ثورة الـ14 من أُكتوبر المجيدة بين ماضيها وحاضرها

 

عبد القوي السباعي

كانت الشرارة الأولى التي أطلقها الثوّارُ من قمم جبال ردفان الأبية، يوم الرابع عشر من أُكتوبر عام 1963م، فاصلةً بين زمنٍ بريطاني محتلٍّ، سعى إلى طمس ملامح الإنسان والمكان، وزمنٍ يمني حُــرٍّ سعى إلى استرجاع هذه الملامح، وقد اشترك الزمنان المتضادَّان في خاصية الفشل، البريطاني فشل في أن يبقى في جنوب اليمن، واليمني الجنوبي بات فاشلاً في أن يحافِظَ على قيم ثورته ويكرِّسُها في واقعه المعاش.

لقد تميّز المشهدُ اليمني الجنوبي عن كثيرٍ من المشاهد العربية أَو العالمية الأُخرى التي تعرّضت للاحتلال البريطاني، إذ لم يعرفْ أيَّ شكلٍ من أشكال الانتفاضات والغضب والغليان الشعبي على مدى 139 عاماً من الاحتلال إلَّا ما ندر من أحداثٍ جانبيةٍ في إطارها السلمي التي كانت تصنعُها الفعالياتُ والنقاباتُ والنُّخَبُ القبَلية والمثقفة، وبإذنٍ مُسبق من كيان الاحتلال، حتى جاءت الطلقةُ الثوريةُ الأولى العام 62م، والتي تواصلَ اشتعالها وزلزلت الأرض من تحتِ أقدام المستعمر إلى تحقيق استقلاله التام في العام 1967م.

وعلى مدى 57 عاماً من عمر الثورة حتى اليوم، شهدنا الكثيرَ من الأحداث والتطورات، والعديدَ من الوقائع والمتغيرات، بينما قفزت القوى التقليديةُ إبّان الاحتلال على ظهر الثورة وتحدّثت باسم الثوار، وحقيقةً فأكثرُهم اتّخذوا من مشاركتهم في ثورة التحرير دليلَهم الأوّلَ على جدارتهم بالحكم بعد أن أزاحوا عن طريقِهم معظمَ الكوادر الثورية الحقيقية، لكنهم فشلوا جميعاً في تحقيقِ أهداف الثورة واقعياً، رغم الثروات الكبيرة التي كانت تزخَرُ بها الجمهوريةُ الوليدة، والمؤهلات العملاقة التي تهيأت لها ليس على مستواها المحلي بل المنطقة ككلٍّ.

إنَّ الشرعيةَ الثوريةَ المزيَّفة التي زرعها ودعمها المحتلُّ البريطاني قبلَ وبعدَ رحيله وجلائه، بقيت تحكُمُ بديلاً عن الشرعية الجماهيرية الشعبيّة، والتي لا تزالُ حتى اليوم هي المتصدرة للمشهد العام، فحوّلت ذكرى اندلاع ثورة التحرير، إلى صنمٍ سنوي بلا روح، يقفُ بعضُهم بين يدَيه في الظلام، ليثبتوا أنهم لا يزالون على العهدِ والوعد، ثم ينسحبون إلى واقعٍ يحلمون فيه بالانسلاخ عن الهُوية اليمنية الأُم، ويتحرّقون شوقاً لأيام الاحتلال وسنواته وفعالياته.

هل يحقُّ لسياسيٍّ أَو عسكري وصل إلى سُلَّمِ القيادة في مختلفِ مفاصل السلطة باللفّ والدوران بالتزوير والاحتيال، وبقي فيها بالرشوة والقوة وشراءِ الذمم، من غير أن يبذُلَ جهداً خارجَ هاجس الوصول والبقاء، أن يحتفلَ بذكرى ثورة التحرير الأُكتوبرية؟!

هل يحقُّ لسياسيٍّ أَو عسكري أَو حراكي، هرول ويهرول لينفِّذَ توجيهاتِ وأوامرَ المحتلّ ويخدمَ توجُّـهاتِه التي تحقّق مصالحَه في استباحة الأرض والثروة، واستحواذه على القرار، ولا زال يتلقّى الدعمَ المادي واللوجستي من المحتلّ بشكله الجديد وهيئته المعدَّلة عربياً، أن يحتفلَ بذكرى ثورة التحرير الأُكتوبرية؟!

هل يحقُّ لرجلِ أعمال جمع ثروتَه من خزينة الشعب ومن عَرَقِ المطحونين بالفقر والجوع من أبناء الشعب، ومن الفساد المستشري في صفقات المشاريع التي حظي بها بعيدًا عن النزاهة والشفافية، أن يحتفلَ بذكرى ثورة التحرير الأُكتوبرية؟!

هل يحقُّ لمن يقاتلُ في صفوف الغزاة والمستعمرين أَو يدعمُهم بالقول والموقف أَو أن يصمُتَ، ويدّعي حُبَّه للثورة وأن له فضلاً في بقاء ثورة التحرير، بأن يحتفلَ اليومَ بذكراها، وهو لم ينبس ببنت شفة في وجه العدوان، في وجه الخراب والدمار والجرائم المرتكَبة من طرف العدوان، مكتفياً بالاستمتاع بالمشاهد اليومية المؤلمة؟!

وهُناك الكثيرُ ممن كان مأمولاً فيه ومعولاً عليه، من العلماء والمشايخ والفقهاء، غير أنّهُ لم يكتفِ بالسكوت، بل إنَّه انخرط في مسعى التزكية والدفاع والشرعنة للعدوان والاستمرارية للاحتلال، هل يحقُّ لمثقفٍ لا يهتمُّ بالشأنِ الوطنيِّ العام، ولا يحملُ أيَّ موقف ولا يقدم نفعاً وليس مصداقاً لأية رسالة، وإن حدث أن اهتمَّ فمن باب المماحكة والمناكفة وتلميع واقع زائف والتغني به وبرموزه، بأن يتغنَّى بأمجادِ الثورة الأُكتوبرية والاحتفال بذكراها الـ 57؟!

لقد فعل أُكتوبر العظيمُ فعلتَه بتحرير البلاد والعباد؛ بفعلِ الصّدقِ والأمانة والإخلاص، والتضحية والفداء، الوعي والحرية؛ بفعلِ التصميمِ والإرادَةِ والعزةِ والكرامة، الذي كان يمتازُ به الثوارُ من الرعيلِ الأول والشهداء الأبرار فكراً وهُويةً، وجسّدوها سلوكاً وممارسةً، فأين أنتم أَيُّها الساقطون في وَحْلِ الخيانة والعمالة والارتزاق من كُـلِّ هذا؟!

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com