قراءة في محاضرة (لا عذر للجميع أمام الله) للشهيد القائد (2)

المسيرة/ خاص

لن يجدَ الناسُ لهم عذراً أمام الله تعالى يوم القيامة، ولن يقبل انتظارهم حتى يتحَــرّك العلماء، والعلماء غير معذورين إذَا لم يستجب لهم الناس، ولن يأتيَ وقتٌ يتحَــرّك فيه جميع العلماء في خط واحد، هذه القضايا أثارها الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- أمامنا؛ كونها من أَكْثَـــر الإشكالات تجاه التحَــرّك الفاعل، وطالما مثلت ولا تزال شماعات للقعود والتقاعس، والشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- قد سد الباب على الجميع من خلال استدلاله بالقُــرْآن الكريم على أهميّة النظر في مضمون الكلام مع إهمال شخصية المتكلم، فمضمون الكلام المفيد هو أساسُ الموقف الذي يتخذه حيال ذلك الكلام، حتى لو كان من شخص غير معني، أو من شخص فضولي، أو من مجنون لو أمكن ذلك، وما أجمل اللفتة القُــرْآنية التي أضاء الشهيد القائد عليها في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فذكر الله كلام الرجلين وسطِّره ككلام نبيه موسى مع وجود العلماء والعبّاد والزهاد والقادة الشجعان في أُمَّــة نبي الله موسى.

اكتفى الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- بمعيار واحد في قبول كلام أحد كائنا من يكون أو رفضه، وهو ما حدّده بقوله: “أن تعرض ما سمعته منا على الآخرين باعتبار هل مثل هذا عمل يرضي الله سبحانه وتعالى؟” وبهذا تجاوز كُـــلّ التراث الثقافي المغلوط الذي حال بيننا وبين القُــرْآن الكريم، وتجاوز الشخصيات الممثلة للدين التي بات الدين لديها أموراً مألوفة لا تحاول أن تفحص صحتها من خلال القُــرْآن الكريم.

 

ضرورةُ المقارنة بين واقعنا وواقع اليهود:

وأثار الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- قضية عملية مهمة تغيب اليوم عن واقعنا بصورة إيجابية ومثمرة، وربما نمر عليها مرور الكرام، بل قد نتخذ مواقف سلبية ممن يذكرنا بها ونعدّه متأثرا بسطوة الثقافة الغربية، فكل من توجه بنظره وتفكيره إلى المقارنة بين واقع العالم الغربي وواقعنا لا شك بأنه سيجد أن اليهود قد سبقوا في كافة المجالات، حتى في تحقيق العدالة في أوساطهم، ومحاربة مظاهر الفساد المالي والإداري، والمساواة في الحقوق، والرعاية الصحية، والمحافظة على الذوق العام في كُـــلّ مجال، حتى بات رئيس وزراء الكيان الغاصب في إسرائيل نتنياهو يتفاخر بأنه وقومه يصدرون إلى العالم الحياة الأفضل، وأن الشعوب الأُخْـــرَى باتت تتطلع إلى اليهود باهتمام بالغ لترى ماذا سيقدمون من أجلها ومن أجل رفاهها، بل صار اليهودي اليوم أَكْثَـــر اهتماماً بالدين من المسلمين أنفسهم، يقول الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: ” وخلاصة المسـألة هـو: أننا كمسلمين، أن نقـارن بين أنفسنا – وهذا كما قال الإمام علي (عليه السلام): ((متى اعترض الريب فيَّ حتى صِرت أُقْرَن بهذه النظائر)) – نحن الآن يجب أن نقرن أنفسنا باليهود، فإذا ما وجدنا أن اليهود هم أَكْثَـــر اهتمامًا بقضاياهم، أَكْثَـــر اهتمامًا بشؤونهم، أَكْثَـــر اهتمامًا بديانتهم فإن هذا سيكشف بأننا أسوأ من اليهود”.

هذه المقارنة المهمة تأتي فائدتها من خلال تحديدنا لموقعنا كأمة مسلمة، فإذا كان اليهود قد تسلطوا علينا وسبقونا في كافة المجالات وهم المغضوب عليهم الملعونين المضروبين بالذلة والمسكنة فنحن نعيش في واقع أسوأ مما نتوصر، حيث تشير المقارنة إلى أننا بتنا أَكْثَـــر من اليهود في استحقاق الغضب الإلهي، واللعنة والذلة والمسكنة، فاليهود لا يزالون هم على حالهم في ذلة وصغار لم ينقلب حالهم إلى واقع آخر، وإنما نراهم فوقنا؛ لأَنَّنا من صرنا تحتهم بدركات، وليس لأنهم صاروا فوقنا أعزاء شامخين مهيمنين، هذه المقارنة تأخذ أهميّة؛ لأَنَّها تبين لنا أننا كأمة صرنا أسوأَ ممن ضُربت عليهم الذلة والمسكنة بشهادة الواقع.

 

واقع الغضب الإلهي علينا وأسبابه:

كُلُّ هذه الغضب الإلهي علينا جاء بما يناسب فداحة الخسارة التي تسببنا بها في واقع البشرية، فبدلاً عن أن نحمل الهدى إلى العالم بعد أن منّ علينا الله به، ضيعناه؛ فتخبط البشر بعيداً عن هدى الله، وبات البديل أمامهم هو ضلال أهل الكتاب، وتعولمت الدنيا اليوم في ثوب يهودي، فبات الحياةُ العصرية بكل تفاصيلها يهودية النكهة، ترى ذلك في التكنولوجيا، في الأزياء، في السينما، في الاقتصاد، في الصناعات العسكرية، في كُـــلّ ما يحيط بنا، كُـــلّ هذا نتحمل نحن كعرب وكأمة إسْلَامية المسؤولية الكاملة عنه بسبب تقصيرنا؛ ولذلك كان حجم الغضب الإلهي أَكْبَـــر من الغضب الذي نال اليهود قتلة الأنبياء والقائلين على الله بغير علم والمحرفين لكلام الله في كتبه، يقول الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: ” العربُ ضيّعوا كُـــلّ هذا فكان ما يحصل في الدنيا هذه من فسادٍ العربُ مسؤولون عنه، ما يحصل في الدنيا من فساد على أيدي اليهود والنصارى الذين أراد الله لو استجبنا وعرفنا الشرف الذي منحنا إياه، والوسام العظيم الذي قلدنا به: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية110) لو تحَــرّكنا على هذا الأساس، لكان العرب هم الأُمَّــة المهيمنة على الأُمَــم كلها، ولاستطاعوا أن يصلوا بنور الإسْلَام إلى الدنيا كلها”.

 

المسلمون ليسوا في مأمن من مصير اليهود:

يظُنُّ البعضُ بأنه كمسلمٍ من أُمَّــة محمد صلى اللهُ عليه وآله وسلم لا يمكن أن ينالَه ما نال اليهودِ من عقوبات الله في الزمن الأول ولا تزال اليوم، وفي يوم القيامةِ أَيْــضاً، بل باتوا يجزمون أنه متى ما كنت من أُمَّــة محمد فسوف تكون من أهل الجنة وإن سرقتَ وزنيتَ ورابيت وافتريت، فمجرد “لا إله الا الله” كفيلة بأن تخرجك من جهنم إن صادف ودخلت فيها، وإلا فإن فرصَ النجاة قبل ذلك يوم القيامة كثيرة، فمن شفاعة النبي محمد إلى ضربة حظ تنالها بعمل بسيط في الدنيا، إلى غير ذلك مما اخترعته بعض طوائف الأُمَّــة، إرجاء للناس، وإغراء لهم، وتتبعا لطريقة أهل الكتاب في التمني التي ذمهم الله عليه بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وهنا يؤكد الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- على أننا لسنا بمأمن من أن ننال لعنة الله التي نالها اليهود من قبلنا، حيث يقول: “وعندما يقول الله لـك في القُــرْآن الكـريم: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} هو ليقول لك وللآخرين بأنك وأنت إذَا ما عصيت واعتديت، إذَا ما قصّرت في مسؤوليتك، ستُعَرض نفسك لأَن تضرب عليك الذلة والمسكنة، وأن تَـتِيه كما تاه بنو إسرائيل من قبلك”.

 

لماذا نحن أذلاء تحت من ضُربت عليهم الذلةُ والمسكنة؟

حين نرى الواقع الذي تعيشه الأُمَّــة نعرف أنها باتت تحت سلطة اليهود والنصارى، ليس لأَنهم أعزاء وإنما لأنَها باتت أَكْثَـــرَ صغاراً وذلةً منهم، وكل ذلك نتيجة التقصير والتفريط الذي عشناه من قبل ولا زلنا نعيش في تفاصيله كُـــلّ يوم، وفي كُـــلّ موقف.

وعلى هذا فكل الفساد الذي ملأ اليهودُ به الدنيا نحن المسؤولون عنه قبلهم، سواءٌ أكان اقتصادياً أو ثقافياً أو اجتماعياً أو دينياً، يقول الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “قصرنا تقصيرًا كبيرًا جعلنا جديرين بأن نكون كذلك، وإلا لما كان اليهود يمتلكون هذه الهيمنة، ولما كانوا قد ملأوا الدنيا فسادًا”.

وقد ضرب الشهيدُ القائدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- نماذجَ من الواقع في موضوعات عديدة كالربا وسفور النساء، حتى باتت الأُمَّــة في واقع أسوأ بكثير من الفساد الذي يعيش فيه اليهود أنفسهم، وهو ما يعني أن الغضب الإلهي علينا كأُمّة إسْلَامية قد تجاوز الغضب الذي ناله اليهود، وهذا تجسيد للسنة الإلهية التي وردت في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، يقول الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “أليس وضع الأُمَّــة العربية وضعًا سيئًا جدًا في حياتهم المعيشية، في كُـــلّ شؤونهم؟ أصبح العربي لا يفتخر بأنه عربي، من هو ذلك الذي يفتخر بأنه عربي؟ هل أحد أصبح إلى درجة أن يفتخر بأنه عربي؟ أصبح العربي الذي تجنس بجنسية أمريكية أو بريطانية يفتخر بأنه استطاع أن يتجنس أن يأخذ الجنسية الأمريكية أنه عربي أمريكي، لكن العربي الأصيل العربي الذي لا يزال عربيًا أصبح لا يرى بأن هناك بين يديه ولا في واقع حياته ما يجعله يفتخر بأنه عربي”. وهذا الواقع يختلف تماما عن واقع الهوية الإيمانية التي يتصف بها المؤمنون، فواقع بلا عزة ولا منعة ولا قوة ولا كرامة لا يمكن أن يوصف ذووه بأنهم على الطريق المستقيم، وأن مصيرهم غداً إلى الجنة يوم القيامة، يقول الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: ” فنحن نريد أن نفهم من هذا أننا إذَا لم نتدارك أنفسنا مع الله أولًا، أنه غير صحيح أننا نسير في طريق الجنة، وإن كنت تتركّع في اليوم والليلة ألف ركعة، هذه الصلاة إذَا لم تكن صلاة تدفعك إلى أن ترتبط بالله أَكْثَـــر وأَكْثَـــر وأن تنطلق للاستجابة له في كُـــلّ المواقع التي أمرك بأن تتحَــرّك فيها فإنها لا تنفع”.

قد يستغرب الكثيرون صراحة هذا الطرح الذي يواجه به الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- المجتمع المسلم ولكن بعد شيء من التأمل سيعترفون بصوابيته، ويذعنون بأنه لا عذر للجميع أمام الله، ومن لا يصل إلى هذه الحقيقة فلا شك أنه ممن وصفهم الله بأنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وقد وضح الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- هذا الكفران بأنه قد لا يكون بالنكران المباشر ولكن بترك الامتثال لمقتضيات بعض ما في ذلك الكتاب، وهو الواقع الذي نعيشه في مسألة الربا مثلاً، أو طريقة توزيع الزكاة، وكثير من التفاصيل التي تعيشها الأُمَّــة اليوم، يقول -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “فنحن نريد أن نفهم من هذا أننا إذَا لم نتدارك أنفسنا مع الله أولًا، أنه غير صحيح أننا نسير في طريق الجنة، وإن كنت تتركّع في اليوم والليلة ألف ركعة، هذه الصلاة إذَا لم تكن صلاة تدفعك إلى أن ترتبط بالله أَكْثَـــر وأَكْثَـــر وأن تنطلق للاستجابة له في كُـــلّ المواقع التي أمرك بأن تتحَــرّك فيها فإنها لا تنفع”.

لقد وضع الشهيد القائد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- المسؤوليةَ الكاملة علينا -أفراداً وجماعاتٍ- حيال هذا الواقع المزري لهذه الأُمَّــة، وقالها بصوت واضح (لا عذر للجميع أمام الله)، وهو لم يرفع هذه العبارة شعاراً، بل صدع بها إنذاراً، ومن يفهم ما طرحه -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- يفهم الدوافع التي جعلته يقدم حياته راضياً في سبيل تحقيق ما أراده من توصيل هذه الدعوة بالعودة إلى كتاب الله وتصحيح مفاهيمنا حول الدين، وتصحيح مسارنا {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com