مدينة صنعاء القديمة.. رائعة تراث عالمي تحت الرماد تبكي.. وعلى جمر القصف تحترق

 

 

المسيرة – إبراهيم العنسي

لصنعاء القديمة حكاية تمتزج فيها فرحة الأمس، يوم أن أصبحت إحدى روائع التراث العالمي كواحدة من أقدم مدن العالم المأهولة بالسكان، وحزن اليوم مع تقلب الزمن وإهمال البشر وحقد الآخر.

لقد تعاظمت حاجةُ صنعاء للاهتمام مع مرور الوقت أكثر فأكثر.

صنعاء عاصمة الروح في شعر المقالح تبحث اليوم عن الروح لذاتِها، وفي شعر البردوني تستبدل أوصافها، فهي المليحة عاشقاها الحرب والألم.

 

اللاوعي.. أهمل هذه الجوهرة

عقود مضت من الإهمال في حق هذه المدينة، فبعد ضمها العام 1986 إلى قائمة التراث الإنساني كإحدى روائع التراث العالمي، إلَّا أنها لم تحظ بذلك الاهتمام الذي كان يؤمل، وكما يقول متخصص التراث اليمني المهندس محمد الديلمي: “ضعف حال المدينة الذي رأيناه اليوم هو نتيجة في جزء منه لإهمال الدولة في العقود التي تلت ضم اليونيسكو لصنعاء ضمن قائمة التراث العالمي، فالإهمالُ برأيه كان أَسَاساً موجوداً ما قبل 2011، حيث بدأت المشكلةُ منذ نهاية التسعينيات عندما انتهت صلاحية شبكة الصرف الصحي للمدينة التي تم تنفيذُها بداية الثمانينات، وكانت تفتقد لخدمة الصيانة الدورية، وبالتالي كانت المياه تتسرب إلى أَسَاسيات المباني التاريخية وتعرضها لخطر الانهيار مثل ما حدث لحوالي 10 مبانٍ تاريخية غرب الجامع الكبير، وأدّى إلى سقوط إحداها مؤخّراً بيت عصدة الذي يصل عمره إلى 600 عام؛ بسَببِ الأمطار وبسبب توقف مشروع الترميم والصيانة لها منذ عام 2006؛ بحجّـة عدم توافر ميزانية الترميم، إضافة إلى عشرات المباني التاريخية الأُخرى داخل المدينة الذي أصبحت معرضة لخطر الانهيار الجزئي والكلي.

 

تراث “عالمي”.. بلا دعم حكومي

وعلى الرغم من تغني حكومات العقود الثلاثة السابقة بهذا التراث لعالمي، إلَّا أن الحقيقة كانت تشير إلى عكس ذلك، فالاهتمام لم يكن إلَّا شكليًّا للفت انتباه منظمات التراث العالمية لمزيد من الدعم، لقد كانت المشكلة الأَسَاسية طوال السنوات الماضية وحتى 2010 في الحكومات المتعاقبة التي لم تكن لترصد في موازنات الدولة آنذاك أية ميزانية خَاصَّة بالتراث الثقافي، حيث كانت تعتمد كليًّا على المنظمات الدولية كاليونسكو وغيرها لتقديم المساعدات والمعونات المالية لدعم هذا التراث بحسب تأكيدات الديلمي.

وينطبق الحال ذاته اليومَ على هيئة المحافظة على المدن التاريخية، التي تؤكّـد أن موازنتها السنوية لا تتجاوز 3,2 مليون ريال سنويًّا، في ظل رفض اعتماد الحكومة موازنة خَاصَّة بها وَامتناع الصناديق المعنية عن دفع مساهمتها في الحفاظ على التراث والمعالم التاريخية وفق ما حدّده القانون وأوصت به لجنة الإعلام والثقافة والسياحة بمجلس النواب.

 

ما خلفه قصف صنعاء.. جمر ورماد

أول تقرير متخصص تم إعدادُه عقب قصف تحالف العدوان لمدينة صنعاء القديمة العام 2015 ضم العديد من الصور والخرائط والمرئيات الفضائية والجداول.

وَأظهرت نتائج أولية آنذاك إشارات إلى قصف ممنهج على المباني التاريخية والأثرية الواقعة بين مقشامة بروم من اتّجاه الشمال، ومقشامة القاسمي من اتّجاه الجنوب، وتضرر 13 مبنى، المدمّـر منها بشكل كلي خمسة مبان، ثم قصف حي القاسمي واستهداف 8 مبان، ثلاثة منها أصبحت آيلة للسقوط وَلا تصلح للسكن، وَالخمسة الباقية تضررت بشكل متوسط وخفيف، فيما بلغت مساحة المنطقة المتضررة حوالي 1430 متراً مربعاً.

غير أن استهداف البيوت التاريخية والأثرية الواقعة في حارة الفليحي، كان قد ألحق أضراراً بالغة أكبر من تلك الأضرار التي خلفها القصف على حارة القاسمي، حيث بلغ إجمالي المباني المتضررة جراء قصف الفليحي 292 منزلاً، نال الدمار مبنيين، “منزلاً واحداً ومبنى بئر المسجد”، فيما تعرض 150 مبنى للتشققات الحادة والمتوسطة، أما المباني التي تأثرت بالضغط والاهتزاز الناتج عن عملية التفجير وتكسرت فيها الزجاجات والقمريات وصل عددها إلى 140 مبنى، وقد وزعت الأضرار بحسب التقرير على 9 حارات (الفليحي – العلمي – القزالي – معمر – الجوافة – كباس – محمود – نعمان – الزمر)، وكانت مساحة المنطقة المتأثرة حوالي 72,255 متراً مربعاً.

 

الاستشعار عن بُعد.. ما خفي كان أعظم

لم تكن الأضرار بمدينة صنعاء القديمة بعد قصف العدوان إلَّا حصيلة أولية لآثار ستتضاعف مع مرور الوقت، فضربات العدوان على مدينة صنعاء التاريخية كان لها أهداف خفية تحاول النيل من هذا التراث بما هو أقرب لموت بطئ تكمل مهمته عوامل البيئة وَالمناخ.

لقد كان لتكنولوجيا وتقنية الأقمار الاصطناعية والمسوحات المكانية رأي آخر بل أكثر قساوة لما خلفه قصف العدوان السعو إماراتي الأمريكي على مدينة صنعاء القديمة، كما بين ذلك مدير إدارةُ الاستشعار عن بعد بوزارة الاتصالات المهندس سامي محب الدين، الذي أكّـد أن التقارير الأكثر تفصيلاً والمعتمدة على البيانات المكانية لمدينة صنعاء التاريخية والتي قامت بها الهيئة العامة للمحافظة على المدن والمعالم التاريخية والتي مولتها منظمة اليونيسكو والاتّحاد الأُورُوبي وأشرف عليها الصندوق الاجتماعي للتنمية، أظهرت مقدار ما تعرضت له بعض المدن التاريخية من أضرار جسيمة.

وكما يقول مدير الاستشعار عن بُعد، محب الدين: فمدينةُ صنعاء التاريخية من مشاهدة الخارطة التي تم إنتاجُها، تبين أن حجم الضرر امتد إلى أجزاء كبيرة ومتعددة منها، فبالإضافة إلى الاستهداف داخل المدينة للأحياء الثلاثة “حارة القاسمي – حارة الفليحي – حارة المدرسة”، فقد كان هناك الانفجارات والقصف المتكرّر في فترات مختلفة والذي حصل في محيط صنعاء القديمة إلى جانب القصف المتكرّر للمدينة الحديثة (العاصمة)، الذي أحدث أضراراً كبيرة تم ملاحظتها بشكل واسع، ولا ننسى أن بعض هذه الهجمات تم فيها استخدام قنابل ذات قوة تدميرية عالية نتج عنها -إلى جانب القتلى والجرحى وتدمير العديد من المنازل- حدوث موجات صوتية وموجات اهتزازية في عدة اتّجاهات، وكانت النتائج الأولية أن الأضرار وصلت إلى حوالي 45 حارة من بين 59 حارة من حارات مدينة صنعاء القديمة، وأن غالبية البيوت المتضررة هي مبانٍ سكنية، حيث وصل نسبتها حوالي 93 % من إجمالي المباني المتضررة فيما بقية الأضرار كانت عبارة عن (مبان تجارية وَخدمات أَو مساجد وغيرها).

ومع وصول الأضرار وتأثيراتها لأغلب حارات مدينة صنعاء التاريخية، يؤكّـد المهندس محب الدين أن إجمالي ما تم رصدُه من أضرار في المباني التاريخية لصنعاء القديمة يتجاوز 1965 مبنى، صنفت إلى أربعة أصناف للضرر (1460 مبنى كضرر خفيف – 376 مبنى كضرر متوسط – 86 مبنى كضرر شديد – 43 مبنى كضرر كلي)، غير أن الأكثرَ أهميةً في حديثه أن الألفي مبنى التي تم تأكيد أضرارها لم تكن سوى المرحلة الأولى من المسح الذي شمل فقط 2542 مبنى، هذا ما يعني أن أكثر من 80 % من المباني المستهدفة بالتقييم والمسح كانت قد تضررت من قصف تحالف العدوان، فيما تحتاج بقية مباني وَدور المدينة التي تشارف 11,000 مبنى لاستكمال المسح والتقييم لمعرفة الرقم الحقيقي للأضرار.

 

إهمالُ الجرح… قد يقطع الساق

وطيلة سنوات الحرب لم يكن هناك حضور كبير لليونيسكو أَو الاسيسكو أَو الايكروم أَو غيرها من منظمات التراث العالمي في مواجهة آثار الإهمال وقصف مباني صنعاء القديمة، لتاتي الأمطار التي أعلنت عن أضرار طالت ما يقارب 500 مبنى تاريخي مهدّدة بالانهيار بحسب آخر إحصائيات هيئة المحافظة على التراث والمعالم التاريخية.

 

اليونيسكو.. تجاهل لتراث اليمن

رغم مشاركتها واطلاعها على نتائج دراسات آثار قصف العدوان لمدينة صنعاء القديمة وزبيد وكوكبان… إلخ، إلَّا أن دعمها يكاد يكون أن محدوداً ومحصوراً وبطيئاً للغاية رغم الحديث عن آلاف المباني المتضررة من العدوان والحصار.

متخصص التراث اليمني المهندس محمد الديلمي يرجع جزءاً من الأمر إلى تسعينيات القرن الماضي، والذي أصبحت فيه المساعدات التي كانت تقدمها منظمات اليونيسكو وغيرها شحيحة وشبه معدومة تقريبًا؛ بسَببِ انعدام الثقة بينها وبين الحكومة نتيجة فساد الحكم الذي كان مستشرياً آنذاك إلى جانب خشية منظمات اليونيسكو والمنظمات الأُخرى المعنية من التلاعب بتلك المساعدات والدعم الذي تقدمه؛ ولذلك ظلت أعمالُ الصيانة والترميم للمباني التاريخية تسير بشكل محدود وضيق إلى أن تفاقم الخطر بشكل أكبر وأوسع على وضع تلك المباني، وبدأت المدينةُ القديمة تشهد نزوحاً سكانيًّا للأهالي للعيش خارج المدينة القديمة وبقاء عدد كبير من تلك المباني مهجورة وعرضة للإهمال، كما حصل خلال فترة التسعينيات على سبيل المثال.

رئيس مؤسّسة عرش بلقيس للتراث دعاء الواسعي، أرجعت أسباب ضعف تمويل اليونيسكو وَالمنظمات المعنية بالتراث في اليمن إلى ضعف التنسيق والاتصال وجهات وشخصيات الوصل والربط مع تلك المنظمات الدولية، وكذلك عدم وجود إحصائيات علمية ميدانية دورية متكاملة بالأضرار والحلول والمعالجات تقدّم في وقتها، وَأَيْـضاً تغييب دور المنظمات المحلية المعنية بحفظ وحماية التراث اليمني، والتي هي -كما تقول الواسعي- موجودة في الساحة بكثرة وقد أثبتت وعلى مدى سنوات جديتها وكفاءتها لمنحها الثقة من الجهات الرسمية والمعنية بالتراث لتتولى تنفيذ مشاريع وطنية لحماية وصيانة المعالم الأثرية المتضررة في المدن التاريخية اليمنية عبر قنوات رسمية ومشاركة وإشراف وزارة الثقافة بجميع هيئاتها الثقافية.

وتعزو الواسعي في جانب آخر ضعف الاهتمام الحاصل من اليونيسكو وغيرها بمدن التراث اليمنية بالقول: منظمة اليونيسكو وغيرها من المنظمات الدولية لها اعتبارات خَاصَّة وسياسات دولية محدّدة، وَإذَا تحدثنا عن اليونيسكو كمنظمة دولية معنية بالتراث الثقافي في العالم نجد أن تفاعلها مع ونحو التراث اليمني محدود جِـدًّا، كما أن هناك تأخراً في برامج دعمها لإنقاذ وحماية المدن التاريخية ولا ندري لماذا؟ وهذا ما يجب أن يتغير؛ كون اليمن أولاً يعيش تحت وطأة عدوان كبير يشمل كُـلَّ نواحي الحياة السياسية والاقتصادية بما فيها العدوان الذي وصل بحقده لاستهداف التراث والمعالم الأثرية في المدن التاريخية اليمنية المسجلة ضمن التراث العالمي كمدينة صنعاء القديمة وزبيد وشبام حضرموت، أَو تلك التي ما تزال في قوائم الانتظار لضمها لتراث العالم.

 

جريمة حرب.. لا تسقط بالتقادم

ومع ما يحدث من انتهاكات لحقوق الشعب اليمني وتراثه العريق، ترى الواسعي أن هذا لن يسقط بالتقادم وتقول:

إننا نحن وتاريخنا وتراثنا مستهدفون عمداً وهذا ما يجب أن يُؤخذ يعين الاعتبار، وأن لا نتغاضى عنه؛ كون استهداف المعالم الأثرية والثقافية يعد بحسب القانون الأخير لليونسكو من جرائم الحرب.

وتضيف: في العموم اليونيسكو كمنظمة داعمة في ظل الأحداث الأخيرة والكوارث والأضرار التي لحقت بمدن التراث العالمي يُحتم عليها كمنظمة معنية واجب التدخل السريع والعاجل لإنقاذ تراث إنساني عالمي تدرك أنه ملك للبشرية والحضارة الإنسانية، وهذا التراث يتمثل بمدينتين تضررتا مؤخّراً وهما في قائمة التراث العالمي، مدينة صنعاء القديمة ومدينة زبيد التاريخية.

هذا على الأقل، فهما كمدينتين تاريخيتين تضررتا نتيجة العدوان عليهما، وَأَيْـضاً نتيجة للكوارث والمسببات البيئية كغزارة الأمطار وتدفق السيول مؤخّراً.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com