من وحي سورة النمل .. بقلم/ علي ظافر

مَن يقرأ الصفحاتِ الأربع الأولى من سورة النمل، يجد كم هي غنية بالدروس والعبر للسياسيّين وأصحاب القرار، وأيضاً للأمنيين، والإعلاميين والأكاديميين وأصحاب البحث العملي، والدُّعاة والمرشدين… إلخ.

أولاً لفتني نباهةُ الهدهد، وذكاؤه وقدرته الفائقة على الرصد والاستطلاع ودراسة الميدان وتشخيص الواقع، ونقل المعلومة الدقيقة وتقديم تقرير مختصر شامل ونستوحي ذلك من قوله الله سبحانه وتعالى:

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين* لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ ليأتيني بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سبأ بنبأ يَقِينٍ* إِنّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شيء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ* وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ* أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّمَوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ* اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

ومما سبق يستفيدُ الإعلاميون في كيفية نقل التقارير المختصرة والدقيقة عن الواقع وبشكل جذّاب وصياغة محترمة، ويستفيد الأمنيون في كيفية جمع المعلومات ودراسة البيئة المستهدفة، بواقعية واختصار، ومن ثم رفعها إلى أصحاب القرار، ليُبنى على الشيء مقتضاه، ومن واقع الحرص على هداية الناس.

ويمكننا على ضوء ما سبق تحديد أبرز المؤهلات لمن يفترض أن يقوم بمهمة كهذه وهي على النحو التالي:

–        الحرص على استطلاع المحيط (دافع ذاتي).

–        الرصد الدقيق وجمع المعلومات.

–        القدرة العالية على تشخيص الواقع.

–        دراسة التهديدات والفرص في المحيط.

–        الدقة في نقل المعلومات بشكل مختصر ومركز.

في النقطة الأولى، تبين لنا من خلال الآيات الكريمة، غياب الهدهد ومن دون إشعار القيادة، ونستوحي ذلك من كلام نبي الله سليمان “وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين* لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ ليأتيني بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ…”، وفي النقطة الثانية تبين بعد عودة الهدهد أنه كان في مهمة رصد واستطلاع وجمع معلومات، لتحديد الفرص والتهديدات في البيئة المحيطة ولهذا قدم مبرّراً منطقياً لغيابة بقوله: “أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سبأ بنبأ يَقِينٍ”، لاحظنا الدقة في نقل المعلومات من خلال الآية التي أشرنا إليها سابقاً، والقدرة العالية على تشخيص الواقع السياسيّ، والاقتصادي، والاجتماعي، والعقائدي، والقدرات والإمكانات للمجتمع المستهدف، وتشخيص المشكلة، فنجد أنه نقل صورة عن مملكة قائمة على مبدأ الشورى في مجتمع تحكمه امرأه: “إِنّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ” (الواقع السياسيّ)، وَأَيْضاً نقل صورة عن القدرات والإمكانات المتوفرة في ذلك المجتمع (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شيء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)، كما شخّص الجانبَ العقائدي والأيديولوجي الذي يسود ذلك المجتمع (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ).

 

مهامُّ صانع القرار بعد جمع المعلومات:

نستوحي من الآيات الكريمة أن نبيَّ الله سليمان، عفا عن الهدهد، اتسمت معاملته بالمرونة، كما أنه لم يحتقر” الهدهد” ولم يأنفْ من أن يستفيدَ مما قدمه الهدهد رغم مكانة العالية عند الله والناس أقصد سليمان، في الوقت نفسه لم يبنِ قراراً مستعجلاً على ضوء ما قدم له، بل ذهب للتحقّــق من صدقية هذه المعلومات (تقرير، دراسة ميدانية.. الخ)؛ تمهيداً للخطوة التالية وهي اتّخاذ القرار وترتيب الخيارات، ولهذا قال: “قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين* اذْهَب بكتابي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ”.

في ترتيب الخيارات، كان الخيار الأول لنبي الله سليمان هو (المراسلات الدبلوماسية خارجية) وهو أسلوب دبلوماسي الهدف منه التحقّــق من صدقية المعلومات كما أشرنا، وأيضاً قياس ردة فعل الخصم وإبلاغاً للحجة، وكان سليمان عليه السلام دقيقاً في صياغة رسالته وانتقاء الكلمات والعبارات التي توحي بقوته المستمدة من الله، فلم يغفل الله سبحانه وتعالى عن مضمون الخطاب؛ باعتبار مهمته الأساسية وهدفه الأساسي هو الدعوة إلى الله “إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”، كما أنها لم تخلُ من التهديد المبطن:” أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ”.

مقابل هذه الدعوة وهذا التهديد المبطن من قبل نبي الله، تصرفت ملكة سبأ بذكاء وبحكمة وتميزت بمميزات عدة أبرزها، التشاور، الدبلوماسية والحوار، والإغراء والقدرة على المناورة… إلخ، فلم تستعجل ولم تتخذ قراراً بالمواجهة مع نبي الله سليمان مع أن قومها ومستشاروها كانوا مع الخيار العسكريّ وخيار المواجهة، ويتضح ذلك من ردة فعلهم بعد أن قصت عليهم قصتها بقولهم: “قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ”، وربما وجدت ألا تكافؤ في موازين القوى بينها وبين نبي الله سليمان” قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ”، ففضلت الخيار الدبلوماسي على خيار القُــوَّة، وقابلت الدبلوماسية بدبلوماسية، منتهجة أسلوب الإغراء والاستمالة بالمال، فأرسلت إلى نبي الله هدية مالية، لكن تلك الخطوة فشلت أمام ذلك النبي الذي يمثل امتداداً للخط الإلهي، ولهذا نجد أنه شديدُ الارتباط والثقة بالله والاعتزاز به ولهذا كان رده قويا حينما قال: “أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ”، كان يتحدث دائماً باسم الله، وينطلق دائماً بدافع الدعوة الله ويستشعر دائماً النعم التي من الله بها عليه، ويشد الخصم إلى الله، ولهذا لا بد أن يكون صاحب القرار في علاقة دائمة مع الله سبحانه وتعالى ليكون حكيما في قراراته وخياراته وتصرفاته.

حينما وجد نبيُّ الله سليمان أن الخيارَ الدبلوماسي (المراسلات والتهديد المبطن) لم يجد نفعاً مع ملكة سبأ لجأ إلى الخطوة الثانية وهي التهديد والتلويح بالحرب من خلال المراسلات أيضاً: “ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ”، هي رسالة دبلوماسية لكنه شديدة اللهجة، وتحمل تحذيراً وحرباً نفسية ومن الكلمات الدالة على ذلك: (جنود لا قبل لهم بها، لنخرجنهم، أذلة، صاغرون) فكان يمتلك جيشاً قوياً فعلاً ورهانه في محله.

بموازاة الخيار العسكريّ والحربِ النفسية وظّف نبي الله سليمانُ أسلوباً آخر وهو العلم والتفوق العلمي حينما طلب من معاونيه من الجن والانس نقل عرش بلقيس” قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ، وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ”.

لقد وصلت دولة نبي الله سليمان في تلك المرحلة كما أشار السيد حسين بدر الدين الحوثي إلى ما لم نصل إليه نحن اليوم في القرن والواحد والعشرين، وهنا تستفيد الجماعات العملية وأهل البحث العملي والتصنيع من هذا الدرس في توظيف قدراتهم في خدمة الأهداف السامية وصلاح البشرية، وليس في تدمير البشرية والإضرار بها كما يفعل المستكبرون على مر العصور.

وفيما يتعلق بأصحاب القرار نلاحظ تدرج نبي الله سليمان في الخطوات لتحقيق الغاية والهدف المنشود، فكان لديه مروحة خيارات اختار أفضلها وأكثرها تأثيراً، وفي كُـلّ مرحلة نلاحظ أن نبي الله سليمان لم يكن يغفل عن الله، كان شديد التذكر لله والاستشعار لنعم الله عليه “فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ”، فكان يرى كلما ما وصل إليه من القُــوَّة العسكريّة والعلمية والتمكين هي من فضل الله عليه فيعمل على توظيفها في سبيل الدعوة إلى الله.

ونلحظ من الآيات الكريمة في سورة النمل أن الغايةَ لنبي الله سليمان ولرسوله (الهدهد) كانت دعوة مملكة في ذلك الإنجاز العلمي الفريد لم يكن مجرد فرد عضلات فقط، وإظهار تقدمه العملي أمام خصمه، بل كانت الغاية والهدف أسمى من ذلك بكثير فكان حريصاً على هداية الناس، على هداية ملكة سبأ وقومها (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ”.

وفيما كان نبي الله سليمان يتدرج في خطواته التصعيدية ضد ملكة سبأ، اندفعت هي إلى التقرب نحو خصمها، بالزيارة متمسكة بالخيار الدبلوماسي، وكان نبي الله سليمان يدرس الخطوة والخطوة المقبلة في آن معاً، ففي حين أرسل رسالة التهديد والوعيد، كان يعلم بأنها ستاتي ربما “قبل أن يأتوني مسلمين”؛ ولهذا أمر معاونيه بنقل العرش وتنكيره، وهيّأ مكاناً مبهراً لاستقبالها.

ملكة سبأ لم تتأثر بالإبهار العلمي، المتمثل بنقل العرش، ولم تهتدي بسبب ما كانت عليه وبسبب ذنوبها “وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ، إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ”؛ ولأنها كانت ترى ربما أن إمكاناتها المادية تفوق ما لدى خصمها، لكن نبي الله سليمان لم ييأس من توظيف كُـلّ الأساليب في شدها نحو الله وكسبها وبالتالي كسب مملكة بأكملها، فاستخدم أسلوب الإبهار، وتقديم النموذج الحضاري المشرق لدولة الحق، بأن أدخلها إلى الصرح (مكان لم تعهده ملكة سبأ من قبل رغم أنها كانت تعتد بما هي عليه في مملكتها) لكنها وجدت نموذجاً أكثر تقدماً وازدهاراً من مملكتها وهذا الأسلوب أثر عليها بشكل كبير، ودفعها للإيمان بسليمان ودعوته “قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”.

ونستوحي مما سبق أن سليمان استفاد بشكل كبير من الدراسة الميدانية التي قدمها له الهدهد وعلى ضوئها بنى خياراته وقرارته ورتب خطواته العملية مع ملكة سبأ، من الدبلوماسية والدعوة إلى الله إلى التلويح بالخيار العسكريّ والحرب النفسية، وتوظيف العلم، إلى استخدام الإبهار الحضاري وتقديم النموذج.

ونخلص مما سبق إلى الأساليب التي اعتمدها نبي الله سليمان بشكل مختصر، أولاً:

–        الدراسة الميدانية وجمع المعلومات عن المجتمع المستهدف.

–        تحديد التهديدات والفرص ولو كانت بعيدةً جغرافياً.

–        تفعيل الجانب الدبلوماسي والدعوة إلى الله.

–        بناء قُــوَّة عسكريّة ضاربة لتكون كلمته مسموعة.

–        الاهتمام بالعلم والبحث العلمي ورعاية أهله وبما يخدم الأهداف السامية والرسالية.

–        تقديم النموذج الحضاري المشرق والجذاب الإبهار.

بهذه الأساليب مجتمعة نجح نبي الله سليمان في تحقيق أهدافه الاستراتيجية، باستقطاب مملكة سبأ وملكتها وقومها وهو بذلك حقّــق نجاحات مهمة على مختلف الصعد الاستراتيجية والسياسيّة والاقتصادية والعسكريّة وحقّــق الغاية والهدف الرسالي، ونستوحي أيضاً أن نبي الله سليمان كان مهتماً كصاحب قرار ببناء دولة مقتدرة، قائمة على العدل والمساواة، واستوعب الجميع، ولم يحتقر أحداً، كما اهتم أيضاً بالكفاءات وجماعة البحث العلمي، وبناء جيش قوي، وبناء حضارة قوية إلى جانبه مهمته الرسالية فكان كُـلّ مما سبق يكمل الآخر ويصب في خدمة الهدف والغاية الرسالية، وهذا ما يؤكّــد لنا أن الدينَ منظومةٌ متكاملةٌ، ويؤكِّدُ لنا عظمةَ القرآن كدستور ومنهج في بناء الحياة بكل جوانبها.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com