كربلاء.. خلودٌ ليس كمثله خلود

 

دينا الرميمة

عندما يتنامى ويعلو صوتُ الظلم مخلفاً مظلومين كُثْـراً سُلبت حقوق كفلها الله لهم وأمن لهم سبل حياتهم على يد المتجبرين، من تسول لهم أنفسهم الشيطانية مخالفة سنن الله تجبراً واستعلاء وتعدياً على كُـلّ تشريعات السماء ونواميسها، هنا ومهما طال أمد الظلم فلا بد من يوم يثور فيه أصحاب الحق على هؤلاء المردة المارقين لإصلاح ما أفسدوه حتى يتسنى للجميع العيشُ على هذه الأرض التي لم تكن إلا دار اختبار وتمحيص للبشر الفائز فيها من سلك النهج السوي الذي لا عوج فيه ولا أمتاً.

فكيف عندما تنتهك حرمات دين ودولة إسلامية تركها النبيُّ الأعظم وهي في كامل ازدهارها وتقاها أمانة عند أصحابه ليتسلمها من وصى بتسليمها له بعد أن رباه وهيأه لهذا الأمر العظيم، فخالفوا أمره وسلموها لمن أوصلها إلى مهبِّ ريح الحقد الأموي ورحى الطمع والانتقام من الإسلام وآل بيت رسول الله، حتى وصلت بهم الجرأة على الله ورسوله بقتال معاوية المتمرد لأمير المؤمنين وإمام الأُمَّــة وسيد الأوصياء ثم محاربته للإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة وتحريف مفاهيم الدين وأهداف الرسالة الإلهية التي قامت عليها دولةُ الإسلام، ثم تسليمها إلى ولده الفاجر الفاسق تعدياً على اتّفاق ارتضاه الإمام الحسن برغم حيفه وإجحافه.

وبدلاً عن إعادة الرأي للمسلمين، فرض ولده يزيد ليحيي حقد أبائه وأجداده على آل بيت الرسول، الذي بدوره ثار انتقاماً لأجداده المشركين من قاتليهم ومن دين سلبهم هيبتهم وأعلنها دولة قائمة على الفسق والفجور وشرب الخمر وَمصاحبة الماجنات وقضاء الليالي في اللهو والترف ونهارها في الظلم والقتل والتآمر على آل بيت رسول الله.

فكانت تلك الأسباب من أكبر الدوافع التي جعلت الإمَــام الحُـسَين يعلن ثورته ضد الظلم والفساد والباطل، ويحدّد لثورته مبادئها القويمة الخالية من الأطماع الدنيوية في زمن يلهث ورائها الكثيرُ وغلب عليهم حب الدنيا.

فكانت مبادئ ثورته -عليه السلام- كما أعلنها لأهل مكة، إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، إنما خرجت للإصلاح في أُمَّـة جدي رسول الله، آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأرى الحياة مع الظالمين برماً، معلناً رفضه الظلم على أُمَّـة جده التي توشحها ظلم وفجور بني أمية الذين نفروا الناس من اعتناق الإسلام.

ومن هنا نعرف أن ثورته لم تكن لأجل منصب أَو حكم أَو غاية شخصية، إنما لإحقاق الحق وإزهاق الباطل ثورة في وجه حاكم مستبد وفاسق متمرد، ثورة لأحياء معالم الدين الحقة لا تلك التي صاغها معاوية وعمرو بن العاص بالمكر والحيلة وأحاديث مغلوطة حرفت منهجية الدين.

حقيقة لم تكن ثورة الإمَــام الحُـسَين إلَّا ثورة الحر الشجاع، ثورة أَسَاسها “أن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة”، وهنا تبرز الشجاعة والاستبسال في مواجهة الطاغية مهما عظمت التضحيات في سبيل إعلاء كلمة الله.

فكانت ثورةً قدّم فيها الإمام أروع الأمثلة في التضحية والشجاعة والإباء، ثمنها رأسه الشريف ودماؤه الطاهرة، ليخط مساراً تاريخياً لكل المظلومين في زمن كثرت فيه السيوف عليه وقل فيه الناصر إلا من أُولئك الذين قال عنهم -عليه السلام-: (لم أرَ أصحاباً في الدنيا أوفى من أصحابي، ولا أهلاً أوصى من أهلي)، من تمنوا أن يقتلوا وينشروا ويذروا ثم يفعل بهم ذلك ألف ألف مرة في سبيل ثورة الحسين، والوقوف في وجه من خذلوه وأعانوا عليه الطغاة والمتجبرين حبًّا في الدنيا وملذاتها، فانهالت سيوفهم ورماحهم على جسده الطاهر وذبحوا رأسه الشريف وحملوه على رؤوس الأسنة واعتلوا بجيادهم جسده الشريف، واقتادوا بنات رسول الله سبايا مكبلات من الكوفة في العراق إلى دمشق في الشام، في أكبر فضيحة شهدها التاريخ لمن يدّعي خلافة الدولة الإسلامية.

بينما الإمام الحُـسَين خلد هو وأصحابه للتاريخ حياة ناصعة لن تموت وكذلك العظماء أمثالهم، نعم هو الخلود الأبدي على مَــرِّ الأزمان والكرامة التي لا تضاهيها أية كرامة، بل وجميعنا نستقي منها كرامتنا وعزتنا، فيما أُولئك الساقطون رغم كثرتهم وشيطنتهم فقد سقطوا في وحل أفعالهم التي دونها رواة التاريخ الحي، لعنات تصب عليهم صبًّا في كُـلّ زمان ومكان، وأين ما وجد أمثالهم من الطغاة ليثور عليهم الأحرار بنهج ثورة لطالما حاول منهجو النهج الأموي تغيبها وتغيير معالمها، وبالرغم مما اقترفته أياديهم الآثمة من تزوير في التاريخ، إلا أن “يا لثارات الحسين” و”هيهاتَ منا الذلةُ”، خُلدت كشعارات ومنهج في كُـلّ الثورات على الظلم والطغيان، واليمن خير دليل وبرهان.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com