معركة مأرب.. بريشة النفط ونكهة السيادة

 

 المسيرة | تحليل: عبد الله علي صبري

حين تفاقمت أزمةُ الوحدة الوطنية وإلى أن تخلَّقَ الحراكُ الجنوبي في 2007م، ظهرت كتاباتٌ ومطالِبُ سياسيةٌ تربِطُ بين الثروة والسلطة وضرورة المواءمة بينهما، في إشارة إلى الاكتشافات النفطية والغازية في محافظتَي حضرموت وشبوة الجنوبيتين بعيد قيام الوحدة اليمنية، إذ طالب البعض بتمثيلِ الجنوبِ في السلطة بما يتناسَبُ وحجمَ الثروة النفطية التي تحوزها المحافظات التي كانت ضمن خارطة دولة اليمن الديمقراطية الشعبيّة عند الإعلان عن الجمهورية اليمنية في 1990م.

وحظيت المطالبُ الحقوقية والسياسية التي شكلت ركيزة القضية الجنوبية تفهماً وتعاطفاً من القوى السياسية المعارضة للنظام السابق. ومن وحي بيانات أحزاب اللقاء المشترك المعارض تسللت الأفكار المتعلقة بإصلاح مسار الوحدة اليمنية، وإعادة النظر في النظام السياسي، وطبيعة توزيع السلطة على المحافظات اليمنية بشكل عام.

إلا أن القضية الجنوبية ألهمت القوى الاجتماعيةَ الأُخرى في المحافظات الشمالية أَيْـضاً، وظهر إلى السطح ما يمكن تسميتُه بالقضية المأربية، نسبةً لمحافظة مأرب النفطية، وعلى غرار المطالب الجنوبية، طالب مشايخ وأعيان مأرب بحصة متناسبة من الثروة النفطية، وبتمثيل عادل في السلطة السياسية. وسمحت الفترة الانتقالية التي شهدتها اليمن منذ 2011م، بارتفاع سقوف المطالب السياسية والحقوقية للطيف السياسي والاجتماعي اليمني. وجاء مؤتمر الحوار الوطني الشامل في 2013م، فشكل القناة المناسبة لبلورةِ مختلفِ الأفكارِ والمشاريع واستيعابها في مخرجات المؤتمر، وعلى رأسها التوافق على الدولة الاتّحادية.

وعلى هامش مؤتمر الحوار، وفي إطار الصراع السياسي بين القوى التقليدية والجديدة، تسربت إلى الصحافة حقائقُ مفجعةٌ عن استحواذ أُسَـــرٍ بعينها على ثروة البلاد النفطية، الأمر الذي شجّع أعضاءَ مؤتمر الحوار على المطالبة بضرورة توزيع السلطة والثروة وعدم تمركزها في أقلية بعينها. بَيْـدَ أن هذه الأقليةَ وإن كانت قد قبلت بالتخلي عن السلطة على مضض، إلا أنها عضَّت على النواجذ حتى لا تخسر ثروتَها ومصالحَها غيرَ المشروعة بالطبع، وأمكن لها خلط الأوراق مجدّدًا، حين مضت في التوافق على تقسيم البلد إلى ستة أقاليم، في التفاف لا يخلو من الكيد السياسي على مطالبِ الحراك الجنوبي، ثم على المطلب العام للقوى السياسية التي كانت تتطلع إلى تقسيم عادل ومتوازن، يكون مدخلاً لحل مشكلة الوحدة والمركَزية، وأَسَاساً معقولاً لتوزيع الثروة والسلطة دون إخلال بجوهر النظام الديمقراطي والتمثيل النيابي للمجتمع والأحزاب السياسية.

في غمار يوميات المؤتمر أَيْـضاً، ظهرت قضيةُ نفط الجوف (وهي محافظةٌ في شمال البلاد على الحدود مع المملكة العربية السعودية)، فقد جادت التناولاتُ الإعلامية بأرقام كبيرة عن المخزون النفطي في هذه المحافظة، وشرحت كيف أن اليمن كانت ممنوعةً من التنقيب عن النفط في هذه المحافظة؛ بفعل التدخل السعودي الضاغط. وقد شكل العاملُ الجديد مدخلاً لتقسيم الأقاليم وِفْـقًا لثروتها النفطية القائمة والمحتملة، فظهر أن التوافقَ على الستة الأقاليم بالتوزيع المعلَن عنه، كان نتاجَ تسويات بين شخصيات (شمالية) نافذة ومتحكمة في اقتصاد البلد وثروته، وبين شخصيات (جنوبية) تتطلعُ إلى حصة معقولة من النفوذ والثروة، حتى وإن غادرت السلطة.

وبينما كانت طبخةُ القوى التقليدية تعملُ باتّجاه فرض دولة اتّحادية من ستة أقاليم، كانت الحربُ على صعدة قد اتسع نطاقُها لتشمَلَ محافظتَي الجوف وعمران قبيل وصولها إلى صنعاءَ ببضعة أشهر. وتحت غطاءِ ومِظلةِ الجيش اليمني، كانت مليشياتُ حزب الإصلاح القوةَ العسكريةَ الأبرزَ في المواجهات مع قوات أنصار الله سابقاً -اللجان الشعبيّة لاحقاً-.

تسابق الطرفان المحليان على محافظة الجوف التي يُعتقَدُ أنها غنيةٌ بالنفط، باتّجاه فرضِ الأمرِ الواقع، فبينما حاول حزبُ الإصلاح إنفاذَ التقسيم السداسي سيِّءِ الصيت، اتجه أنصار الله إلى إعاقةِ المخطّط، بالسيطرة الميدانية على محافظة الجوف، التي أُدرجت ضمنَ إقليم سبأ النفطي (مع محافظتَي مأرب والبيضاء). وقد رفض أنصارُ الله هذا التقسيمَ الذي كان على حساب الإقليم المجاور_إقليم آزال، الذي يضُمُّ محافظات (صنعاء، صعدة، عمران، ذمار)، وهي محافظاتٌ معزولةٌ عن البحر، ولا تحوي ثرواتٍ ومواردَ نفطيةً، على عكس إقليمَي سبأ وتهامة في شمال البلاد. وقد أدرك المراقبون السياسيون أن في هذا التقسيم مكيدةً سياسيةً لأنصار الله وسكان “الهضبة الزيدية”، حيث تعمدت القوى التقليدية حشرَهم في إقليم فقير وحبيسٍ ذي صبغة طائفية.

وبصراحة تنُــمُّ عن بُعدِ نظرٍ، ذهب القيادي في أنصار الله محمد ناصر البخيتي إلى القول بأن هذا التقسيمَ الذي جرى الإعلانُ عنه بشكل رسمي في فبراير2014م، قد قسَّم البلادَ إلى “أغنياء وفقراء”، بدليل أن التقسيمَ أتى بصعدة مع عمران وذمار، والمفترَضُ أن تكونَ صعدةُ أقربَ ثقافيًّا وحدوديًّا واجتماعيًّا من حجّـة والجوف. وأضاف: التقسيم المعتمدُ أتى لخدمة المملكة العربية السعودية؛ ليعطيَها مساحةً كبيرةً قبلية نفطية على الحدود، في إشارة إلى علاقة السعودية بالزعامات السياسية والقبلية في إقليم سبأ المزعوم، الذي كان يفترَضُ أن يضُمَّ محافظتَي الجوف ومأرب النفطيتين.

لكن قبل أن تستويَ الطبخة ويجري تعميدها في عقد اجتماعي جديد، جاءت ثورة 21 سبتمبر 2014م، فعطلت مفاعيل المؤامرة والكيد السياسي، ووضعت حداً لأوهام قوى النفوذ التقليدية والجديدة، وبات على الداخل والخارج أن يتعاملَ مع متغير جديد أبرز ما فيه أنه أعلى من شأن سيادةِ البلاد واستقلالية القرار السياسي والوطني. وهذا هو السبب الأبرز الذي جعل السعودية تندفعُ نحو العدوان العسكري على اليمن؛ بهَدفِ إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 21 سبتمبر، بما يسمحُ باستمرار الوصاية على صنعاء، ويحولُ دون خروج المارد اليمني من القمقم.

وبالموازاة مع الحرب العدوانية المستمرة منذ ست سنوات، استعرت حولَ المناطق والمحافظات النفطية حربٌ أُخرى لا تقل ضراوة عن الحرب الكبرى. فقد حاولت السعودية بعدوانها العسكري على اليمن فرضَ مخطّط الأقاليم بالقوة، ومكّنت حلفاءَها ومرتزِقتها من السيطرة على المناطق النفطية في حضرموت وشبوة ومأرب، وسبقهم إلى ذلك تنظيم القاعدة الإرهابي، حيث أمكن لعناصره السيطرةُ على محافظة حضرموت، وعلى مدينة المكلا ومعسكراتها ومطارها، خلال عشرين يوماً فقط من بدءِ ما يسمى بعاصفة الحزم.

ركّزت خطةُ التحالُف السعودي الأمريكي على البدء بالسواحل في المحافظات الجنوبية على طول الشريط الممتد من باب المندب، فعدن، مُرورًا بمدينة المكلا في حضرموت، وحتى الغيضة في المهرة، وشجعهما على ذلك عاملين رئيسين:

أ‌-       الطبيعة الجغرافية لمحافظة عدن وما حولها، فالأرض الساحلية المكشوفة منحت العدوانَ نقطة تفوق، فقد حاصر المدينة جواً وبحراً، وأمكن له قطعُ الإمدَادات التي كانت تنتظرها اللجان الشعبيّة المدافعة عن المدينة.

ب‌-      الحاضنة الاجتماعية المعارضة لأنصار الله ولقوات (الشمال) اليمني عُمُـومًا، فقد أمكن لإعلام التحالف الاستفادةُ من المزاج الشعبي (الجنوبي)، وتوظيفه باتّجاه محاصَرة اللجان الشعبيّة القادمة من الشمال.

وفي شرق البلاد وشمالها، سارعت قوى الاحتلال والمرتزِقة للسيطرة على محافظة البيضاء، والعمل على إلحاقها بإقليم سبأ المزعوم (مع محافظتَي مأرب والجوف)، إلا أن القوات الغازية تكبَّدت خسائرَ فادحة بعد أن استماتت اللجانُ الشعبيّة في الدفاع عن المحافظة، ما جعل العدوانَ يبحَثُ عن اتّجاهٍ موازٍ من خلال تفعيل معركة مأرب، التي هدفت إلى:

1-      تأمين منابع النفط في مديرية صافر والحؤول دون وصول اللجان الشعبيّة إليها.

2-      تثبيت ما يسمى ” إقليم سبأ ” كأمرٍ واقعٍ، والدفع بالمعارك باتّجاه محافظتَي الجوف والبيضاء.

3-      تجهيز منطقة مأرب العسكرية كقاعدة لمهاجمة صنعاء انطلاقا من جبهة صرواح، على غرار ما فعلته القوات الملكية المدعومة سعودياً في ستينيات القرن الماضي، حين عملت على محاصَرة العاصمة صنعاء، ومحاولة إسقاط النظام الجمهوري.

وبعدَ سيطرة القوى الغازية مع مليشيات الإصلاح على المحافظة، جرى استغلالُ النفط فيها لتحقيق هدفين رئيسين: الإثراء غير المشروع لقوى النفوذ القديمة والجديدة وأغلبها محسوبةٌ على مليشيا الإصلاح، وإمعان الحصار الاقتصادي على صنعاء من الداخل بالموازاة مع الحصار الخارجي بحراً وجواً..

وطوالَ الخمس السنوات الماضية، تقاطر الآلافُ من عناصر الإصلاح تحتَ مسمى النزوح الإنساني، والتحق الغالبية منهم بجبهات القتال؛ دفاعاً عن الثروة النفطية التي يتحكم فيها قادتهم، ويتقاسمون عوائدَها، على طريقةِ اللصوص وقُطّاع الطرق.

واليوم، فَإنَّ القواتِ المسلحةَ اليمنيةَ وهي تقتربُ من استكمال تطويق مدينة مأرب، والوصول إلى منابع النفط فيها، تفتحُ المعركة الوطنية على بوابة الانتصار للوحدة وللسيادة، واستعادة الثروة الوطنية حتى يستفيدَ منها كُـلُّ الشعب، وفي المقدمة أبناء قبائل مأرب الذين ظلوا محرومين من ثروة بلادهم لعقودٍ طويلة.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com