رسائل “القوة” في إنجاز صفقة تحرير الأسرى

التحولاتُ الميدانية التي صنعها الجيشُ واللجان دفعت العدوّ نحو “نزول اضطراري” من فوق الشجرة

 

المسيرة | ضرار الطيب

سلّطت صفقةُ تبادل الأسرى التي جرى إتمامها قبل يومين الضوء على عدة نقاط مهمة في مختلف الملفات المتعلقة بالعدوان على اليمن ومستقبل “عملية السلام”، وقد حظيت ردود الفعل المتفائلة بتحريك مياه اتّفاق “السويد” الراكدة، بالكثير من التناول بعد نجاح الصفقة، لكن في الواقع لم يكن التفاؤل وحدَه هو من أتم الصفقة، بل كانت أسباب أُخرى، أبرزها ما كشفه ناطق القوات المسلحة العميد يحيى سريع، حول الضغط الذي شكلته التحولات الميدانية في جبهات القتال على تحالف العدوان أثناء المفاوضات، وهو الأمر الذي يسلط كُـلّ الأضواء على رسائل “القوة” التي أرسلتها صنعاء من خلال النجاح في إتمام هذه الصفقة.

صحيحٌ أن مِلف الأسرى مِلف إنساني بحت، وعلى هذا الأَسَاس تتعامل معه القيادة الثورية والسياسية، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقةَ أن إبرامَ صفقة التبادل قد حُسب كإنجاز كبير لصنعاء، ولم يكن كذلك في رصيد تحالف العدوان ومرتزِقته على الرغم من اشتراكهم في الصفقة، وهذا ما عبر عنه، ظاهريا، الصدى الكبير الذي أحدثه وصول أسرى الجيش واللجان الشعبيّة إلى مطار صنعاء، بالمقارنة مع وصول أسرى الطرف الآخر.

سُجل إنجاز صفقة تبادل الأسرى لصالح صنعاء لأسباب جوهرية يمكن الاقتراب نحوها بدءًا من حقيقة أن تحالف العدوان كان يعرقل أي تقدم في مِلف الأسرى منذ عامين، ويرفض التعامل معه كمِلف إنساني، بل يربطه بوضوح بالملفات السياسية والعسكرية؛ باعتبَاره ورقةً صالحة للعب فقط عند “الحاجة”، وهذا ما يشهد به تأريخُ المفاوضات في ملف الأسرى منذ التوقيع على اتّفاق ستوكهولم، ناهيك عن حقيقة الخلافات بين الأطراف المتعددة للعدو في هذا الملف، وعدم وجود جهة ممثلة رئيسية تمتلك قرارها في المفاوضات، الأمر الذي يعني أن تحالفَ العدوان لم يكن ينوي منذ البداية التعاملَ مع هذا الملف كملف إنساني.

أمام هذه الحقيقة يطرح سؤالٌ نفسَه، وبإلحاح لا يمكن مقاومته، حول سبب تغير موقف تحالف العدوان من ملف الأسرى، وموافقته على إنجاز صفقة تبادل هي الأكبر؟ وهو سؤال يقود مباشرة وبشكل منطقي إلى البحث عن ظروف التوقيت الذي حدث فيه هذا التغير، لنجد أن العدوّ لم يبدأ بالتعامل مع ملف الأسرى كملف إنساني، بل إن صنعاء قد استطاعت أن تربك حساباته التي كانت تجعله يستمر بعرقلة هذا الملف، وبالتالي جعلته يحاول تغيير استراتيجية العرقلة، وإن لكسب الوقت.

هذا ما تقوله كُـلّ مؤشرات الوضع الميداني التي كانت تحولاته هي الأبرز والأكبر خلال الفترة التي سبقت صفقة التبادل، حيث خسر العدوّ جبهات واسعة بأكملها في عمليات كبرى متتابعة لقوات الجيش واللجان، حتى وصل خطر هذه الخسائر إلى مشارف مدينة مأرب المعقل الرئيس (وربما الأخير من نوعه) لحكومة الفارّ هادي.

ناطقُ القوات المسلحة العميد يحيى سريع كان صريحاً، قبل يومين، في التعبير عن تأثير “الاقتراب العسكري من مدينة مأرب” بالذات على المفاوضات في ملف الأسرى، حيث أشار إلى أن المتغيرات في مأرب ضغطت على العدوّ، وهو الأمر الذي يلتقي مع إشارة لرئيس الوفد الوطني محمد عبد السلام، اعتبر فيها صفقة التبادل “جزءًا من معركة التحرّر ودعم الجانب العسكري مهم في هذا الجانب”.

ليس الأمر أن صنعاء تعاملت مع ملف الأسرى بغير ما تقتضيه طبيعته الإنسانية، فالتحولات الميدانية الكبرى التي صنعتها في جبهات القتال لم تكن فقط لأجل الضغط على العدوّ في ملف الأسرى، بل هي -كما أوضح عبد السلام- جزء من معركة التحرّر التي تقتضي في جزء محاصرة العدوّ في خياراته إلى حَــدِّ ألا يجد أمامه سوى الخيارات التي تصب في مصلحة “صنعاء” حتى وإن اتخذها بدافع كسب الوقت والمراوغة، أَو سعى لتجزئتها، وخيار تحريك ملف الأسرى كان إحدى هذه الخيارات التي “اضطر” إليها العدوّ اضطراراً.

هكذا تُحسب صفقة التبادل إنجازاً لصالح صنعاء؛ لأَنَّها هي الطرف الوحيد الذي صنع متغيراتٍ جديدةً في معادلات الصراع، ساعدت على الوصول إلى هذا الإنجاز.

ورسائلُ القوة التي أرسلتها صنعاء من خلال النجاح في إنجاز هذه الصفقة ليست غريبة على المشهد، إذ سبق وتمكّنت القوات المسلحة وقوات الجيش واللجان من دفع العدوّ نحو الانقلابِ على تعنته وتغيير حساباته أكثر من مرة، وإن بشكل ظاهري، ولعل اتّفاق السويد نفسه شاهدٌ على ذلك، إلى جانب العديد من محاولات العدوّ للمراوغة بالحديث عن السلام والتي كانت دائماً تأتي بعد ضربات كبرى يتلقها في عمقه.

والحقيقة أن الاستراتيجية التي تتبعها صنعاء في دفع العدوّ دفعاً نحو اتِّخاذ الخيارات التي يقتضيها السلام (وإن لم يكن يتخذها هو لأجل السلام) هي استراتيجية معلنة، عبرت عنها القوات المسلحة والقيادة الثورية والسياسية أكثر من مرة، آخرها تصريحات العميد يحيى سريع الأخيرة التي أكّـدت استعداد صنعاء “لعمليات كبرى إن لم يتجاوب العدوّ مع دعوات السلام”.

وقد عبّر السيدُ عبد الملك بدر الدين الحوثي نفسُه عن هذه الاستراتيجية بشكل عام، مؤخّراً، في تناوله لموضوع “السلام الحقيقي” الذي ربطه بـ”القوة” بشكل واضح.

وعلى ضوء ذلك، فالقول بأن صنعاءَ استطاعت أن “تنتزعَ” صفقة تبادل الأسرى؛ بفعل تظافر معطيات “قوتها” في معادلة الصراع، هو قول لا يفتقر إلى الأدلة أبداً، بل تؤيده كُـلّ منحنيات ومسارات الواقع الميداني العسكري والأمني، وَأَيْـضاً الواقع السياسي الذي تظهر “صنعاء” فيه مؤشرات قوة متصاعدة في نشاطها الدبلوماسي وحتى في تمثيلها في المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة، والتي شهدت منذ بدايتها محاولاتٍ كثيرةً من قبل العدوان للالتفاف على صنعاء وخداعها والضغط عليها إلا أنها كانت دائماً متماسكة، واستطاعت بفعل تكامل عناصر القوة أن تصلَ إلى إنجاز مثل هذه الصفقات التي ما كان للعدو أن يتجاوب معها لو أنه لا زال يستطيع أن يرفضَها.

وثبوتُ هذه الحقيقة الآن، بشكل عملي، هو الأمر الذي يمكن أن يعتمد عليه “التفاؤل” بأي تقدم في مِلفات الحل؛ لأَنَّ الحديث هنا يكونُ عن متغيرات عملية أظهرت فاعليتَها في إنجاز خطوات عملية، أما النسخةُ الأُخرى من التفاؤل، تلك الخَاصَّة بالمسؤولين الأمميين مثلاً، فهي غيرُ جديرة بالاعتماد عليها، كما هو حالُ النُّسَخ المماثلة من “القلق” وَ”الأسف” وبقية المشاعر الأممية الأُخرى.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com