفي 10 نوفمبر 1967م وقبل أن تبدأ المفاوضات بشأن الاستقلال بين الجبهة القومية وبريطانيا، أصدرت الجبهة القومية العدد الأول من (الجريدة الرسمية)، حيث ضمنتها عدة قرارات من القيادة العامة للجبهة القومية أكدت من خلالها توليها السلطة فعلاً قبل أن تتسلمها رسمياً من بريطانيا. وقد قامت الجبهة بممارسة السلطة الفعلية بوصفها السلطة الشعبية المنبثقة عن إرادة الجماهير والممثلة الحقيقية لها. وطالبت القيادات العسكرية والشعبية باتخاذ التدابير الكفيلة بتنفيذ قراراتها المبينة بالجريدة الرسمية وحذرت من نتائج الامتناع عن تنفيذ هذه القرارات.

وقد تضمنت هذه القرارات إعلان (الجبهة القومية) مسئوليتها كاملة عن أمن وسلامة المناطق المحررة وبقية المناطق التي تتحرر بعد جلاء الاستعمار وتعهدها ومسئوليتها عن حماية أرواح وممتلكات المواطنين والممتلكات العامة وتحذيرها من الإضرار بهذه الممتلكات، وضمانها لسلامة وأمن الأشخاص والممتلكات الأجنبية والتحذير من الإضرار بها. وأمرت بإيقاف حملات تفتيش المنازل والشوارع في (عدن) وضواحيها إلا في حالة الضرورة، كما طلبت من أهالي (عدن) الذين كان في حوزتهم سلاح بإذن من السلطات الاستعمارية تسليمه إلى مقر قيادة الجبهة القومية في (الشيخ عثمان). وجرى كذلك إصدار عدد من القرارات الأخرى، بما فيها قرارات ذات طابع اقتصادي إذ أصدرت الجبهة القومية بتأريخ 22/11/1967م بياناً حول المحاولات اليائسة لتخريب الاقتصادي الوطني عن طريق تصدير النقد والعملة الصعبة وشراء الممتلكات الأجنبية.

وبالطبع إن إصدار (الجريدة الرسمية) وتضمينها مثل هذه القرارات يعكس واقع السيطرة الفعلية للجبهة القومية على كافة المناطق. والواقع أن بريطانيا لم يكن قد بقي لها وجود في ذلك الوقت سوى في (حي كريتر) وَ(خور مكسر) وَ(التواهي)، وهي مناطق محدودة من (عدن) احتفظت بها القوات البريطانية لتأمين انسحابها الأخير.

وفي اليوم التالي لإصدار الجريدة الرسمية، أبرق (سيف الضالعي) رئيس المكتب السياسي للجبهة القومية برسالة إلى (براون – وزير خارجية بريطانيا) عن طريق المندوب السامي البريطاني أكد فيها أن الجبهة تعبر عن الإرادة الشعبية وأنها تتولى السلطة فعلاً وقد قامت بتشكيل وفد عهدت إليه بمهمة التفاوض مع بريطانيا لنقل السلطة السياسية، وطلب (الضالعي) من (براون) قيام المفاوضات حوالي 20/11/1967م، وقد وافقت بريطانيا وتم اختيار (جنيف مكانا) للتفاوض حيث يقوم (لورد شاكلتون) برئاسة الوفد البريطاني.

الواقع أن الاستجابة السريعة من جانب الحكومة البريطانية لطلب الجبهة القومية التفاوُضَ معها لتسليمها السلطة يعكسُ توجُّــهاً سابقاً لدى بريطانيا كان قد بدأ يتبلوّرُ في النصف الأول من عام 1967م، وكما أشرنا سابقاً فإن المندوب السامي البريطاني كان قد اعترف بالجبهة القومية في 6 نوفمبر 1967م.

في 30 أغطس 1967م اهتمت الحكومة البريطانية بتصريحات أدلى بها (قحطان الشعبي) عضو القيادة العامة للجبهة القومية في مؤتمر صحفي وأكد فيها أن قادة الجبهة مستعدون لمقابلة المندوب السامي البريطاني بشرط أن تعلن بريطانيا على الملأ أن الجبهة القومية هي الممثلة الحقيقية للشعب، أي اعتراف بريطانيا بهذه الحقيقة. كما أوضح أن جبهة التحرير ليس لها وزن يذكر وأن أعضاءها يمكنهم الحياة في سلام في الدولة التي تقيمها الجبهة القومية، كما نوّهَ بأن جيشَ الجنوب هو جيش الجبهة القومية.

 

القـــوة الرئيسيـــة:

كانت بريطانيا، بحُكم معرفتها لكافة تفاصيل الوضع في الجنوب اليمني، تدركُ أن الجبهة القومية هي فعلاً القوة الرئيسية الموجودة في الساحة، ورغبة منها في إتمام انسحابها بالشكل الذي تراه، وبما أنها كانت تراهن في نفس الوقت على سرعة فشل وانهيار الحكم الوطني في حالة انفراد الجبهة القومية بالسلطة، استقر رأيها على أن تتفاوض مع الجبهة القومية وأن تسلمها السلطة وتسرع بترك المنطقة وخاصة أن الجيش العربي في الجنوب كان يحث بريطانيا على التعامل مع الثوار وكان يقصد بذلك الجبهتين في ذلك الوقت.

لذلك حدث تطوُّرٌ ٌكبير في موقف بريطانيا في 5/9/1967م، إذ أخطر اللورد (شاكلتون) البعثة الدولية لدى اجتماعه بها في (بيروت) بوجه نظر المندوب السامي البريطاني في (عدن) الذي يرى أن الموقف قد تغير تماماً في المنطقة وأن حكومة الاتحاد لم تعد تعمل وليس لها وجود، ولذا يجب القيام بمبادرة سريعة لحفظ الأمن وضمان السلام وتلافي الفوضى، كما نقل (شاكلتون) مقتطفاً من البيان الذي يزمع المندوب السامي توجيهه في 5/9/1967م، وهو بيان يتضمن تحولاً بارزاً في موقف بريطانيا إذ يؤكد نية بريطانيا في الجلاء وترك المنطقة في جو من السلام. ويشيرُ إلى البيانات السابقة للمندوب السامي التي كرر فيها رغبته في الاجتماع بالتنظيمات السياسية من أجل تشكيل حكومة عريضة تحل محل حكومة الاتحاد.

ويستطرد البيان مؤكداً أن حكومةَ الاتحاد لم تعد موجودة ومن الضروري أن تحل حكومة أخرى محلها بسرعة، وأكد المندوب السامي في بيانه الذي نقله (شاكلتون) إلى البعثة عن اعترافه بالقوى الوطنية التي تمثل الشعب واستعداده لبدء محادثات تسليم السلطة معها وتطبيق قرارات الأمم المتحدة. وانتهى البيان بأنه من أجل البدء في هذه المحادثات بسرعة فإن المندوب السامي يسره أن يتقابل مع ممثلي الجبهة القومية في المكان الذي يناسب الطرفين، وعبر عن أمله في أن تؤدي هذه المحادثات إلى قيام دولة الجنوب العربي المستقلة والمستقرة. وأكد (شاكلتون) أن حكومته لم تكن تريد الإقدام على هذه الخطوة قبل استشارة البعثة الدولية أو استبعاد (جبهة التحرير) التي هُزمت في الحرب الأهلية، إلا أن هذه الخطوة اقتضتها الظروفُ لمنع إهدار الدماء، وعبر (شاكلتون) عن اعتقاده بأن الجبهةَ القومية لا ترغَبُ في التعامل مع جبهةِ التحرير في الوقت الحاضر على الأقل الأمر الذي يفسّر عدمَ رغبتها في مقابلة البعثة.

غير أن في آخر لحظة عادت بريطانيا وغيّرت من البيان الذي كان مزمعاً أن يلقيه المندوب السامي البريطاني يوم 5/9/1976م، وقام هذا بإلقاء بيان تضمن نفس نقاط البيان السابق الإشارة إليه فيما عدا بعض التعديلات منها أن البيان وجه إلى القوى الوطنية بشكل عام ويقصد بذلك جبهتي التحرير والقومية معاً، وانتهى بالتعبير عن اغتباط المندوب السامي بالتصريح الذي ألقى بالمؤتمر الصحفي لقادة الجبهة القومية يوم 2/9/1967م ويفيد استعدادهم للتباحث معه ويسعده مقابلتهم وهو يأمل أن تؤدي هذه المحادثات إلى قيام دولة الجنوب المستقلة المستقرة.

 

مصــــير العمــــلاء:

يرى بعضُ الباحثين أن العوامل التي أدت إلى تعديل موقف بريطانيا بالرغم من اللفتة التي جاءت في نهاية البيان للجبهة القومية، هي:

أولاً: تبينها أن جبهة التحرير لا يزالُ لها نفوذٌ في بعض المناطق ويحسن إتاحة الفرصة لها لإمكان التوصل إلى حل للمشكلة.

ثانياً: لأن الجيش كان لا يزال منقسماً على نفسه ويوجد أنصارُ لجبهة التحرير من الضباط.

ثالثاً: لأن بعثةَ الأمم المتحدة كانت تعارض بشدة انفراد الجبهة القومية بتشكيل الحكومة الوطنية.

ولكن تواصل الحرب الأهلية بين الجبهتين (الجبهة القومية) وَ(جبهة التحرير) وانتهائها لصالح الجبهة القومية وإعلان (الجيش الاتحادي) ولاءَه لها جعل بريطانيا، التي انتظرت عبثاً اتفاق الجبهتين، أكثر استعداداً للتفاوُض مع الجبهة القومية. وقد أثار استعدادَ بريطانيا للتفاوض مع الجبهة القومية حفيظة، بل وصراخ أكثر من طرف. فالسلاطين ُالذين تداعت سلطتهم تحت ضربات مقاتلي الجبهة القومية هاجموا، هم، ووزراء الحكومة الاتحادية، بريطانيا واتهموها، صراحة، بالتآمر على إسقاطهم وتثبيت مكانة (الجبهة القومية) وتشجيعها على رفض مقابلة البعثة الدولية في (بيروت) في مطلع شهر سبتمبر 1967م، وكانت بريطانيا قد تخلت عن عملائها من السلاطين المتهالكين المتداعين ورفضت مد يد المساعدة لهم رغم علمها باشتراك قوات من جيش الجنوب إلى جانب الجبهة القومية بل إن بريطانيا نفسها وجهت إنذاراً إلى السلاطين قالت فيه أنها ستدعم جيش الجنوب العربي في حالة وقوع أي هجوم عليه من خارج الحدود مما دعاهم – السلاطين – إلى مهاجمة تصرفات بريطانيا واتهامها بالتهم السالفة.

 

دعـــاوى كاذبـــة:

ادعت (جبهة التحرير)، التي كان يقودُها (عبدالله الأصنج) وَ(محمد سالم باسندوة) وآخرون، أن قواتها كانت تضربُ من قبل سلاح الطيران البريطاني لدى سيطرة أنصارها على إحدى المناطق كما حدث في (كرش) على حدود اليمن الشمالي في أغسطس 1967م، وفي نوفمبر 1967م، بينما لم تتعرض الجبهة القومية لمثل هذه الهجمات عند استيلائها على المناطق، بل إن (علي الأسودي) – أحد أنصار جبهة التحرير ومن قادة المؤتمر العمالي – هاجم في مقابلته لبعثة الأمم المتحدة في (بيروت) يوم 5/9/1967م الجبهة القومية التي وصفها بأنها مجموعة من القتلة وأصدقاء بريطانيا، وتشكك في الطريقة التي تم بها إسقاط المناطق وهروب السلاطين ووصف ذلك بأنه مخطط بريطاني لتسليم السلطة إلى الجبهة القومية وناشد البعثة الدولية التدخل لوضع حد لما أسماه بالمؤامرة.

كذلك فقد رأت (القاهرة)، كما ورد في صحفها أن (لندن) تود أن تسلم السلطة في الجنوب اليمني إلى أية قوة تقف سراً أو علناً ضد القيادة المصرية، فهل صحيح أن بريطانيا قد تآمرت لصالح الجبهة القومية؟.

إن طرح هذا السؤال يبدوا أمراً مضحكاً، غير أن الإجابة عليه ضرورية في ضوء الاتهامات الموجهة إلى الجبهة القومية أكثر مما هي موجهة إلى بريطانيا.

إن الجبهةَ القومية هي التي فجّرت الثورة المسلحة ضد الاحتلال البريطاني للجنوب اليمني، وهي التي أرغمته على تقرير الانسحاب بعد أن ضاعفت الثورة من نفقات قوات الاحتلال، وللتذكير فإن السلاطين هم الذين تحالفوا مع قوات الاحتلال البريطانية منذ البداية لتثبيت أنفسهم في السلطة في مواجهة مطالب زعيم اليمن آنذاك الإمام (أحمد حميد الدين) بتوحيد الأرض اليمنية واستعادة أراضي الجنوب اليمني، ثم تحالف هؤلاء السلاطين الذين هرب معظمهم إلى (السعودية) مع قوات الاحتلال البريطاني مرة أخرى لمواجهة الثورة بقيادة (الجبهة القومية).

وبالنسبة لجبهة التحرير فإن قادةَ (حزب الشعب الاشتراكي) هم الذين رفضوا الانخراط في الكفاح المسلح لدى انطلاق الثورة لاعتقادهم بأن العمل السياسي لم يستنفذ أغراضه بعد، ولذلك فقد أدانوا الكفاح المسلح حين كانوا يراهنون على أن تفلح اتصالاتهم مع حكومة (حزب العمال) في تسلمهم السلطة، وقد ظلوا يراهنون على أن تسلمهم بريطانيا السلطة حتى وقت متأخر وبعد أن ساهموا في تشكيل جبهة التحرير كي تمارس الضغط العسكري على بريطانيا لتقبل التفاوض السياسي معها.

 


الجبهة القومية وبريطانيا:

لا شك في أن بريطانيا أصبحت تميل في النصف الأول لعام 1967م إلى تسليم السلطة للجبهة القومية، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: أن الجبهة القومية قد سيطرت فعلاً على أغلب مناطق الجنوب اليمني بدءاً من شهر يونيو 1967م وكان من شأن التفاوض مع الجبهة القومية أن يقلل من خسائر القوات البريطانية لدى انسحابها، كما أن تسليم السلطة لأي جهة أخرى كالسلاطين والحكومة الاتحادية مثلاً لم يكن ليمنع الجبهة القومية من السيطرة على السلطة فور انسحاب القوات البريطانية من آخر موقع لها في (عدن) مما من شأنه أن يظهر بريطانيا في مظهر المهزوم.

ثانياً: كان الإنجليز يعتقدون أن الجبهة القومية أضعف من أن تتولى السلطة منفردة، وأن جيش الاتحاد الذي انحاز إلى جانبها خالطاً أوراقه بأوراقها سيكون قادراً بعد فترة وجيزة من الاستقلال أن يعيدَ فرز الأوراق من جديد لينفرد هو بالسلطة من دون الجبهة وكان من شأن الاستمرار المتوقع للتوتر بين الجبهتين أن يساعدَ (عملاء الإنجليز في الجيش على الاستيلاء على الحكم).

ثالثاً: كان الإنجليز يستصغرون نفوذ الجبهة القومية لذلك فقد قرروا تأييدها بوصفها سلطة محتملة ولكن أكثر ضعفاً من جبهة التحرير معتقدين بأن هذه السلطة المحرومة من تأييد البلدان العربية لن تعمر طويلاً وسيسود في اليمن الجنوبية من جديد نظام ملائم لبريطانيا.

رابعاً: لا شك أن بريطانيا، شأنها شأن السعودية وأمريكا، لم تكن ترغب أبداً في رؤية اليمن وقد توحد مرة أخرى، كما أنها لم تكن ترغب أبداً في أن تجعل جنوب الجزيرة العربية منطقة نفوذ مغلقة للرئيس المصري (جمال عبدالناصر) مما من شأنه أن يقدم له نصراً سياسياً كان في أمس الحاجة له بعد نكسة يونيو 1967م، وللتذكير فإن ثورة 26 سبتمبر 1962م في الشطر الشمالي من اليمن كانت في حينها بمثابة النصر السياسي الذي كان يحتاجه (جمال عبدالناصر) بعد انفصال سوريا عن مصر في 28 سبتمبر 1961م.

وكان تسليمُ الحكم للجبهة القومية يحقق هذين الهدفين معاً. فتباين المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الجبهة القومية والحكم الجمهوري في شمال اليمن الذي أعيد تفصيله في اتفاقية أغسطس 1965م كان من شأنه أن يعرقل قيام الوحدة اليمنية مرة أخرى، كما أن روح العداء التي تعاملت بها الأجهزة المصرية مع الجبهة القومية، كان من شأنها – بالإضافة إلى الطرح الأيديولوجي المتطور عن طرح (عبدالناصر) والأكثر راديكالية وجذرية منه – أن لا تجعل النظام الجديد في (عدن) يدور في فلك (عبدالناصر) التحرري الوحدوي المنادي بالاشتراكية العربية.

خامساً: إن قيامَ نظام يساري على طريق الاشتراكية العلمية ويهتدي بالماركسية اللينينية ويسعى إلى تعميم نموذجه في المنطقة بأسرها في الزاوية الجنوبية الغربية للجزيرة العربية من شأنه أن يكون عامل ثورة وإقلاق للمنطقة بأسرها، وفي ذات الوقت، عامل إشعار لدول المنطقة إلى حاجتها المستمرة إلى تعزيز وتوطيد علاقاتها وتحالفاتها مع الغرب بقيادة أمريكا وهو ما حدث بعد ذلك حتى تم لأعداء الثورة والاشتراكية القضاء على النظام الثوري في جنوب اليمن.

ومع الأخذ في الاعتبار كُلّ هذه العوامل مجتمعة فإنه يجب التذكير بأن بريطانيا لم تعقد صفقة مع الجبهة القومية من أجل تسليمها السلطة منفردة فقد سعت (لندن) إلى تجيير الحقائق لصالحها دون اتفاق مسبق مع الجبهة القومية، وللتأكيد على هذه الحقيقة فإن الجبهة القومية بعد أن أعلن المندوب السامي البريطاني يوم 6 نوفمبر 1967م فقط اعتراف بريطانيا بالجبهة القومية ممثلاً شرعياً وحيداً لشعب الجنوب اليمني – بعد أن كانت تعترف بالجبهتين معاً – طلبت الجبهة القومية من بريطانيا أن تبدأ على الفور مفاوضات حول تسليم السلطة لها. وفي انتظار جواب الحكومة البريطانية أعلن قادة الجبهة القومية – إظهاراً لحسَن النية – وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد لمدة ثلاثة أيام اعتباراً من 8 نوفمبر وبعد انقضاء هذه المدة دون الحصول على جواب استأنفت الجبهة القومية بقوة جديدة العمليات العسكرية في (عدن) في 11 تشرين الثاني.

والواقع أنه خلال الأشهر الأحد عشر من عام 1967م، التي كان الإنجليز إبانها ما يزالون موجودين في اليمن الجنوبية قتل الفدائيون، حسب المعطيات الإنجليزية، (44) عسكرياً بريطانيا وَ(9) مدنيين، وجرحوا (337 وَ34) شخصاً على التوالي، وقتلت القوات البريطانية بدورها (119) شخصاً، وجرحت (123) من السكان المحليين، وحسب م عطيات يعتبرها الإنجليز أنفسهم غير دقيقة لقي مصرعه خلال هذه الفترة نتيجة الاقتتال الأهلي بين الجبهتين ما لا يقل عن (250) شخصاً، وجرح ما لا يقل عن (800) شخص.

 

المفاوضــــــات:

رداً على الرسالة التي بعث بها (سيف الضالعي) إلى وزير خارجية بريطانيا عن طريق المندوب السامي في (عدن) بتأريخ 11/11/1967م طالباً بدء المفاوضات بين الجانبين في 20 نوفمبر، أعلنت الحكومة البريطانية في 13 نوفمبر موافقتها على بدء المفاوضات مع الجبهة القومية، وفي اليوم التالي أعلنت أن القوات البريطانية ستغادر (عدن) في 29 نوفمبر بدلاً من 30، وكان الإنجليز يسعون إلى بدء المفاوضات بأسرع ما يمكن، كما يقول (تريفليان). لذا فقد اقترحوا بأن بتدأ المفاوضات في 16 نوفمبر، ووافق الجيش على هذا الاقتراح، ولكن قادة الجبهة القومية رفضوه على اعتبار أنهم لن يتمكنوا من القدوم إلى (جنيف) قبل 20/11/1967م، ووافقت بريطانيا على هذا الموعد.

شُكِّل وفد الجبهة القومية إلى المفاوضات برئاسة (قحطان الشعبي) رئيس المجلس التنفيذي للقيادة العامة – كان قد استعاد موقعه – وعضوية (فيصل عبداللطيف الشعبي) وَ(سيف الضالعي) وَ(عبدالفتاح إسماعيل) وَ(محمد أحمد البيشي). أما لوفد البريطاني فقد كان برئاسة اللورد (شاكلتون).

وقبل بدء المفاوضات أدلى (قحطان الشعبي) ببيان في مؤتمر صحفي أوجز فيه موقف الجبهة القومية في المفاوضات، وقد لخص الدكتور (أحمد عطية المصري) هذا الموقف في النقاط التالية:

1- تحقيق الاستقلال الفوري وانتقال السيادة إلى الحكومة الوطنية والتأكيد على وحدة أراضي الجنوب بما في ذلك كُلّ الجزر.

2- رفض الاتفاقيات العسكرية بما في ذلك الدفاعية على أن تقوم بريطانيا بتسليم ممتلكات الجيش البريطاني في الجنوب إلى حكومة الثورة.

3- رفض الأحلاف السياسية ورفض الانضمام إلى الكمنولث ومقاومة أية قيود سياسية وطلب إنهاء كُلّ معاهدات واتفاقيات بريطانيا السابقة مع السلاطين والاتحاد.

4- رفض القيود الاقتصادية والمادية ومع ذلك تقبل الجبهة القومية الارتباط بمنطقة الإسترليني لفترة محدودة قابلة للتجديد أو الإلغاء، وستقوم بطلب معونات مالية غير مشروطة.

ولكن المعونة المالية التي وعدت بها بريطانيا حكومة الاتحاد المنهارة وطالبت بها الجبهة القومية، رفضت بريطانيا تقديم هذه المعونة وذلك بسبب تغير الموقف حيث كانت ستقدم لحكومة الاتحاد مقابل شروط تبعية لبريطانيا لا تقرها الجبهة القومية.

 

الدور السلبي للأمم المتحدة:

برزت عقبة أخرى على طريق تسلم (الجبهة القومية) للسلطة غير أنه أمكن تجاوزها، تمثلت هذه العقبة في البعثة الدولية التي سبق أن شكلتها (الأمم المتحدة). فقد شجبت البعثة في تقرير لها إلى السكرتير العام للمنظمة الدولية ما وصلت إليه الأوضاع في اليمن الجنوبي وسيطرة الجبهة القومية وتعضيد الجيش هو دائماً رهن أوامر سلطة إدارة الإقليم وهي بريطانيا وأن إعلان الجيش عدم اعترافه بالجبهة الأخرى وهي التحرير يثير المخاوف واحتمالات تفجير الحرب الأهلية، واقترحت البعثة على أجهزة الأمم المتحدة أن تطلب من بريطانيا بوصفها سلطة الإدارة في الأقاليم أن تعمل على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة لكي يحصل الإقليم على استقلال حقيقي في إطار السلام والوفاق، وهذا يقضي بأن يقومَ اتصالٌ مباشرٌ بين بريطانيا والمنظمات الوطنية، وألا يترك الأمر لكي تقرره الجبهة القومية والجيش معاً.

والواقع أن تقرير البعثة الدولية كان مبنياً على عدم فهم أو تفهم الوضع في جنوب اليمن على حقيقته كما يحدث الآن في الموقف من الحرب العدوانية السعودية الأمريكية على اليمن، حيث كانت البعثة المذكورة تسترشد بالقرارات العامة للأمم المتحدة التي دعت إلى تشكيل حكومة عريضة بمشاركة التنظيمين الوطنيين كليهما – الجبهتان القومية والتحرير – وقد أشير في التقرير الذي قدمته بعثة الأمم المتحدة في 20 نوفمبر إلى أن تشكيل حكومة مستقلة على قاعدة واحدة فقط من الجبهتين سيؤدي حتماً إلى حرب أهلية، وقد أدى هذا التقرير إلى اتخاذ قيادة الجبهة القومية عدة خطوات دبلوماسية هدفها كشف وضع الأمور الحقيقية في جنوب اليمن للأمانة العامة لمنظمة الأمم المتحدة، كما قامت الجبهة القومية بنشاط سياسي لتوضيح الوضع في المنطقة أمام الرأي العام العربي.

وعموماً فإنه مع إعلان الاستقلال في 30/11/1967م انتهى كُلّ دور لبعثة الأمم المتحدة وللمنظمة الدولية بالنسبة لمرحلة التحرر الوطني؛ لأن الهدف قد تحقق بإقامة حكومة وطنية.

ومع إعلان الاستقلال انتهت أيضاً مرحلة من مراحل الصراع الداخلي بين الجبهة القومية وجبهة التحرير لتبدأ مرحلة أخرى من الصراع داخل الجبهة القومية ذاتها، كما كشفت عنه كافة التطورات اللاحقة وخاصة أحداث 1968م وَ1978م وَ1986م… إلخ.

 


المراجـــع:

1- د. صلاح العقاد، (جزيرة العرب في العصر الحديث)، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1969م، ص (118 – 119).

2- محمد سيد أحمد، (موقع معركة عدن من المخطط الاستعماري الجديد)، مجلة (الطليعة)، القاهرة، العدد (4) 1967م، ص (19).

3- د. أحمد عطية المصري، (النجم الأحمر فوق اليمن، تجربة الثورة في اليمن الديمقراطي).

4- الجريدة الرسمية (عدن)، العدد الأول، 10/11/1967م، ص (1 – 2).

6- مجلة (آخر ساعة)، القاهرة، 18/10/1967م.

7- اتحاد الشعب الديمقراطي، رفاق الشهيد السلفي، (وجهة نظر)، ص (12).

8- فيتالي ناؤومكين، (الجبهة القومية في الكفاح من أجل استقلال اليمن الجنوبية).

9- صحيفة (المصير) “عدن”، 25/11/1967م.

10- Trevelyan، ص (261 – 262).

+++++++++

عناوين فرعية

  • حقائق التأريخ تروي أن الغزاة دائماً يستحقرون عملاءهم، فقد تخلت بريطانيا عن عملائها من السلاطين وزراء الحكومة الاتحادية ورفضت مد يد المساعدة لهم
  • الجبهة القومية هي من فجّرت الثورة المسلحة ضد الاحتلال البريطاني للجنوب اليمني، وهي التي أرغمته على تقرير الانسحاب بعد أن ضاعفت الثورة من نفقات قوات الاحتلال
  • كانت الجبهة القومية قد سيطرت على مختلف مناطق الجنوب اليمني فعلياً وبالتدريج، ما أرغم الغازي البريطاني على المفاوضات بشأن الاستقلال
  • لم يعقد المحتل البريطاني صفقة مع الجبهة القومية لتسليمها السلطة منفردة، بل سعى إلى تجيير الحقائق لصالحه دون اتفاق مسبق معها
  • عوامل هامة غفل عنها من تناولوا مسألة الانسحاب البريطاني، منها تراجع أهمية القاعدة العسكرية البريطانية في (عدن) بعد استقلال المستعمرات البريطانية في الشرق الأقصى وخاصة الهند التي كانت تسمى دُرَّة التاج البريطاني

([1]) شاكر الجوهري، (الصراع في عدن)، مكتبة مدبولي، 1992م.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com