قراءة في درس معرفة الله_ نعم الله – الدرس الرابع (2) البُعدُ التربوي للتفكر في نِعَــــــمِ الله

في سياق الحديث عن نِعَمِ الله، طرح الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- العديدَ من الأبعاد التي تُلفِتُ أنظارَنا إلى أهميّة التفكير في آلاء الله ونعمه، وهنا وقف بنا أمام البعد التربوي، حيث أنه من خلال التركيز على موضوع نعم الله يمكن أن تتحقّق مكاسبَ في الميدان التربوي كان من العسير جداً تحقيقها إنْ لم يكن من المستحيل، على المستوى السلوكي والأخلاقي والوجداني أيضاً، ومن ذلك ما يقول الله تعالى فيه: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ويقول عز قائلا: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)، والتأليف في النصوص القرآنية يصف القلوب وليس مجرد إطفاء الثأرات والنزاعات في الظاهر بسبب معاهدات واتفاقات ومصالح متبادلة، بل الحديث هنا يرتبط بالمحبة المتبادلة الصادقة التي لا ترتبط برقابة معينة، ولا ترتبط بمصلحة ما، وهذا هو ما لا يتحقّق عادة إلا في سياق الارتباط بالله، حيث تتصاغر أسباب الخلافات المعتادة، وتتضاءل كُـلّ دواعي الخلاف بين المؤمنين، حين يجمعهم هم كبير، ومسؤولية عظيمة، يقول الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ-: [لن يتحقّق لنا هذا ما لم نحمل همًّا كبيرًا هو: أن نجند أنفسنا لله، وأن نستشعر المسؤولية الكبيرة أمام الله بأن نكون من المجاهدين في سبيله، وممن يعمل على إعلاء كلمته، متى ما حصل هذا وأصبح همًا لدينا، وأصبح كُـلّ شخص يستشعر المسؤولية في هذا فهو – وبتوفيق الله وألطافه – سينطلق بحرص على أن تكون علاقته مع أخيه، مع صاحبه، مع جاره علاقة حسنة، يعزز كُـلّ العوامل التي تخلق المحبة في أنفسهم لبعضهم بعض، يحرص على أن لا تنطلق من فمه كلمة تجرح مشاعر أخيه، ومتى ما بدرت منه زلة أسرع إلى الاعتذار، ومتى ما أحد أخطأ عليه كظم غيظه، أَوْ عفى عنه، ومتى ما اعتذر أخوه قبل عذره].

ومن خلال التجربة العملية يذكر الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- أن الخطب في المناسبات الدينية، والمواعظ في التجمعات من الشخصيات المؤثرة، لا يمكن أن تنتج ولا أن تحقّق هذه النتيجة في واقع المجتمع، بحيث يكون المجتمع مجتمعا مترابطا متحابا متماسكا، يسوده التناصح والتكافل يكون كالجسد الواحد، يشعر بعضه بمعاناة بعضه، وتتحقّق السعادة في واقع الحياة كما تصور -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- حين قال: [هذا أثره فيما يتعلق بالحياة جميل، فيما يتعلق بالنفوس، يجعل الحياة سعيدة بين الناس، وهم في قراهم، في مساجدهم، في تجمعاتهم، في أسواقهم، في طرقاتهم، وضعية تغيب فيها المشاكل، وضعية تختفي فيها الكثير من الإشكاليات التي سببها ومنشؤها التباين فيما بين النفوس، والوحشة فيما بين القلوب].

 

مجالُ النعم في البُعد الأمني والجهادي

وإضَافَة إلى ما سبق من الأبعاد والمجالات يذكر الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ-، فالارتباط الوثيق بالله وتذكر نعمه ينعكسُ في الجانب الأمني والعسكري بأكثرَ من شكل، وقد استشهد الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- على ذلك بأكثرَ من شاهد قرآني، كقوله تعالى: (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، وقد أفاض الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- في سرد ما حصل من تأييد الله في غزوة الخندق التي وصفها الله تعالى بقوله: (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)، وخروج الإمام علي عليه السلام لمناجزة فارس العرب عمرو بن عبد ود كانت شاهداً على الحالة التي حصلت للمؤمنين من الفشل والخوف، ولكن حين كان الإمام علي مرتبطا بالله وبذكر نعمه بصورة أرقى من غيره فكان صاحب الضربة المسددة، التي لم يلبث بعدها المشركون إلا ليلة وأرسل الله تعالى عليه ريحا زلزلتهم، وجنودا من عنده، فانسحبوا خائبين، (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) لم يكن النصر في معركة الخندق بسبب ذلك الخندق، ولكن بفضل الله ورحمته، فالانتصار على العدو وتحقّق الأمن في واقع الحياة اليوم هنا أَوْ هناك إنما هو جانب من جوانب نعم الله التي ينبغي أن نحافظ عليها، ونشكر الله عليها حتى لا نكون من الكافرين بها.

 

استمرارُ تذكُّرِ النعم ضمان من الكفر والطغيان

في سياق الحديث عن النعم، يلفت الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- الأثرَ الطبيعيَّ لوجود النعم في واقعنا إنْ كنا نستشعر عظمتها، أما إذا غابت عنا فسنكون في خانة أُخْــرَى كما سيأتي في الحديث عن تبديل النعم، ولكن هنا يوضح الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- إشكالية وقع فيها الكثير من أبناء هذه الأُمَّــة، فالأثر الطبيعي لوجود النعم هو خلق حالة من الشكر والارتباط بالله، وليس الاغترار بها، والانشغال بها عن الله، ومن أجل ذلك لا بد من استمرارية تذكر النعم، حتى لا ننزلق فيما انزلق فيه آخرون، وهذه سنة إلهية في حياتنا، وبملاحظتها يمكن أن نَكون بعيدين عن الكثير من المتاعب، وتربية الأجيال على أساس تذكر النعم يأتي في هذا السياق، والجيل الذي لا يعرف مثلا المعاناة التي حصلت للأجيال السابقة له حتى حصلت على حريتها واستقلالها لن يكون حريصاً على الحفاظ على هذا المنجز والمكتسب، وقد استفاد الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- من قصة نبي الله سليمان التي حكاها القرآن الكريم: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)، وهذه الحالة من الشكر والارتباط بنعم الله هي الحالة الصحية، وقد غاب هذا المفهوم عن بعض المتحدثين باسم الدين حين توجهوا إلى التنفير عن الدنيا، وتقديمها وكأنها شر محض، ومن أسوأ ما خلق الله، في حين أنها نعمة من النعم، يقول الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ-: [لا يصح أن ننطلق نحذر الناس من الدنيا؛ لأَنَّها خداعة مكارة! هي نعمة عظيمة، إذًا تعال حذر من الألسن وقل اقطعوا الألسن أيها الناس، فإن الألسن تكذب، وتشهد الزور، وتحلف الإيْمَـان الفاجرة، وتؤيد الباطل، وتنطق بالباطل، وتعيب هذا، وتسخر من أولياء الله، وهكذا… الألسن، الألسن اقطعوها، هل هذا منطق؟ لا]، ثم يقول: [إذًا فالمعالجة أن نأتي نحن لنعالج الإشكالية في النفوس، وهو توجه القرآن الكريم، هو توجه إلى النفوس، لنعلم الناس كيف يزكون أنفسهم. لا أن نأت لنصب جامَّ غضبنا على الدنيا نفسها التي هي نعمة عظيمة من نعم الله].

 

خطورةُ تبديل النعم

لقد خاطب اللهُ الأُمَـم السابقة وخاطب هذه الأُمَّــة بما خاطب به أنبياءه ورسله في وجوب تذكر النعم، يقول عز وجل: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)، ويقول لهذه الأُمَّــة: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، ويقول عز وجل: في شأن الأنبياء (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وفي شأن موسى أيضاً يقول عز وجل: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)، وأمام هذا التوجيه الإلهي المشترك يأتي التحذير من خطورة انقلاب النعمة حين لا يقدر المرء نعم الله حق التقدير فتقتضي سنة الله أن تنقلب تلك النعمة على صاحبها، يقول الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ-: [يأتي في المقابل خطورة الإساءة التي تحول النعم فتبدل النعم، تلك الإساءة العظيمة إلى الله (سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة:211). ما هي هذه النعمة هنا؟ أليست هي نعمة هداية؟ من أبرز ما تعنيه هذه الآية – فيما نفهم – هو التركيز على نعمة الهداية إلى الإيْمَـان، هداية الآيات البينات، فيما تتركه من أثر في النفوس فسماها نعمًا. (كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) هي نعم عظيمة عليهم (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)]. وهذا هو سبب لعن بني إسرائيل واستبدالهم بغيرهم، فتنكر بني إسرائيل لنعمة تفضيلهم على غيرهم كانت سببا في تغيير هذه النعمة، يقول الله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).

وقد ربط الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- هذه الخطورة بأنموذج في الواقع حين وقف بنا أمام قول الله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، فحذر رضوان الله من الهجرة إلى المدن، تحت ضغط الحاجة إلى الخدمات، وهو الأمر الذي يدخل الناس في حالة من الغفلة والحياة غير المنظمة، بما يصل بنا إلى حالة نستحق معها أن تنقلب هذه النعم إلى نقم، طبقا لسنة الله التي أوردتها الآية السابقة، يقول الشَّهِيْدُ القَائِـدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ-: [وربما – والله أعلم – أن اليهود يعرفون هذه القضية؛ فلهذا يعملون على أن تظل الأرياف في مختلف الشعوب الإسلامية أريافًا تفتقر إلى الكثير من خدمات الحياة، قد تكون الحياة فيها صعبة؛ ليهاجر الناس نحو المدن، فيتجمعون هناك بأعداد كبيرة لا ضابط لها، ليس هناك من يوجهها ويرشدها، ليس هناك من يرعاها، بل العكس ترى هناك مظاهر الفساد، ترى هناك وسائل الإضلال فتؤدي بتلك المجاميع التي كانت تشكر الله هنا وهي في قراها، عندما كانت تحصل على رزقها مما بين أيديهم، يكون لديهم الحيوانات، أبقار وأغنام وغيرها من الحيوانات ولديهم مزارع، ويشتغلون فيها، ويحيون حياة تجعلهم يحافظون على دينهم، وعلى قيمهم، لكن يرون مظاهر الحياة الأُخْــرَى تتطور، وتهملهم الدولة فلا كهرباء، ولا مياه، ولا مراكز صحية، ولا مدارس، ولا تلفون، ولا خطوط، ولا أشياء كثيرة يفقدونها فينطلقون نحو المدن بأعداد كبيرة].

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com