“توازن الردع الرابعة”: استحواذ ناري على الأجواء السعودية لليلة كاملة

أول عمليات المرحلة الثانية من “الوجع الكبير”

 

المسيرة | ضرار الطيب

استأنفت القوات المسلحة ضربات الردع الاستراتيجي ضد العمق السعودي لمرحلة ثانية من “الوجع الكبير”، بعد ثلاثة أشهر من إعلان انتهاء المرحلة الأولى، حيث نفذت، أمس الثلاثاء، عملية عسكرية كبرى هي الرابعة في تسلسل هجمات “توازن الردع” التي بدأت في أغسطُس الماضي، لكنها الأكبر، والأطول وقتاً، لتشكل بذلك نموذجاً لـ”المفاجآت غير المتوقعة” التي توعد بها قائد الثورة في بداية العام السادس من الصمود، ولتجدد إرسال رسائل العقاب العملية التي تضع العدوّ حقيقة الارتفاع المستمر لتكلفة استمراره في العدوان والحصار، وحقيقة عدم جدوى كُـلّ محاولات الالتفاف على شروط السلام، وبالشكل الذي يجعله مضطراً إلى التعاطي مع هذه الحقائق بجدية، لتجنب مستقبل يستطيع الآن أن يتخيّل مدى قتامته.

 

العملية الأكبر منذ بدء الحرب

العملية وبحسب بيان الناطق الرسمي للقوات المسلحة العميد يحيى سريع، نفذت بـ”عدد كبير من الصواريخ البالستية والمجنحة وطائرات سلاح الجو المسيّر”، وعلى وجه التحديد صواريخ (قدس) و(ذي الفقار) وطائرات (صماد3) وَ”سلاح جديد من عائلة المجنحات طويلة المدى”، تم تجربته خلال العملية بنجاح وَسيُعلَنُ عنه لاحقاً، وتوزعت ضربات هذه التشكيلة الحربية المتميزة على عدة أهداف داخل الجغرافيا السعودية، أبرزها “وزارة الدفاع والاستخبارات العامة وقاعدة سلمان الجوية في الرياض، ومواقع عسكرية في جيزان ونجران”.

هي العملية العسكرية الأكبر منذُ بدء الحرب، بحسب بيان القوات المسلحة، وبحسب ما توضحه كميةُ وحجمُ ونوعية الأسلحة المستخدمة، وحجم الاستهداف أَيْـضاً، ولكن بالنظر إلى المسار التصاعدي الملحوظ لسلسلة ضربات “توازن الردع”، فإن هذه العملية لن تحتل مركز “العملية الأكبر” على الدوام -إلا إذَا توقف العدوان طبعاً-، فكل عملية جديدة من هذه السلسلة تأتي لتسجل رقماً قياسياً جديدًا، يجعل بوابة “القادم أعظم” مفتوحة دائماً.

والرسالةُ التي توجّـهها القوات المسلحة بعدم تحديد عدد الصواريخ والطائرات المستخدمة في “توزان الردع الرابعة”، تشير إلى تجاوز مرحلة إثبات القدرة على التطور المستمر، فهي من جهة، تسبّب قلقاً كَبيراً للعدو الذي بدا شديد الارتباك وهو يتحدث عن “اعتراض عدة طائرات وملاحقة البقية” ليلة القصف، ليثبت أن الهجوم كان أكبر من قدرته حتى على العد، ومن جهة أُخرى، تؤكّـد على أن الردود تتصاعد بمعدل تحدّده متطلبات المرحلة السياسية والعسكرية، بغض النظر عن الأدوات، إنها تقول بوضوح: إنَّ ما يمتلكه اليمن من أسلحة الردع يكفي لتنفيذ أي تصعيد يتم إقراره وبالتنسيق والحجم المطلوب، مهما كان بعيدًا عن توقعات العدوّ، وهو الأمر الذي يترجم بشكل عملي وعيدَ قائد الثورة.

ومع ذلك، فإن عدد الصواريخ والطائرات المستخدمة في عملية “توازن الردع الرابعة”، وإن كان من الصعب تحديده بدقة، يمكن إثباته من عدة جوانبَ، أولها ارتباك الإعلام السعودي في التعاطي مع الضربات بدءاً بالإعلان عن “اعتراض عدد (غير محدّد) من الطائرات (فقط) ومتابعة البقية”، الأمر الذي تحول سريعاً إلى موضوع سخرية، وانتهاء بالاستقرار على إعلان “اعتراض 8 طائرات و3 صواريخ”، وهو ما يوضح لأي مطلع على استراتيجية الإعلام السعودي في التعاطي مع الضربات اليمنية أن العدد كان كَبيراً بشكل غير متوقع، إذ تعمد الرياض دائماً أن تقلل العدد إلى أدنى حَــدٍّ، وَإذَا كانت قد اعترفت بـ11 طائرة وصاروخاً، فهذا لا يعني سوى أن العدد الحقيقي كان أكبر بعدة أضعاف.

جانب آخر، ويعتبر من الخصائص التي انفردت بها “توازن الردع الرابعة” عن سابقاتها، هو طول الفترة التي تم خلالها تنفيذُ الضربات، حيث استحوذت الصواريخ والطائرات اليمنية على الأجواء السعودية لما يقارب ليلة كاملة، جعلت متابعة الانفجارات المتوالية وأماكنها نشاطاً واسعاً على مستوى المملكة كلِّها، وبحسب تلك المتابعة فقد تحدث ناشطون محليون عن خمس دفعات على الأقل من الصواريخ والطائرات وصلت تباعاً.

وأما عن مزاعم “الاعتراض”، فإلى جانب كونها محاولات تضليل مكرّرة انكشفت عشرات المرات، فقد سقطت بشكل واضح أثناء الضربات الأخيرة، إذ وثّقت عدسات محلية فشل صواريخ الباتريوت في الاعتراض، فيما أصدرت البعثة الأمريكية في السعودية تنبيهاً أمنياً، حثت فيه رعاياها على التزام الاحتياطات الأمنية للوقاية من الهجمات، والحذر من هجمات إضافية، لتؤكّـد بذلك حجم العملية العسكرية واستمرارها لفترة طويلة، ونجاحها في ضرب أهدافها.

وبالحديث عن الأهداف، فقد تميّزت “توازن الردع الرابعة” عن سابقاتها أَيْـضاً بالتركيز على الأهداف العسكرية فقط، بعد أن كانت العمليات الثلاث السابقة قد ركّزت على الأهداف الاقتصادية، كما أن نوعية المراكز العسكرية المستهدفة في الرياض بالذات (وزارة الدفاع والاستخبارات العسكرية وقاعدة الملك سلمان)، ترسل رسالة واضحة حول التحدي الأمني والعسكري الذي استطاعت صنعاء أن تتجاوزه بشكل كامل، إلى جانب ما يمثله ضرب هذه الأهداف من هزة قوية لهيكل النظام السعودي؛ بسَببِ الأهميّة الاستراتيجية الكبرى لتلك الأهداف، ورمزيتها أَيْـضاً.

 

تحذير: “القادم أشد”

ولأن كُـلَّ عملية عسكرية كبرى تمثل في جانب من جوانبها تحذيراً مما بعدها، فإن “توازن الردع الرابعة” قد استطاعت أن ترسم العديد من الملامح المهمة للمرحلة القادمة من الردع، في حال استمرار العدوان والحصار، وقد تطرّق بيان القوات المسلحة ذلك، إذ حذر النظام السعودي من “مغبة التمادي في بغيه وعدوانه وإجرامه وممارسة حصاره الإجرامي”، وأكّـد أن “القوات المسلحة اليمنية متوكلة على اللهِ ومستعينة به، أنها ستنفذُ المزيدَ من العملياتِ العسكريةِ الأشدِّ والأقوى حتى رفعِ الحصارِ ووقفِ العدوانِ وتحقيقِ الحريةِ والاستقلال”.

وقد تم تقديم جزئية “رفع الحصار” بشكل واضح في بداية بيان القوات المسلحة، للإشارة إلى التصعيد الأخير للعدوان بمنع سفن المشتقات النفطية من دخول ميناء الحديدة، الأمر الذي يجعل العدوان أمام اختبار يتوجب عليه فيه أن يتصرّف بسرعة، إذَا ما أراد السلامة.

ويؤكّـد حساسيةَ هذا الاختبار، تصريحُ رئيس الوفد الوطني وناطق “أنصار الله” محمد عبد السلام حول العملية، حيث أكّـد أن “على تحالف العدوان أن يتعاطى بجدية مع عملية توازن الردع الرابعة والتي تنذرُ بإذن الله بما هو أشد”، أي أن التحذيرات العسكرية لم تأتِ لمُجَـرّد الاستهلاك، وأن الوقت لا يتسع لأية محاولات للمراوغة.

 

عودة إلى شروط السلام

أما الرسالة السياسية لعملية توازن الردع الرابعة بشكل عام في استئناف الضربات الكبرى بعد ثلاثة أشهر من إعلان رئيس المجلس السياسي الأعلى، مهدي المشّاط، عن انتهاء المرحلة الأولى من “الوجع الكبير”، الإعلان الذي جاء مشفوعاً بتجديد طرح مبادرة الـ21 من سبتمبر الفائت، حيث تمثل هذه العملية تدشيناً لمرحلة ثانية، وتثبت أن المبادرة لم تلقَ أي تجاوب جاد حتى الآن.

هذا يعني أن كُـلّ التحَرّكات السعودية في الملف السياسي خلال الفترة الماضية، بما في ذلك التصريحات الإعلامية حول السلام، وإعلان “الهدنة” الزائفة، لم تتجاوز كونها محاولات لكسب الوقت والالتفاف على شروط السلام الحقيقي التي أوضحتها صنعاء في رؤيتها المقدمة للأمم المتحدة حول الحل الشامل.

وباستئناف العمليات العسكرية وبهذا الحجم، تعيد صنعاء الرياض مجدّدًا إلى الطريق الوحيد للسلام، والذي يتضمن في المقام الأول الوقف الفوري والمعلن والشامل للعدوان والحصار، وتوضح العمليةُ الأخيرةُ بشكل عملي أن الرهان على كسب الوقت وإطالة أمد العدوان لن تكون له إلا نتيجة واحدة، هي المزيد من الضربات الأشد والأقسى.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com