تكامُلُ الرؤية واكتمالُ الدلالة في قصيدتَي “الحاسمة” و”نهاية العاصفة” للشاعر/ ضيف الله سلمان – الحلقة الثالثة

المسيرة: إبراهيم محمد الهمداني

إنَّ ما تقدّمُه الذاتُ المتكلمة من حقائقَ، يصبُّ في خدمة وجودها الفعلي، ويضمن بقاءها مادياً ومعنوياً، ويخلد حضورها وآثارها للأجيال القادمة، خَاصَّة حين تصل حالة الوعي الفردي والجمعي إلى مرتبة اليقين بأهميّة وحقيقة الجهاد، بوصفه أولاً: يمثّلُ الحَـقّ الإنساني الثابت، في الدفاع عن النفس، المكفول في كُـلِّ الشرائع والقوانين؛ وكونه ثانياً: يمثل حاملاً لمواضعات الفلاح والفرج والسلامة، ومؤدياً إليها، ومحقّقاً السلامَّ والعزة والرفعة، لكُــلِّ الشعوب المستضعفة، وبهذا يتجاوز ما تقدّمه الذات المتكلمة من حقائق مستوى التمثيل الإخباري، أَو الاستشهاد والاستدلال الآني، ليصلَ إلى التموضع في العمق الفلسفي للحياة، ثم ينعكسُ في طبيعة الرؤية والموقف من الحياة عامة والآخر خَاصَّة، حيث تقف الذات المتكلمة في قلب المشهد المفتوح، بطبيعة الزمن المطلق للحقيقة ذاتها، شارحةً ومؤكّـدةً ومفلسفةً لحقيقة الحياة، وطبيعة تحولاتها، وعدم دوام أحوالها، مستشهداً بموقف المستضعفين، الذين يجسدون وعدَ الله تعالى، ويرسمون أبعادَ التمكين المرسوم لهم سلفا، في إرادة الله وحكمته، إذ يقول جل وعلا: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).

وفي المستوى الخطابي الثاني تتوجّـهُ الذاتُ المتكلمة بالخطاب الآخر/ الأممي، في تموضعه السلطوي العالمي، كممثّلٍ للأبوية السياسيّة، الراعية للأمن والسلام الدوليين، والمتبنية -حسب زعمها- حقوقَ الإنسان، وحق الشعوب في الحرية والديمقراطية والاستقلال والسيادة، لكن ذلك المخاطب/ الأمم المتحدة، سرعانَ ما تخلّت عن دورها الأبوي الحامي والحاضن، وسقطت في بؤرة التناقض والانقلاب على الذات، مفاهيمياً وأخلاقياً وسياسيّاً وقيمياً، وذلك عند تناولها ملف الحرب على اليمن، حيث تحوّلت إلى دور الطرف الثالث/ المحايد/ الصامت/ القَلِق في أحسن الأحوال/ المتواطئ في حضوره الوجودي المفرَّغ من كُـلِّ معاني الإنسانية والقيم والمبادئ والأخلاق، لترسم -الذات المتكلمة- في خطابها الأمم المتحدة مشهداً مفتوحاً من التنصل عن الالتزامات الأممية تجاه الإنسانية عامة، وليس أبناء الشعب اليمني، ورسمت سلسلةً من التنكر الأممي للقوانين والمواثيق واللوائح والأعراف، التي تدّعي تبنيها، وانكشف زيفُ دعواها بحماية حقوق الإنسان، وتعرّت صورتها الاستعمارية البغيضة، التي طالما أخفتها، وجملت قبحها بالتسميات المؤسّسية، ومارست من خلف قناع الأبوية المهذب أقذر نزواتها الاستعمارية.

إن الذات المتكلمة حين تتوجّـه بالخطاب إلى الأمم المتحدة في تموضعها المؤسّسي، ومركَزيتها الأبوية السلطوية، لا يعني أنها تريدُ لفتَ انتباه الآخر/ الأممي لحقيقة ما يجري في اليمن؛ لأَنَّه يعلم ذلك ويتابع مجريات الأحداث أولاً بأول، ولا يعني أنها ترجو منه دفعاً لضرٍّ أَو جلباً لخير، بل هي تهدف إلى إيصال عدّة رسائل، ذات مستويات تلقٍ متعدّدة، ومن تلك الرسائل:

أولاً: تأكيد انتظام الذات المتكلمة/ الشعب اليمني، ضمن نسيج المجتمع الدولي، ومنظومة الأمم المتحدة على وجه الخصوص، في إطار الانتماء السياسيّ والإنساني، وبالتالي نسف إشاعات التمرّد، والخروج عن دائرة المجتمع الدولي، ورفض الآخر مطلقاً، من منظور عدائي راديكالي متشدّد، وهذا ما حاولت ماكينةُ إعلام تحالف العدوان ترويجَه، عبر أبواقها ووسائلها المختلفة.

ثانياً: استطاعت الذات المتكلمة مخاطبة الآخر/ الأمم المتحدة بلُغته الخَاصَّة، ومفاهيمه ورؤاه وشعاراته، وأيديولوجيته التي تتوقف عليها مشروعية وجوده، جاعلةً من مواثيقه ولوائحه وقوانينه -التي استحق بدعوى قيامه عليها وتنفيذها ورعايتها، سلطته الأبوية المركزية- نقطةَ انطلاق رئيسة في محاورته ومكاشفته، وكشف تناقضاته وزيف دعاواه، متسائلةً من خلال الاستفهام الاستنكاري، عن سرِّ غياب تلك المواثيق واللوائح والقوانين، التي تعهّدت فيها الأممُ المتحدة بحماية شعوب العالم، وفض النزاعات بينهم، والعمل على الارتقاء بهم على كافة المستويات، وبذلك تصدّرت منصب الأبوية التسلطية والمركزية السياسيّة، وهذا المستوى من الخطاب، يدلُّ على وعي الذات المتكلمة بطبيعة وحقيقة المخاطب، وبذلك أغلقت في وجهه كُـلّ أبواب التسلط والذرائع التي قد يلجأ إليها، لتبرير وجوده الاستعماري على الأرض، كقوات حفظ السلام، أَو قوات حماية المدنيين، أَو غيرها من الذرائع، بعد أن تفشل كُـلّ رهاناته، ويخفق عملاؤه.

ثالثاً: إن تساؤلَ الذات المتكلمة عن سبب غياب الآخر/ الأممي، بوصفه راعياً للمواثيق واللوائح والقوانين الضامنة الحافظة، يضع المخاطب/ الأممي في موقف محرج، ويحشره في زاوية ضيقة، إذ لا يسعه أمام ذلك الخطر الوجودي/ التساؤل، إلَّا أن يقف أحدَ موقفين:

إما أن يقومَ بدوره الحقيقي/ السياسيّ والأبوي، في الدفاع عن أبناء الشعب اليمني، وحمايتهم، وإدانة تحالف العدوان الظالم، وإما أن يظهرَ على حقيقته، ويمضي في ممارسة دوره الوظيفي الاستعماري علناً أمام الملأ.

رابعاً: تحمل مدلولات السؤال، “وين ميثاقكم واللايحة”، صورة غياب القانون الدولي، ممثلاً في حامليه ومتبنياً مواثيقه ولوائحه، وتشير بنية المسكوت عنه إلى مستوى خطابي جديد، يتوجّـه إلى شعوب العالم، راسماً عجزَ الأمم المتحدة عن تطبيق ما تدعيه من قوانين، وحماية ما تتشدّق به من حقوق وحريات، بما يكشف حقيقة مواقفها وأدوارها، إزاء مجريات الأحداث ومتغيرات الأوضاع، بما يجعل شعوبَ العالم في مواجهة حقيقة مرَّة مفادها: إن من بلغ به العجز حد عدم قدرته على حماية قوانينه ومواثيقه من الانتهاكات والتجاوزات، فالأولى والأجدر تركه، وعدم التعويل عليه في شيء.

في المستوى الخطابي الثالث، يقف “عالم النفط” موقفاً مخزياً بالغَ السلبية، حين لا يتورّع عن إظهار تهافته خلف الثروات والمصالح، ملغياً مكانة الإنسان وأهميته، وحضوره كقيمة مطلقة في هذا الوجود، أغلى من كُـلِّ الثروات، وأهم من كُـلّ المصالح، لكن ما حدث في زمن سيطرة “البترودولار”، وسيادة المادية النفعية، وتوحّش الرأسمالية الإمبريالية، هو أن الإنسانَ أصبح سلعةً رخيصةً في سوق المضاربات والمصالح، وأصبحت الإنسانيةُ مجرد إعلان ترويجي، وتحوّلت الحقوق والحريات إلى شعارات فارغة، ومادة للاستهلاك الإعلامي، فلا يهم الكم الهائل من الضحايا ما دامت المصالحُ باقية ومستمرة، وهنا يتجلى قبح الآخر/ عالم النفط، الذي يقايض المصالح والمادة والنفط، مقابل أنهارٍ من الدماء وجبال من الأشلاء، دون خوف أَو خجل، ليمثل بذلك حالة عالمية من الوحشية والإجرام، وتقبع الأمم المتحدة كنظام عالمي مسيطر، في قلب هذا المشهد الوحشي، الذي تسود فيه ثقافةُ الغاب، وتعود البشريةُ أدراجَها، نحو البدائية والتوحش والبوهيمية المفرطة، وبهذا الحضور المتشكّل في مدارات الموت والغياب والاستلاب، يرتسم مشهد الانقلاب العالمي على القوانين والأخلاق والقيم والمبادئ الإنسانية، والانقلاب على سنة التطوّر الحضاري التقدمي أيضاً.

 

قل لـ “ابو ظبي” لا نسمع صياح

المسيَّر عليهم سارحة

بالمجنح وذي ماله جناح

با نهد البروج الناطحة

 

يحمل هذا المقطعُ النصي نبوءة جديدة، توازي نبوءة النص السابق “الحاسمة”، تركيبياً ودلالياً، غير أنه هنا أفصحَ عن نبوءته، ورسم أبعادها في مقطع مفتوح، ينذر بما سينتج عن الفعل، وإحلال النتيجة “الصياح/ الصراخ” محل السبب الذي سيكون عاملاُ أَسَاساُ في حدوثها، وقوله “لا نسمع صياح”، دلالة على هول وشدة ما سيقع على “أبو ظبي”، من ضربات الطيران المسيّر والصواريخ الباليستية بأنواعها، والأثر البالغ الذي سيتركه ذلك الفعلُ على المستوى النفسي والاقتصادي والسياسيّ والحياتي العام، على حكّام الإمارات جميعاً، بينما يرسم توالي إرسال الطيران اليمني المسيّر مشهداً مفتوحاً على الزمان والمكان، ليحمل البيت التالي/ الأخير طبيعة الحدث الناتج عن إرسالها بتلك الهيئة من الكمِّ والكيف، مترجماً نبوءةَ “الحاسمة” على أرض الواقع، وراسماً “نهاية العاصفة” في مشهد مفتوح مكانياً على “البروج/ الأبراج الناطحة/ الشاهقة”، وزمانياً على المستقبل من الزمان، الممتد من الزمن الحاضر/ زمن التكلّم إلى زمن المستقبل اللانهائي، كما تشير إلى ذلك مدلولات الفعل المضارع، المتضمن معنى الاستقبال، “با نهد”، أي سوف نهدم/ سنهدم، وسيتكرّر منا فعلُ الهدم إلى ما لا نهاية.

ربما قدمت خاتمة قصيدة “نهاية العاصفة”، الترجمة الفعلية لطبيعة النبوءة، التي كانت مجهولةَ الملامح في خاتمة قصيدة “الحاسمة”، وَإذَا كانت هذه الأخيرة قد اكتسبت تنامي دلالاتها واستمراريتها وانفتاحها، من خلال غموض نبوءتها ذات الشرط الزمني “بيننا في الشهور القادمة”، فإن “نهاية العاصفة” قد حقّقت استمراريتها وانفتاحها اللانهائي، من خلال بنية النص المحكمة في تراكيبها ذات المحمولات الدلالية التصاعدية، والمدهشة في صورها، ذات الأبعاد الفنية بتقنياتها المختلفة، ومستوياتها الرؤيوية المتجاوزة لطبيعة النقل المباشر/ المحايد، إلى النقل الفلسفي العميق، الفاعل والمؤثر في صياغة الوعي وصناعة المفاهيم.

تكمن جمالياتُ البناء النصي في هذين النصين، في احتشادهما بالصور والمشاهد الحركية، المفعمة بالحياة والحيوية والتناقض، الذي يكسبها مدلولات الاستمرارية والانفتاح اللانهائي على القراءات المتعدّدة، سواءً على مستوى التركيب النصي الداخلي، ومدلولات جزئياته التركيبية والتصويرية، أَو على مستوى التركيب النصي الخارجي، ممثلاً في انفتاح النهايات النصية، وتعالقاتها مع معطيات الواقع ورهانات المستقبل، لتبقى قراءةُ النص رهينة فضاء التوقع المفتوح، وآفاق التلقي الواسعة، التي تجعل المتلقي أسيرَ فضاءات الدهشة، وتغريه بقراءة النص، وتتبع مساراته البنائية والدلالية، وتمنحه حق المشاركة في إعادة إنتاج النص الشعري، وبهذا يكتسب النصُ الدينامية الدلالية، واستمرارية الحضور، وفاعلية التلقي، الأمر الذي يجعله أكثر ثراءً وعمقاً وحضوراً.

استطاع الشاعر/ ضيف الله سلمان -ورفاقه الشعراء المجاهدون، الذين سنتناول إبداعاتهم بالدراسة والتحليل لاحقاً إن شاء اللهُ- الارتقاءَ بالشعر الشعبي، بنيةً ورؤيةً وصورةً ودلالةً، متجاوزين ما عرف عن الشعر الشعبي من التقريرية والخطابية المباشرة، وسطحية المعنى، والانغلاق الدلالي، وواحدية القراءة، إلى مستويات بنائية وتصويرية ودلالية ورؤيوية، ذات أبعاد ومحمولات فلسفية عامة، وفضاءات واسعة، ومدارات قرائية مفتوحة، لتصل القصيدةُ الشعبيّة إلى مرتبة القصيدة الفصحى، رؤيةً وتشكيلاً، في أوج مراحل تطوّرها، وأرقى تجليات إبداعها، مؤكّـدين أن الشعرَ هو إعادةُ صياغة العالم من خلال اللغة، وذلك هو حقيقة ما يقومون به، وما ستناقشه وتوضحه القراءات النقدية الأسبوعية، في طبيعة الإبداع الشعري المقاوم للعدوان.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com