تكامُلُ الرؤية واكتمالُ الدلالة في قصيدتَي “الحاسمة” و”نهاية العاصفة” للشاعر/ ضيف الله سلمان – الحلقة الثانية

المسيرة: إبراهيم محمد الهمداني

تدُلُّ النهايةُ على الغاية وبلوغ الحد، وانقطاع الاستمرار الفعلي في بُعدَيه الزمني والدلالي، كما تحمل “العاصفة” مدلولات النهاية والفناء؛ نظراً لما تنطوي عليه النتائج المترتبة على حدوثها، والآثار الكارثية الكامنة فيها، التي تدمّـرُ وتنهي وتقطع الاستمرارَ الطبيعي للحياة، على الأقل وقت حدوثها، وتحمل “نهاية العاصفة” -في بنيتها التركيبية المتضايفة- مدلولات زوال كُـلِّ مواضعات القوة والتدمير والتسلط والهيمنة، والموت والخراب والفَناء، الناتج عن التموضع الفعلي الحقيقي لـ “العاصفة”، التي حملتها نهايتها إلى الغياب والفناء، معلنةً عن نهاية مرحلة القوة والهيمنة والعبث، وبدايةِ مرحلة ما بعد العاصفة، التي تتسم -غالباً- بالحياة والبناء ورغد العيش، والانتصار وتحقّق الحضور الفعلي، وهنا تتجلى طبيعةُ التراسل الدلالي بين العنوانين، “الحاسمة” و”نهاية العاصفة”، بما يحقّق مسارات الاكتمال الدلالي، والتكامل الرؤيوي بين النصين، ويرسم أبعادهما الفلسفية والشعرية والجمالية في أبهى صورها وتجلياتها.

كانت “الحاسمة” صفةً للحرب، وبشارةً بنهايتها، وقاطعةً لاستمرار العدوان، ومانعةً لعبثه وتكرار طغيانه، حاضراً ومستقبلاً، من خلال الدلالة الزمنية لاسم الفاعل المؤنث “حاسمة”، في تموضعها الممتد من الحاضر إلى المستقبل، كما إنها وضعت الخطوطَ العريضة أَو المسار الرئيسي، الذي انتظمته عمليةُ التوقع الجمعي، لطبيعة المفاجأة والنبوءة التي ستحقّقها نتائجُ “الحاسمة”، خلال “الشهور القادمة “، بما تنطوي عليه من تهديدٍ للمعتدي، الذي فقد زمامَ المعركة والمبادرة، وعجز عن تحقيق الحسم، بل تحوّل إلى متلقٍ سلبي للضربات الباليستية، عاجز عن حماية نفسه، حيث انقلبت موازينُ القوى، ومعادلات الصراع، وأصبحت الذات المعتدى عليها، صاحبةَ المبادرة، وبيدها زمامُ المعركة، وبعد عمليات الردِّ والردع، امتلكت الذات المتكلمة قوةَ الحسم، وأصبحت هي “الحاسمة”، الدالة على “نهاية العاصفة”، والمحيلة إليها، سواءً على مستوى المنجز الفعلي الواقعي (النصي/ الحياتي)، أَو على مستوى المنجز الإدراكي الشعري التخييلي (التأويلي/ الدلالي).

جاءت “نهاية العاصفة” ترجمةً تفصيليةً واقعيةً، مصدقة للنبوءة في بعديها: الفعلي: الكامن في فعل الحسم، “هذه الحرب قد هي حاسمة”، والزمني: المتمثّل في التوقيت المستقبلي، “في الشهور القادمة”، لتكون “نهاية العاصفة”، بكلِّ تعالقاتها الموضوعية والدلالية، هي المفاجأة الكبرى الصادمة والصاعقة، والشهورُ القادمة كفيلةٌ بتوضيح ما غمض، وشرح ما أشكل، والإجابة عن كُـلّ التساؤلات المعلقة على أفواه الدهشة، وتخمينات الحيرة والذهول، وفضاءات الترقّب والانتظار، “فانتظروا إني معكم من المنتظرين”.

 

بارق النصر من (جيزان) لاح

واقبل (الفتح) بعد (الفاتحة)

يستهل الشاعرُ “نهاية العاصفة” بإثبات وجود “بارق النصر”، وتحقّق فعليته الماضوية تموضعاً، والمستقبلية مدلولاً، بامتداد أثرها زمنياً، حيثُ يدل ظهور بارق النصر، على بداية تحقّقه واستمرار وجوده، وبقاء آثاره، ودينامية نتائجه، في المشهد الحياتي الجمعي، بوصفها مكاسبَ ثورية نضالية شعبيّة، تحمل مدلولات بشارة الخير، واستهلال الشعور بالحرية والعزة والكرامة والاستقلال والسيادة، ولم تكن عمليةُ “نصر من الله”، التي نفّذها أبطالُ الجيش اليمني واللجان الشعبيّة، إلَّا واحدةٌ من مظاهر “الحاسمة”، بما انطوت عليه من أهميّة كبيرة جِـدًّا، وأبعاد استراتيجية وعسكرية، ومضامين سياسية قوية، زلزلت عروشَ الطغاة والمستكبرين، وشكلت تهديداً وجودياً حقيقياً لكياناتهم الغاصبة المحتلّة، كما إن هذه العملية الكبرى، كانت إحدى الطرق المؤدية إلى “نهاية العاصفة”، وضربة قاصمة لتحالف العدوان ومن يقف خلفَه من اليهود والنصارى، بالإضافة إلى ما سبقها من ضربات موجعة، نالت منشآت حيوية واقتصادية وحيوية، في عمق الكيان السعودي، وضرعه الحلوب (أرامكو).

يتجاوز التشكيلُ النصي ملابسات الحدث وأسبابه وتداعياته الواقعية الجزئية، ويقدم عملية “نصر من الله”، من منظور شعري إبداعي، في سياقها الكلي ورؤيتها الشاملة، وبذلك فهذا النصُّ يوثق صورةَ أعظم الانتصارات في تاريخ الحروب العسكرية، توثيقاً إبداعياً شعرياً راقياً، ويحمل تباشيرَ، بل ويبشر بالفتح المبين، من خلال استثمار الدلالة الإحالية، في الآية القرآنية، التي اختيرت اسماً لهذه العملية العسكرية الكبرى، وأُخِذَ المقطعُ الأول منها “نصر من الله”، ليدلَّ على المرحلة الأولى، من مراحل تجليات التأييد الإلهي، وعظيم المكافأة التي أعدها اللهُ لعباده المجاهدين في سبيله، الذين باعوا أنفسَهم وأموالهَم؛ استجابةً لأمره، وابتغاءَ مرضاته، حين قال لهم: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، فربحت تجارتُهم، ونالوا رضى الله وغفرانه، وأدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهارُ، وذلك هو الفوزُ العظيم، وقبل ذلك كانت مكافأتهم في الحياة الدنيا بما يحبونه ويرجونه، وبما يقر أعينهم، ويثبت أفئدتهم، بصدق تحقّق وعد الله وتأييده لهم، على ثلاث مراحل متسلسلة، “وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا”، في الدنيا هي:

أولاً: “نَصْرٌ مِّنَ اللَّه” يكسر به شوكةَ عدوكم،

وثانياً: “فَتْحٌ قَرِيبٌ”، يتجاوز الحيّز الجغرافي الضيق المحدود للمعركة، إلى نطاق أوسعَ في عمق أرض العدوّ، وينتقل بالمعركة من استراتيجية الرد والدفاع، إلى استراتيجية الردع وامتلاك زمام المعركة خَاصَّة والصراع عامة بمختلف مستوياته وأبعاده،

وثالثاً: ” وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ…”، بما ليس في حسبانهم من الأجرِ العظيم والثواب الجزيل، سواءً بما أعّد اللهُ لهم، من الفوز العظيم في الآخرة، أَو بما تضمنته دلالات الحذف/ بنية المسكوت عنه، الذي يوحي به السياقُ التركيبي والدلالي، في قوله تعالى: “وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ”، وكذلك الشأن في عملية “نصرٌ من الله”، التي تجلّت فيها مظاهر التأييد والنصر الإلهي العظيم، وما هي إلَّا فاتحة لما سيأتي بعدَها من فتوحات وانتصارات عظيمة.

 

بارق النصر من جيزان لاح

واقبل الفتح بعد الفاتحة

يُعدَّ هذا البيت نصاً موازياً ثانياً -بعد العنوان- بما اختزنه من الكمِّ الهائل من الدلالات، وبما انفتح عليه من مسارات التأويل اللانهائية، وبما قدّمه من خلاصة موجزة، تحكي “نهاية العاصفة”، وتُصوّر تفاصيل اضمحلالها وغيابها، من خلال استغلال الشاعر الممكنات التعبيرية للألفاظ، وتصرّفه بمهارة واقتدار في مفردات اللغة وتراكيبها، وتوظيفها في سياقها الشعري الإبداعي، وشحنها بالمحمولات الدلالية والتصويرية، التي ترسم ملامحَ وأبعادَ تلك النهاية الحتمية الوخيمة لعاصفة الشر والعدوان والإجرام، ويتجلّى ذلك في التعاضد الدلالي في مدلولات “بارق” المضاف إلى “النصر”، حيث ارتبط البارقُ في السياق التداولي والوعي الجمعي والعرف التواضعي المجتمعي، بمعاني أوائل ومقدّمات الخير والرخاء والعطاء والنماء، التي تنتج عن هطول المطر، العامل على إحياء الأرض بعد موتها، وخروج الزرع والثمار، واخضرار الأرض، وحصول البركات والخيرات ورغد العيش، وَإذَا كان البارق/ البرق، هو الحاملَ لإشارة البشارة في السياق الإشاري، فإن المطرَ هو مضمونُ تلك البشارة ومصداقها في السياق الوضعي التداولي، وحين حلَّ “النصر” محلَّ المطر في التشكيل النصي الشعري، أصبح هو مضمون البشارة بحياة جديدة، تتحقّق فيها العزةُ والكرامةُ والحريةُ والسيادةُ والاستقلالُ، ويثبت فيها وجود الذات المتكلمة المنتصرة، وتحقيق هُويتها الفعلية، بما تنطوي عليه مدلولات “النصر”، من الغلبة والعزة والرفعة والتمكين، والحضور الإيجابي الفاعل، وتحضر “جيزان” بتموضعها المكاني/ الجغرافي، الذي يومض في فضائه بارق النصر، ويتحقّق النصرُ في ميدانه وعلى أرجائه الواسعة، وحين يستحضر الذهنُ الجمعي “جيزان”، في تموضعها التاريخي في الوجدان الجمعي، فإنه يتجاوزُ مدلولات المكان الجغرافية، إلى مدلولات المكان/ الهُوية، والمكان/ الانتماء، والمكان/ الإرث التاريخي المسلوب، والمكان/ العمق الحضاري المغتصب، والمكان/ العلاقات والأواصر والقربى المقطوعة قسراً، والمكان/ الشاهد الحي على قبح ووحشية جرائم نظام آل سعود الغاصب، ابتداءً من مجزرة تنومة، ووصولاً إلى حرب تحالف العدوان، بقيادة ذات النظام الإجرامي العميل.

كما تحضر مدلولات الكلمة “جيزان”، على وزن فعلان، للمبالغة في الوصف، واجتاز وتجاوز، بمعنى تخطّى وانتقل من موضع/ مستوى إلى آخرَ.

وجاوز حدَّه، أي: تخطّاه وتعدّاه، وبلغ فوق الحد المعلوم، والمجاوزة في قوله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ)، أي: مكنهم الله من عبوره وقطع مسافته، وعليه فـ “جيزان” في تموضعها النصي والجغرافي والعسكري، تُمثّل عملية العبور اليماني نحو الحرية والنصر والفتح المبين، فما قبل جيزان كان نصراً إلهياً عظيماً، وما بعد جيزان سيكون فتحاً إلهياً مبيناً.

 

دنَّتْ “العاصفة” ل “ام الرياح”

والمشاهد جلية واضحة

دنَّتْ: بمعنى أحنت رأسَها وخضعت واستسلمت عنوةً وقهراً، خاضعة ذليلة مستسلمة، والعاصفة: إشارةٌ إلى مسمى “عاصفة الحزم”، الذي أطلقته دولُ تحالف العدوان على حربها الوحشية الظالمة ضد الشعب اليمني، وبالرغم من محاولات المعتدين تجميل قبح صورتهم، وتبرير وقاحة حضورهم، ودورهم العدواني التدميري، الذي يخدم المشاريعَ الاستعمارية الصهيوأمريكية، إلَّا أن حقيقتَهم انكشفت، وقناعَهم سرعان ما سقط، وظهرت حقيقة عاصفتهم، التي لم ولن تكون يوماً لخير اليمنيين، بل لهدم وتخريب وتدمير وتمزيق اليمن أرضاً وإنساناً، بكلِّ ما تعنيه “العاصفة” من معاني الخراب، وما تحمله من مدلولات الهدم، علاوةً على ارتباطها التلازمي الشرطي، بمدلولات وصور العذاب والانتقام الإلهي، وما هي من الظالمين ببعيدٍ، حيثُ يقال: عصفت الريح، أي: اشتدت، وريح عاصف وعصوف، ويوم عاصف، أي: تعصف فيه الريح، وهذا المستوى من التلازم العلائقي، يجعل من العصف والعاصفة وصفاً لحركة الريح، التي هي الفاعلُ الرئيسُ في ذلك العصف، والمحرك الفاعل لتلك العاصفة، وهنا ترتسم صورةُ الإحالة الدلالية، التي تفرغ العاصفةَ من كُـلِّ مدلولات القوة والخراب والتدمير والهدم، والعنف والموت والفناء والدمار، وغير ذلك من المدلولات المكتسبة بالعرف التداولي، لتعود تلك المدلولاتُ إلى فاعلها الأَسَاس “الريح”، وتبقى العاصفةُ في إطار الدلالة الوصفية المجردة، لطبيعة حركة الريح في حال عصفها، أي أن العاصفةَ لا تمتلك قدرةَ التدمير والخراب في ذاتها، وأنها لا تقومُ إلَّا بغيرها، وإنما أُطلقت العاصفةُ على الريح، من قبيل المجاز، والاكتفاء بذكر الصفة محل الموصوف، دلالةً عليه، إضافة إلى ذلك تحمل الريح -المرادف الوضعي للعاصفة- دلالات العذاب والانتقام والسحق والمحق الإلهي، حيث سلطها اللهُ تعالى عقاباً للقوم الذين كفروا به وكذبوا رسلَه، واستعجلوا عذابَه، فكان أن أرسلَ عليهم الريح العقيم، وريحا فيها صرٌّ، وريحاً فيها عذاب أليم، وريحاً صرصراً عاتية.

وقد جسَّد تحالفُ العدوان في تسمية حربه على اليمن بـ “العاصفة”، مدلولات العاصفة في مستواها العلائقي التداولي، المتضمّن للموت والفناء والدمار، لكنها تحوّلت بفضل الله وتمكينه لعباده المجاهدين، إلى مستواها الثاني الإحالي المفرّغ، المتضمن صورةَ العجز في ذاتها، والاستلاب لغيرها، ففي مستواها الأول، قتلت وأجرمت ودمّـرت وسفكت الدماءَ وأزهقت الأرواحَ، وخربت العمران البنى التحتية، وأمعنت في الهدم، لتقيم الخراب والموت والفناء، محلَّ ما تدعيه من بث الحياة وإعادة الأمل، لتترجم بذلك رغبة سيدها الصهيوأمريكي، غير أنها سرعان ما خار عزمها، وتوانى حسمها، وظهر عجزها وفراغها وهشاشتها، أمام ضربات الباليستي والطيران المسيّر اليمني، الذي أصابها في مقتل، وشل ضرعها الحلوب “أرامكو”، وأهدافاً استراتيجية أُخرى، فسقطت بذلك هيبتها ومكانتها، وعنتريات عصفها وحسمها، وبدت عاجزةً عن امتلاك وتحقيق فعل الحماية لنفسها، وتعرى افتقارها إلى غيرها من الجيوش المستجلبة، والمرتزِقة والقتلة المأجورين، الذين لم يغنوا عنها، ولم يكن بقاءُ مملكة آل سعود، يهمهم بقدر ما يهمهم استمرار تدفق الأموال السعودية، مقابل حماية وهمية، وخدمات افتراضية.

تحمل “الرياح” مدلولات الخير والعطاء، وبشائر البركة والنماء، وتحضر “أم الرياح” كنقيض وجودي ودلالي للريح العاصفة، وخضوع “العاصفة” لـ “أم الرياح”، يعكس خضوعَ قوى الشر والإجرام، لقوة الخير والحق، واستسلام آلة الموت والتدمير والخراب والقتل، لروح الحياة والعطاء، وبشارة الله التي يسوقها إلى أهل الأرض بين يدي رحمته، المشتملة على الغيث والرحمة والهبات الإلهية، ومظاهر رحمته وقدرته في ملكوته، وَ”أم الرياح” حسب التأويل التقابلي، تُمثّل النقيض الكلي للعاصفة، وتشير إلى جنود الله وأنصاره، وموضع رحمته وتجليات قدرته، وبشارته العظمى لأهل الأرض بالحرية والحياة الكريمة، التي أرادها لهم، بعيداً عن تسلّط الظالمين، وهيمنة استعباد المستكبرين، وتأليه الفراعنة المتجبرين.

 

وين جيش الدعي سلمان راح

من هجوم الصقور الجارحة

أخفق “ترامب” وتحالف “سجاح”

كفَّة المؤمنين الراجحة

راعي “الحزم” مكسور الجناح

ما تهنّى بصفقة رابحة

من تمسك بقرن ابليس طاح

والطواغيت جمعة طايحة

يقدم هذا المقطع النصِّي مشهداً مفتوحاً زمنياً، لعملية الهروب المفتوح زمنياً ومكانياً، التي يقوم بها جيشُ سلمان الدعي، كوظيفة دائمة في هذه الحرب، لا يجيد سواها، ورغم أن الهروب من المواجهة فعل مشين ومخزٍ، يلحق بصاحبه العار والشنار، إلَّا أن الأنكى والأخزى منه، هو تلميحُ الذات المتكلمة/ الشاعر إلى عملية الهروب اللانهائي لجيش “الدعي سلمان”، من خلال التعريض بالتساؤل بـ “أين” المكانية، المستفهمة للاستنكار والسخرية والتهكم، وليس طلباً للمعرفة، مما يعني أن ذلك الجيش معدوم الوجود والاستقرار -كمليكه الدعي- لم يستقر في مكان، ولم يثبت في مواجهة، ليرتسم من خلاله مظهرُ الغياب والفرار والنكوص على الأعقاب، والهروب الدائم؛ نتيجةَ الخوف الدائم، “من هجوم الصقور الجارحة”، التي تمثل موقف الذات المتكلمة/ الشاعر ومجتمعه، في أبهى صور القوة والثبات والتمكين، والقدرة العالية على إدارة المعركة، وهنا تتجلّى المفارقةُ الضدية بين ثنائيات: الغياب والحضور/ الهروب والإقدام/ الخوف والشجاعة/… إلخ، لتعكس حقيقة تمثيلها لتموضع الآخر/ جيش سلمان الدعي، والذات المتكلمة/ الشاعر في صدروه عن التموضع الجمعي، وكونه واحداً من تلك الصقور الجارحة، بما للصقر من حضور في الوجدان الجمعي العربي، ورمزيته المشحونة بدلالات القوة والافتراس، والعزة والمنعة، وهنا يخرج التضاد بين الذات والآخر من صورته التقابلية الصدامية المتعاكسة، الحاملة لطبيعة الصراع بين المتناقضات، إلى صورة تضاد جديد، قائمٍ على التناسب الطردي، فكلما هجمت الذات/ الصقور الجارحة، أمعن الآخرُ/ جيش سلمان الدعي في الهروب اللانهائي، في مشهد مفتوح زمانياً ومكانياً على ما لا نهاية.

 

أخفق “ترامب” وتحالف “سجاح”

كفَّة المؤمنين الراجحة

يرتبط الحاضر بالماضي، من خلال عملية الإسقاط المحايث؛ نظراً لطبيعة الدور والتطابق شبه الكامل في المواقف والشخصيات والنفسيات المريضة، وما تنطوي عليه من خبث ومكر وفجور، على ذات المسار الزمني التقابلي بين الحاضر والماضي، فما يحدث اليوم، وما يقوم به المجرم “ترامب”، في رمزيته الإجرامية الشريرة المخادعة المخاتلة، قد حدث بالأمس من قبل رعاة الأحزاب، وما يقوم به تحالفُ آل سعود الإجرامي، قد قامت “سجاح”، في حضورها التاريخي، وتموضعها الزماني والمكاني، غير أن التوظيفَ النصي لهذه الشخصية، يجعلها تخترق حدودَ الزمان والمكان، لتعود من جديد في شخصيات آل سعود، لتقود هذا التحالف الإجرامي العالمي، ممثلة لمحور الشر، وكفَّة الإجرام والطغيان، حيث يقابلها على المحور المصيري/ الزمني، النقيض المخالف لها تماماً، ممثلاً بـ كفة المؤمنين الراجحة، وجند الله الغالبين، في مشهدٍ يقوم على توظيف الثنائيات الضدية، والاختزال الزمني والمكاني، ليرسم طبيعةَ الصراع المتجدّد دائماً، في صورته العامة، وامتداده الزمني والمكاني، بين الإيمان والكفر، والفوز والخسران، والنقص والرجحان، ليتحوّلَ بذلك من مشهديته الآنية في الزمن الحاضر، إلى مشهد مفتوح على الفضاء المكاني والزماني المطلق، الممتد من الماضي إلى الحاضر، وصولاً إلى المستقبل المفتوح؛ ذلك لأَنَّ الحقيقةَ ذات زمن مطلق.

 

راعي “الحزم” مكسور الجناح

ما تهنّى بصفقة رابحة

يمكن القولُ إن هذا البيت هو بيتُ القصيد، ولذلك لا غرابةَ من الاستفاضة في تناوله وسبر أغواره.

يقوم الشاعرُ بتوظيف ممكنات التفريغ الدلالي، ليمنح التأويل قابلية الانفتاح على الدال ونقيضه في الوقت نفسه، جاعلاً من المفارقة لعبته الأَسَاسية، على مستوى البنية والدلالات والمدلولات، وعلى مستوى الصورة بتقنياتها المختلفة.

يتكون الشطر الأول من مقطعين: الأول: “راعي الحزم”، الذي يحمل دلالات القوة والحسم، وصنع النهايات، والحضور الطاغي.

والثاني: “مكسور الجناح”، الدال على الضعف والانكسار والاستلاب والعجز والغياب التام، وهنا ترتسم المفارقةُ المدهشة، التي تصف مركز القوة/ “راعي الحزم”، بمنتهى الضعف/ “مكسور الجناح”، في صورة ثابتة لطبيعة القوة المستلبة، لمن لا يملك من مواضعات تلك القوة إلَّا الاسم فقط، واضعة المتلقي في فضاء لا نهائي التساؤلات.

كما تتجلّى في هذا السياق -أيضاً- المفارقةُ في بعديها: الجمالي: المتمثّل في شعرية التضاد والتهكم والسخرية، والدلالي: الذي ترسمه مدلولات العناصر المكونة للصورة الثابتة، حيث يبدو “راعي الحزم”، ” مكسور الجناح”، مسلوبَ الإرادة والقدرة والقوة، في صورة هزلية مضحكة، يرسمها مهرج يحمل سيفاً من خشب؛ فكونه “مكسور الجناح”، قد نفى عنه مدلولات الحزم والحسم والقوة والقدرة على المبادرة، وانتقل به إلى موضع الضعف والانكسار والعجز، لتبلغ الصورةُ الشعرية ذروتها الجمالية، من خلال عملية التفريغ الدلالي، التي فرغت مدلولات القوة عن “راعي الحزم”، وأثبتت له دلالات الضعف، في صفته “مكسور الجناح”، الدالة عليه والمشيرة إليه، بتخصيصه دون سواه، وتتظافر دلالاتُ الصورة الثابتة مع دلالات تركيبها الجملي الاسمي، لتؤدي مدلولاتهما وظيفة التأكيد والمبالغة في إثبات صفة العجز والضعف والاستلاب الدائم، الذي يعانيه “راعي الحزم”، الذي أصبح مثيراً للشفقة باحثاً عن الحماية، وهو في تموضعه هذا المثير للشفقة والسخرية، مازال رهينَ حظه التعس، وخسرانه الدائم، فهو “ما تهنى بصفقة رابحة”، أي: لم يهنأ ولم يحالفه الحظُّ والربح في أي أمر يقوم به أَو صفقة يعقدها؛ لأَنَّ اللهَ لا يصلحُ عملَ المفسدين، وكذلك يريهم اللهُ أعمالَهم حسرات عليهم، وبذلك يرسم المقطع التكراري، المتركب من الفعل المضارع المفرغ بالنفي “ما تهنى” -لم يهنأ- مدلولات الخسران الدائم، وعدم التوفيق المتكرّر، انطلاقاً من دلالات زمن الفعل المضارع المنفي، الذي تجاوز مدلولات الثبات في الزمن الحاضر، ليمتد من خلال الاحتمال الزمني لمدلولات التكرار إلى المستقبل، في طبيعة المقطع التصويري للخسران في مداره الزمني الراهن المغلق، والمتنامي بالانتقال إلى مدارات زمنية مغلقة على راهنيتها اللحظية، وبذلك تنتقل طبيعةُ الخسران الدائم، من الفعل “ما تهنى” إلى صفة الحرمان المتكرّر، والمتجدّد بتجدّد مقاطعه التصويرية، المتنقلة في مداراتها الزمنية المستقبلية المتنامية، الخاضعة لمركزها الثابت، المتشكل من مدلولات الضعف والاستلاب والغياب، الذي يرسم تفاصيله “راعي الحزم”، في تموضعه الوصفي القارِّ عليه والحالِّ فيه، بكونه “مكسور الجناح”، ولكنه رغم ذلك ما زال يعيشُ وهم القوة، والحالة الدنكيشيوتية، في حرب طواحين الهواء.

لا يعدو الآخر/ راعي الحزم كونه ممثلاً، يؤدي دوراً وظيفياً، ويسعى لتنفيذ مهمة أُوكلت إليه، كمن يرعى الإبلَ والغنمَ لسيده، بذات نفسية العبد، الذي أدمن العبوديةَ وتشرَّبها، حتى تفرّغ من كُـلّ حلم أَو طموح أَو أمل أَو رغبة ذاتية، وغاب عن تصوره حقُّه في الاستقلال، واتخاذ القرار، حتى في أخص خصوصياته، وأسعده أن يعيشَ حياته كما يرسمها ويريدها الآخرون، وتفرغ إدراكه من أيِّ شعور أَو أي موقف من كُـلّ ما حوله، حتى أن وجودَه لم يعد يتحقّق إلَّا بما يرسمه له غيره، ولا يعرف إلَّا من خلاله، ليعيش عالةً وجوديةً على غيره، وهو في المقابل كبش الفداء على مائدة قرابين سيده، دون أن يعيَ ذلك، وكل ما يشغله هو رهابُ الحرية، ومن كان ذلك حاله، كيف يُرجى منه صناعة نصر أَو إحراز تقدّم، أَو تحقيق حسم ما؟!..

 

بالسيوف الصوارم والرماح

امتطينا الخيول الجامحة

يا أولي البأس حان الاجتياح

والتجارة مع الله رابحة

من هدى الله طورنا السلاح

في “بقيق” التجارب ناجحة

تحضر الذات المتكلمة بقوة، سواءً على مستوى التمثيل النصي التركيبي، في “امتطينا، يا أولي البأس، طورنا”، أَو على مستوى الارتباط العلائقي بينها وبين الأشياء، “السيوف الصوارم، الرماح، الخيول الجامحة، التجارة مع الله، هدى الله، السلاح، التجارب الناجحة”، وما يحيل إليه هذان المستويان من مدلولات القوة في السلاح “السيوف الصوارم، الرماح”، وفي الوسيلة “الخيول الجامحة”، وفي الوصف الجمعي “يا أولي البأس”، وفي التكتيك العسكري “حان الاجتياح”، وحانت ساعةُ الصفر، وفي الاستعانة بالله والتسلح بهديه “التجارة مع الله، من هدى الله”، وفي امتلاك الخبرة والتمكين “طورنا السلاح”، وفي صناعة المخرجات والنتائج “نجاح التجارب في بقيق”، وبذلك الحضور الطاغي، حقّقت الذات المتكلمة وجودَها على المستويين الفعلي والإدراكي، لتحتل مركزَ الصورة وتصنع أبعادها، وترسم مشهداً درامياً مفتوحاً في الفضاء الزمني والمكاني، من خلال مدلولات الفعل “امتطينا”، الذي يتجاوز راهنيته الماضوية إلى الحاضر، ويستمر في اتصاله وحضور أنساغِه إلى المستقبل؛ نظراً لبقاء دواعيه وموجبات حصوله، ومدلولات الحقيقة في زمنيتها المطلقة، في قوله: “والتجارة مع الله رابحة”، يضاف إلى ذلك مدلولات فعل “الاجتياح”، الذي تفرضه استراتيجيةُ الرد والردع، ومدلولات المكان الشاهد بالنصر والنجاح “في بقيق التجارب ناجحة”، ليتجاوز فعل النجاح ماضويته الإخبارية، المقيّدة بفضاء مكاني مغلق “بقيق”، إلى الصيغة الدائمة، ذات الحضور الدائم والطابع الاستمراري المتكرّر، والمنفتح على فضاءات مكانية مختلفة، فالنجاحُ الذي تحقّق في “بقيق”، بالإمْكَان تحقيقه في أماكنَ أُخرى، أكثر إيلاماً وأهميّةً وتأثيراً.

تحضر الذات في هذا المشهد المفتوح حضوراً مركَزياً كاملاً، في كامل عدتها وعتادها واستعدادها، بينما يغيب الآخر/ جيش سلمان الدعي غياباً كاملاً، ليرسم بذلك صورته المستقبلية، الناتجة عن كونه عبارة عن فقاعة سرعان ما انفقأت وانتهى دورُها، لينتهي به المطاف إلى تموضعه المستلب كسيراً أسيراً عاجزاً.

 

حلف سلمان تذروه الرياح

والخسارات كبرى فادحة

يا ملوك الخنا والانبطاح

يا وجوه النفاق الكالحة

ما نسينا المآسي والجراح

والعدوّ مستحيل نسامحه

يحضر الآخر/ حلف سلمان، ليرسم مشهداً مغلقاً لنهايته الوجودية، “تذروه الرياح”، في عالم الفناء والغياب، بينما تظل خسائرُه مستمرةً في الحدوث، رغم غيابه الوجودي، لتكون دالة عليه، وشاهدة على نهايته المخزية، وعاقبته الوخيمة، ودوام اللعنة التي حاقت به، فخساراته “كبرى فادحة”، حاضرة باستمرار كشواهد حية على غياب مهين، ولعنة أبدية.

كما يحضر الآخر/ ملوك الخنا والانبطاح، بتكرار توجيه النداء إليه، في صورته المزرية، ومواقفه المخزية، وتموضعه السلبي المحض، في تمثيله “وجوه النفاق الكالحة”، لترسم مشهداً مفتوحاً من الغياب والتلاشي، في مدارات القبح ومألات الزوال.

وأخيراً تحضر الذات المتكلمة بقوة، لترسم مشهداً مفتوحاً من البقاء الأزلي، في تموضع التذكر الدائم للمآسي والجراح وجرائم العدوان، لتكون دافعاً قويًّا للاستمرار في الحياة، والسعي للاقتصاص من ذلك المجرم، وتأديبه مهما كان الثمن، لتحمل استحالة التسامح مع العدوّ، مدلولات الامتداد اللانهائي في فضاءات الزمان والمكان، بما يحقّق بالتوازي حضور الذات المتكلمة، ويؤكّـد أحقية بقائها.

 

في الجهاد السلامة والفلاح

والفرج للشعوب النازحة

يا أمم ليش دمنا يستباح

وين ميثاقكم واللايحة

عالم النفط لجل النفط صاح

والدماء ما سمعنا صايحة

تقدم الذات المتكلمة في هذا المقطع ثلاثة مستويات من الخطاب، الذي يختلف باختلاف طبيعة الآخر/ المخاطب، ومدى تموضعه القيمي والوظيفي، ففي المستوى الأول..

 

“في الجهاد السلامة والفلاح

والفرج للشعوب النازحة”

لا يفصح الخطاب عن طبيعة الآخر/ المخاطب علناً، أَو يسميه بياناً، وإنما يُشير إليه من خلال مدلولات الخطاب نفسه، الذي يُقدّم “الجهاد” مركزاً دلالياً وأيديولوجياً، ومشتركاً معرفياً بين الذات/ المتكلم والآخر/ المخاطب، بوصف ذلك المفهوم بسبيل الخلاص الوحيد، وطريق النجاة والفلاح الأخير، بالنسبة للشعوب النازحة المستضعفة، المغلوبة على أمرها: النازحون المهاجرون إلى الله فراراً بدينهم، وقد أُخرجوا من ديارهم وأهليهم، وهنا يظهر الآخر/ المخاطب المسلم خَاصَّةً، والإنسان الحُرّ عامّةً، في تموضعه الجمعي وتمثيله الشعبي العام، في ارتباطه بالذات المتكلمة في إطار علاقة الانتماء الإنساني والمعرفي والديني، والأخوة -بمختلف مستوياتها- التي تصلُ حدَّ التماهي بين الذات والآخر.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com