المؤمن في ساحة المواجهة يوطّن نفسَه على بذل كُــلّ شيء في سبيل القضية التي صار بقاؤها بقاءً له

المسيرة/ خاص

يُعَدُّ الدرسُ الذي نحن بصدده في هذه القراءة البسيطة من أعظم دروس الشَّهِيْدِ القَائِدِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- لما تضمنه من دقائق فلسفية في قالب بسيط وقريب للناس، حيث قدّم فيه تحليلاً لموضوعات غاية في الإشكال عند كثير من الناس، بينما كانت زاوية المعالجة التي انطلق من خلالها الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- متميزةً بأصالتها ومحاكاتها الفطرة السليمة، كما أنه أضفى على التسبيح معانيَ أخرجته من إطاره التعبُّدي إلى ميدان العمل المثمر والمؤثر.

 

مفهومُ التسبيح:

التسبيحُ تنـزيهٌ الله سبحانه وتعالى في ذاته وفي أفعاله، وفي تشريعاته، ويرى الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- أن التسبيحَ يمثِّل قاعدةً مهمة، ومقياسًا مهمًّا جدًا؛ لذلك كان من المهم أن يتكرّر في الصلاة التي تتكرّر هي في اليوم خمس مرات، وهو ما مثّل محطةً لفحص سلامة الإيْمَـان، وحصانة لسلامة الظن بالله مهما بلغت المصاعب والظروف، لا سيما والإنْسَانُ يجهلُ كَثيراً من التفاصيل في وجوه الحكمة في هذه الملكوت الواسع العظيم.

ومن أشهر التسابيح المأثورة قولنا: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أَكْبَر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)، فقد روى الإمام زيد (عليه السلام) عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) أنه قال: (إن من سبّحها مائة مرة في اليوم دفع الله عنه سبعين نوعًا من البلاء أدناها أَوْ أهونها القتل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أَكْبَر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).

ولولا أهميّة التسبيح لما تتكرّر في الصلاة أَكْثَر من غيره، بل إنه أمرٌ مشترك بين كُــلّ الخلائق، ناطقها وصامتها، فهي جَميعاً تنطلق في تسبيح الله تعالى بلسان المقال، ولسان الحال يقول الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}.

 

أثرُ التسبيح في الواقع:

قد يستبعدُ بعضُ الناس أن يكونَ للتسبيح أثرٌ مباشر في الحياة الواقعية، ويغيب عنه ما يمكن أن يؤثر عليه سلباً غياب التسبيح من واقعه بمفهومه المادي المتمثل في الذكر، أَوْ في معاني الذكر ومستلزماته التي تسقط على واقع الحياة كمقياس يوضح الخلل في كثير من النواحي، بينما في حقيقة الأمر ثمة دور أصيل للتسبيح في حياتنا، لا يتأتى له أن يحقّقَ ثماره إلا بالتسبيح الوعي، وقد تحدث الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- عن ذلك، مشدّداً على “أهميّة أن تملأ نفوسنا مشاعر التنـزيه لله سبحانه وتعالى، وأن من يغفل عن هذه القاعدة سيقع في الضلال، تفسد عقائده، يؤمن بالباطل”، فالتسبيحُ الواعي الذي يحمل صاحبُه معنى التسبيح في قلبه حقاً، فيعتقد أن الله منزه عن كُــلّ نقص أياً كان، حتى لو توهمنا خلاف ذلك، فعقلُ الإنْسَان قاصرٌ عن الإحاطة بأبعاد الحكمة الإلهية في كُــلّ نواحيها، يقول الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “هناك عقائد كثيرة منتشرة عند أغلب المسلمين تتنافى منافاة صريحة مع جلال الله، وقدسيته، وحكمته، وعظمته! فأولئك يسبحون الله بأفواههم، ويرون كم عرض القُـرْآن الكريم من آيات تؤكدُ أهميّة التسبيح، ولكنهم قد انعقدت قلوبهم على عقائد معينة استوحوها من أحاديث، فلم يعودوا إلى القُـرْآن بالشكل المطلوب، ومن عاد إلى كتاب الله سبحانه وتعالى فلن تفسد عقيدته ولن يضل”.

ومن هذه النقطة نعرفُ الأهميّةَ البالغة للتسبيح في مواجهة الضلال في كافة المستويات، وما تستلزمه هذه المواجهة من الثبات، والصمود في الموقف، والتوفيق في اتّخاذ القرار، حيث تتصاغر الأمور الكبيرة أمام من يحمل في نفسه حقيقة “الله أَكْبَر”، وتتساقط العوائق الجمة أمام من يحمل روحية التعظيم لله.

 

سوءُ الظن بالله تعالى عند الشدائد:

من أَكْبَر الأمور التي يتعرضُ لها الناسُ عند الشدائد فقدانُهم للثقة بالله، وينقلبُ حُسْنُ الظن بالله سوءاً، وقد لا يتخلف عن ذلك إلا القليل من المخلصين العارفين، حتى لو كان الأنبياء يعيشون بين أوساطهم، والمعجزات تقع على مرأى منهم، فقد قال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}. وقال اللهُ عن أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}. كُــلّ هذه الانتكاسات الإيْمَـانية لم تأتِ من فراغ، وإنما كما يقول الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “إذا كان الإنْسَان ضعيف الإيْمَـان، ضعيف الثقة بالله، ضعيف في إدراكه لتنـزيه الله سبحانه وتعالى قد يهتز عند الشدائد”، ولا تظهر هذه الفوارق بين أصحاب الإيْمَـان القوي والإيْمَـان الضعيف إلا بالشدائد، ولذلك قيل قديما، الصديق وقت الضيق، والذهب السليم لا يبين من الشوائب إلا بالنار الحامية.

ليست الشدائد هي ما يخلق سوء الظن بالله، ولكنها تخرج المكنون في الصدور، فالمؤمن الحق يزداد ثباتا وإيْمَـانا، والمنافق ينطلق في الإرجاف والتهويل والتخذيل والإحباط، يقول الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “كذلك المؤمن يزداد إيْمَـانًا من كُــلّ الأحداث في الحياة، يزداد بصيرة، كم هو الفارق بين من يسيئون الظن عندما تحصل أحداث، وبين من يزدادون إيْمَـانًا؟ وهي في نفس الأحداث، أليس الفارق كبيرًا جدًا؟”.

ومن أَكْثَر الأمور إشكالاً على الناس ما يحصل في الواقع من انكسارات عسكريّة لأهل الحق، أَوْ غلبة مادية وسيطرة لأهل الباطل، فيحدو بالمتابع المتردد في تنزيه الله بالشك في حكمة الله وعدله، ويسير به بخطى متدرجة إلى مهاوي الضلال، ما لم يتدارك نفسه.

حين ينتصر العدوّ على أهل الحق لا يعني ذلك أن الله تخلى عنهم، فقد قتل عدد كبير من أنبياء بني إسرائيل، فضلا عن تكذيبهم، وكان يحيى بن زكريا نبي الله الذي آتاه الله الحكم صبيا أحد هؤلاء الأنبياء المقتولين ظلما، ولكن قتلهم كان في سبيل الله، ومن أجل إعلاء القضية التي جاءوا من أجلها.

حصولُ مثل هذه الأحداث يهز إيْمَـان الضعفاء، وفي نفس الوقت يزيد المؤمنين قوة في إيْمَـانهم، يقول الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “حادثة كربلاء ألم تكن حادثة مؤلمة جدًا؟ كانت كلمات الإمام الحسين فيها تدل على قوة إيْمَـانه، كمال وعيه، كمال يقينه، بصيرته، كان همه من وراء كُــلّ ذلك أن يكون لله فيه رضى، ما دام وفيه رضا لك فلا يهمني ما حصل. وهذه هي نفسية المؤمن، نفسية المؤمن هو أن ينطلق في أعماله يريد من ورائها كلها رضا الله”.

وهنا طرح الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- الفرق بين النصر الشخصي ونصر القضية، فشهاد الحسين كانت نصرا لقضيته التي نادى بها، ولو كان ثمن ذلك هو بذله لنفسه، فالنصر الحقيقي هو نصر القضية، والذي قد يصاحبه انتصار شخصي أَوْ قد يغيب هذا الانتصار المادي في لحظة معينة، لكن الانتصار للقضية لا يمكن أن يغيب، والمؤمن لا ينظر إلى القضية بصفتها مطلباً شخصياً أبداً، يقول الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “النصر الذي ينشده هو نصر القضية التي يتحَـرّك من أجلها، هي تلك القضية التي تتطلب منه أن يبذل نفسه وماله، فإذا كان مطلوب منك أن تبذل نفسك ومالك فهل ذلك يعني بالنسبة لك نصرًا ماديًّا شخصيًّا؟ الذي يبذل ماله ونفسه فيقتل في سبيل الله، هل حصل نصر مادي له شخصي؟ هو انتصر للقضية، هو حصل على الغاية التي ينشدها، حتى وإن كان صريعًا فوق الرمضاء، ألم يصبح شهيدًا؟ حظي بتلك الكرامة العظيمة التي وعد الله بها الشهداء، دمه ودم أمثاله، روحه وروح أمثاله، أليست هي الوسيلة المهمة لتحقيق النصر للقضية؟”.

ومن هنا يوطّنُ المؤمنُ نفسَه في ساحة المواجهة على بذل كُــلّ شيء في سبيل القضية التي ذاب فيها، وصار بقاؤها بقاء له، ولو كان في سبيل ذلك أن يضحي بحياته، أَوْ أن يبذل ماله، أَوْ أن يتجشم المشاق والمتاعب، فيعرض نفسه للحبس والعذاب، ومهما اختلفت مستويات المشاق التي يحتمل أن يواجهها فهو سيستهين بها، أما المؤمن الضعيف الإيْمَـان فهو ينتظر أن يأتيه المدد الغيبي فينتصر، أن تتنزل الملائكة فتقاتل وهو يراقب عظمة القدرة الإلهية، أن ينتصر بمجرد أن يسبح الله ويبتهل بالدعاء، وهو أمر لم يحصل لمحمد صلوات الله عليه وعلى آله وهو خير الخلق وأحبهم إلى ربه تعالى.

وللدرس بقية..

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com