فكر المجاهد وروحيته (1)

بقلم: حمود الأهنومي

هناك من العقائد الدينية والفكر الإسلامي النيّر والقِيَم الروحية والأخلاقية ما يجعل المجاهد أكثر انطلاقا إلى الله وأحسن أداء في طاعته، وأفضل توثُّبا وقياما في مرضاته، بل لا يقبل الله عملك الجهادي إلا إذا كنت ترتبط به تعالى ارتباطا حقيقيا، تؤمن به وتتوكل عليه، وتؤمن برسله وأنبيائه وملائكته، وباليوم الآخر إيمانا قويا وفاعلا ينعكس على أعمالك كما ورد في الكتاب العزيز والسنة النبوية الصحيحة. وهذه بعض العناوين التي تشير إلى المجاهد النموذجي الفاعل والنشط، الذي انطلق مع الله بصدق ومعرفة.

أولاً: يستشعر معية الله دائماً (لا تحزن إن الله معنا)

يشعر المجاهد شعورا فياضا بوجود الله معه، وبتأييده إياه، لأنه عندما انطلق في ميادين الجهاد انكسر وهو الضعيف أمام خالقه القوي الجبار؛ ليستمنحه القوة التي تمكّنه من القيام بما افترض عليه من التحرك، إنه – حين ينتمي الناس إلى ولاءات قاصرة وغير قادرة ينتمي المجاهد إلى الله وحده لا شريك له، باعتباره أقوى الأقوياء، وجبار السماوات والأرضين وينكسر أمامه ويفرده بالقوة والقدرة والجبروت، حين لا يقر المجاهد بقوة لأحد من دون الله فإنه إنما يلجأ إلى القوي الجبار، ويسند حركته إلى العزيز القهار، إنه يشعر بوجوده معه في كل تحركاته.

حاصر كفار قريش النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ليفتكوا به، فأنجاه الله حيث كان معه، ثم أدركوه في الغار مع صاحبه أبي بكر، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من رؤيتهما والفتك بهما، فحزن أبو بكر، وخاف أن قد أصبحوا لقمة سائغة لهذه الذئاب المفترسة، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم – وهو يعيش أقوى الشعور بوقوف الله معه – طمأنه أن الوضع مرتبط بتقدير الله وأنه بعين الله؛ لهذا أكرمه الله بالسكينة وأيّده بجنود لم يروها، وأفشل حركة الكفار في آخر مطافها، وقد كادت أن تنجح؛ وذلك شأن الله مع من آمنوا به وأخبتوا إليه، حين تحاصرهم المنايا من كل جانب، وتحدق بهم أمواج البلاء من كل ناحية، حيث يدركون مع كل ذلك أن معية الله لهم ستفتح لهم آفاقا واسعة في النجاة والنصرة.

(إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة40. إن اعتقاد الرسول الكريم بمعية الله له في تلك اللحظات كان سببا في إنزال السكينة عليه وتأييده بجنود غير مرئيين، وكان سببا في انتصار الحق على الباطل في هذه الجولة من الصراع الحتمي بينهما.

إن المجاهد – وهو يعيش حياة الجهاد التي تعني المغالبة والمقاهرة لأعداء الله – لا بد له أن يرتبط ارتباطا حقيقيا بالله، ويشعر أنه بعين الله الملك القهار، الذي لا يعجزه شيء، لقد أكد الله معيته للمؤمنين المجاهدين، وللمؤمنين الصابرين، وللمؤمنين المتقين، وللمؤمنين المحسنين، (إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة153 (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) البقرة194 (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة249، (إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) الأنفال19، (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) النحل128.

يؤمن المجاهدون أن النصر من الله وحين ينصرهم فلا غالب لهم، ولكنه حين يتخلى عنهم بسوء صنيعهم فلا ناصر لهم، (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) آل عمران160، إنهم يستشعرون عظمة الله وقدرته المطلقة ويعرفونه معرفة حقيقية، بيده مقاليد كل شيء، وهو من يدبِّر أمور هذا العالم، وهو من يسبِّب أسباب النصر، ويرسم نهايات الغلبة، وما المجاهد إلا عبد ضعيف من عبيد ذلك الإله العظيم، يؤدي ما أمره الله به، ويقدم ما بيده من الوسائل والجهود، ثم يطلب النصر من الله، (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) آل عمران 126.

عليك إذًا أيها المجاهد أن تستشعر أن الله معك أينما كنت، يراك حيثما كنت، ويسمع نجواك، ويعلم سرائر قلبك، وخطرات نفسك، عليك أن تتذكر أن الله أرسل موسى وأخاه هارون إلى عدوهما الذي كان في الأصل يبحث عنهما ليفتك بهما ويقتلهما، فطمأنهما الله عز وجل بمعيته لهما، (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) طه46، إن من حاز معية الله عز وجل فلن يقف في وجهه شيء مما دون الله سبحانه وتعالى، لهذا رأينا المجاهدين كالعواصف ينطلقون في مسيرتهم الجهادية بشوق وتلهف، لعلمهم أنهم ذاهبون في منهاج الله الذي ارتضاه لهم.

من علامات المجاهد الحق أنه يثق كل الثقة بالله سبحانه، وكيف لا يثق بخالق السماوات والأرض وجبارهما العالم بكل شيء والقادر على كل شيء، (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) البقرة117، قد يخطئ البعض إذ يضع ثقته في نوعية العُدة أو كثرتها أو الجيوش أو القيادات المبدعة، متناسيا أنها مجرد أدوات مساعدة على النصر، وأن النصر من الله وحده، وكيف لا يثق المؤمن المجاهد في الله الحي القيوم الذي بيده قلب المعادلات المادية وإبطال تأثيرها ولو في اللحظات الأخيرة.

إن الثقة العالية في الله التي يتمتع بها المجاهد (المعية لله) هي التي تُكْسِبُه هذا التدخل الإلهي الكريم، هذا نبي الله إبراهيم عليه السلام جاءه جبريل عليه السلام في أحلك موقف لما قذف به قومه في النار، فقال له: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال: إلى الله عز وجل، فقال: علمه بحالي يغنيه عن سؤالي، إن هذا يكشف عن ثقة مطلقة في الله حلت قلب هذا النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله، ونتيجة لهذه الثقة غير المعهودة في بني البشر غيّر الله نواميس الكون واستبدلها بناموس غير معهود، لأنه أصلا هو من أعطى هذه النواميس تلك السببية، وهو الذي جعل السبب سببا، وهو القادر على سلبها ذلك، فنصر عبده ونبيه إبراهيم عليه السلام الواثق فيه بما لم يعهده البشر أيضا، (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) الأنبياء69، إنها معية الله التي يحلِّق فيها أولياء الله الصالحون، ولا يدركها الخاطئون.

وأدرك فرعونُ وجيشُه الجرار النبي موسى عليه السلام وقومَه بعد أن اعترضهم البحر بمائه، فلما انقطعت أسباب النجاة الظاهرية أمام أعين البسطاء من قوم موسى وانغلقت الآمال عليهم، قالوا: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) لكن الولي الواثق بالله كان ينفتح له عبر معرفته لله تعالى ويقته به ضوءٌ واسع يخرق تلك العتمة المظلمة والكثيفة التي كانت تملأ نواظر أولئك البسطاء وتمنعهم عن رؤية أي أمل ونجاة، لاحظوا كيف صوّر القرآن هذه الروحية العالية التي يجب أن يتمتع بها المجاهد: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) الشعراء62، وعند هذه الثقة الخارقة تأتي المعجزة التي تخرق نواميس الكون، حيث فلق الله البحر، ليكون فيه نجاة موسى الواثق بالله ومن معه، وهلاك الطاغية فرعون الذي ظن أنه سيقتلهم ويسيطر عليهم.

يقول السيد الشهيد حسين بدر الدين الحوثي رحمه الله: اربط نفسك بالله رأسا، تجاوز كل هذه الأصنام في هذه الدنيا، وارتبط بالله رأسا، وثق به، وهو من سيجعلك قويا أقوى مما يملكه هؤلاء من وسائل القوة في هذه الدنيا، هو الله من يكون لك في كل المواقف بأكثر مما يمكن أن تدرك، سيملأ قلوب الآخرين رعبا بالشكل الذي لا يمكن أن تصنعه وسائل إعلامك، ولا يمكن أن تصنعه أيضا آليتك العسكرية، هو من نصر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالرعب بمسافة شهر، رغم قلة جيشه، نصره الله بالرعب حتى أن بعض أعدائه من اليهود خربوا بيوتهم، وقطعوا نخيلهم قبل أن يجيِّش الجيوش عليهم، وقبل إشعارهم بأنه يريد مهاجمتهم[1]. ذلك هو أثر الثقة في الله عز وجل ومعرفته حق المعرفة.

 

[1] ملزمة معرفة الله، عظمة الله، الدرس السابع.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com