المتقون هم أناس عمليون والإيمان الناقص ينقلب كفراً

المسيرة خاص

في الوقفة الأخيرة مع الدرس الحادي عشر من دروس معرفة الله وعده ووعيده، سنطالع خلال هذه التناولة أطروحاتِ الشَّهِيْدِ القَائِدِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- عن التحول الذي يحدث للإيْمَان حين يحصل تقاعس عن الانطلاق في الميدان العملي بأحسن ما أنزل الله، ومن ذلك انطلاق كثير من الناس نحو الكذب على الله بنسبة كثير من الأشياء إلى الدين دون وجه حق، في سياق التهرب من لوازم إيْمَانية كثيرة، مثل الجهاد والإنفاق، وكثير من الأمور المتعلقة بذلك.

يرى الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- أن الإيْمَانَ الناقصَ ينقلب كفراً في نهاية المطاف، انطلاقاً من أن الدين كُـلّ لا يتبعض، ولا يمكن أن يأخذ الإنسان ببعضه ويترك ما يراه ثقيلاً عليه، أَوْ متناقضاً مع مصالحه العاجلة في الحياة الدنيا، يقول الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: ” الكفر أساسًا هو رفض، فالذي يرفض في واقعه كمن يرفض في منطقه. الذي يقول: لا. هذا ليس بنبي، هذا ليس كلام الله. أليس هذا كفر؟ في الواقع العملي ما الذي يفرق بينه وبين من قال: نعم هذا نبي وهذا كتاب الله. ولكنه لا يعمل بما جاء به النبي ولا يهتدي بهذا النبي؛ أليسوا في الواقع العملي مستوين؟”.

 

تتبُّعُ الرخص منهجيةٌ تنافي القُــرْآن

هذا الكلامُ من الأهميّة البالغة بمكان، حيث أن البلوى تعم به كثيراً من أبناء هذه الأُمَّـة، الذين يسيرون في الحياة على طريق الغفلة، وبمنهجية تتبع الرخص، فلا يقدمون على عمل فيه مشقَّة عليهم، وكأنهم يبحثون عن طريقة أفضل من طريقة النبي وأهل بيته في خوض غمار هذا الابتلاء في الحياة الدنيا، النبي قاتل حتى وهو في الستين من عمرِه صلى الله عليه وآله وسلم، الإمام عليه وأبناؤه سقطوا شهداءَ في مواجهة الباطل، لم يكونوا يبحثون عن الواجب والمندوب، بل كانوا يبحثون عن أحسن ما أنزل الله ليتجهوا مبادرين إلى إنفاذه في الحياة الدنيا، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.

انتقد الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- على اهتمامِ الناس بجانبِ قضايا فقه العبادات في مقابل تقاعسهم وتهربهم من الجوانب الأُخْــرَى التي صنفوها في باب المندوبات والمستحبات بحسب مصطلحات أصول الفقه، حيث ينطلقون إلى أن النتيجة واحدة، فما دامت فرصة الاستزادة من الحسنات ماثلة أمامنا من خلال العبادات من دون أن نتكلف المخاطر على حياتنا وسلامتنا أَوْ على سلامة رؤوس أموالنا، فلماذا التوجه نحو أمور كالجهاد والإنفاق في سبيل الله أساساً، البديل متوفر وهو أوجب من هذه المندوبات والمستحبات، المهم هو الحفاظ على الصلاة وأداء القدر اللازم الزكاة، وصيام رمضان، ونحو ذلك من الاهتمامات التي لا تورث علينا عناء المخاطرة في أدائها، لقد عد الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- كُـلّ هذه الأطروحات التي تنتشر في العقلية الإسْلَامية اليوم أطروحات نابعة من الجهل بما فيه مصلحة لنا، فهي تتنافى مع النظرة القُــرْآنية إلى ما فيه نجاة من عذاب الله، التي عبر عنها القُــرْآن الكريم على لسان أهل الحسرة والندم على فواتها بقوله عز وجل: {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ونحو ذلك، فالإحسان ليس من دائرة الواجبات في المصطلح الأصولي عند الفقهاء، ولكن القُــرْآن الكريم يقدمه لنا في سياق الأعمال المنجية من عذاب الله، والأعمال المحقّقة لمعنى الإيْمَان الحقيقي.

 

التقوى تتحقّق في الواقع العملي فقط

إذاً البناءُ على النظرة المستمدة من ثقافة علوم أصول الفقه في هذا الجانب على الأقل تذهب بنا بعيداً عن توجهات القُــرْآن الكريم، وتنتج لنا شخصيات إسْلَامية وعلمائية تبحث عن الأعذار وتتهرب من المواقف العملية التي تحتاج منا إلى الإحسان والتقوى، وهو ما انتقده الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- بحديثه عمن “كانوا يرون بأن التضحية بأنفسهم هي الخدمة للإسْلَام وهي الحفاظ على الإسْلَام”، وتساءل عن قيمة حياة أي شخص حتى لو كان عالماً في عصر يعيش المجتمعُ فيه حالة التهويد، سواء من خلال الحرب الناعمة المباشرة، التي تغسل أدمغة الأجيال، وتفصلهم عن هُويتهم الإيْمَانية، أَوْ من خلال إحلال المذاهب والأفكار التكفيرية في البيئات المحافظة والمتدينة، والتي تصُبُّ في نهاية المطاف في ذات الإطار التهويدي للمجتمع، في حين قد يكون في اتخاذ هذه الشخصيات العلمائية لمواقف عملية في مواجهة الباطل أثر كبير حتى لو كان الثمن هو استشهادها، فربما يحفظ الدين وتستقيم الحياة باستشهاد العلماء والمصلحين لا بالمحافظة على حياتهم، وسيأتي من بعدهم على آثارهم من يصلح الحياة ويعمرها، وضرب مثلا بقرابة سعبين عالما استشهدوا في الثورة الإسْلَامية في إيران، ولم يكن يدري وقتها أنه سيكون واحدا من هؤلاء العظماء الذي سيقدمون حياتهم من أجل الله، وستكون شهادتهم سببا في الحفاظ على الدين، كما كانت شهادة علي والحسن والحسين.

لقد شدد الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- على قضية الاهتمام بالأعمال التي فيها لله رضا بغض النظر عن كونها واجبة أَوْ مندوبة، أما “الذي ينطلق يفرق بين الأحكام فيقول: [هذا ما قد وجب، وهذا ما قد يلزم] قد يكون ممن ليس لديه اهتمام بقضايا كبيرة فهو ممن لا يعرف قيمة ما يخدم هذه القضايا” بحسب تحليل الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-، وبهذا يكون قد أغلق الباب في وجه من يقول بأن آية الزكاة قد نسخت كُـلّ آيات الإنفاق في سبيل الله، وكل من يحاول أن يتنصل من الجهاد في سبيل الله، أَوْ يرى أن الهتاف بشعار الصرخة في وجه المستكبرين غير واجب، ونحو ذلك كثير جدا، وفي خلاصة هذا الدرس يقول الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: “المتقون هم أناس عمليون، هم ممن لا يفكر في أن هذا مندوب أَوْ هذا واجب فهم ينطلقون على هذا النحو، والانطلاقة لتحقيق هذه الأشياء الأربعة: الإنفاق في حالة السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس هي من الأسس المهمة في ميدان العمل لإعلاء كلمة الله سواء تسميها مندوب أَوْ تسميها واجب؛ أنه لا بد – وأنت في حالة العمل لأن تكون من المتقين – لا بد وأنت معدود من المتقين أن تكون متحليًّا بها؛ لأنه هكذا وصف المتقين بأنها صفة من صفاتهم اللازمة وليس فقط في النادر”.

وبهذا نكون قد طفنا مع الشَّهِيْدُ القَائِدُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في آفاق كنا عنها غافلين، مع أن القُــرْآن الكريم يهتف بها، ولكن الركام الذي تحملنا كمسلمين منذ آلاف السنين بات يحول بيننا وبين أن ننهل من نبع القُــرْآن الصافي، ولكن العودة اليوم أمر في غاية الإمكانية، وسنحقّق به لهذا الجيل من أمتنا ما تمناه وحلم به كُـلّ من سبقنا من أجيال الأُمَّـة الإسْلَامية إن شاء الله.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com