مأزق الغرب الليبرالي الواقع بين مطرقة المصالح التجاريّة وسندان (المبادئ والقيم والأخلاق)، اليمن مثالاً!! بقلم/ أ. د/ عبدالعزيز صالح بن حبتور

استطاع النظامُ الليبراليُّ الرأسماليُّ عبرَ (آلياتِ اقتصاد السوق)، وخلال تجربته التأريخية لقرون خلت أن يحقّقَ مكاسبَ وإنجازات اقتصادية واجتماعية وحقوقية ناجحة نسبياً.

لقد حقّق عملياً طفراتٍ مذهلةً في الثورات الصناعية والتكنولوجية والرقمية والفضائية، وحقّق مكتسباتٍ في النمو المتسارع لتراكم رأس المال لأصحاب المال وللطبقة العاملة معاً وعلى حَدٍّ متفاوتٍ من خلال التراكم المُذهل في المكتسبات المادية والتشريعية المنظّمة للعلاقة بين أرباب العمل والطبقة العاملة ونقاباتها المتعددة وممثلي الحكومات المنتخبة.

هذه المنجزاتُ لم تتحقّق إلَّا بفعل التطور المتزامن بين الشركاء الثلاثة بشكل نسبي، ومن خلال التنافس والصراع الاقتصادي الحادّ بين النظامين الرئيسين آنذاك، وهما اقتصاد السوق الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي الموجه، حيث نجح الأولُ في كسب معركة الحرب الباردة بامتياز، وهُزم المشروع الثاني في جميع الحقول، إلى درجة أن عدداً من المفكرين الغربيين المتعصبين أصدروا شهادةَ الوفاة لأي نظام سياسيّ واقتصادي يخالف مشروع النظام الرأسمالي (اقتصاد السوق) وكتبوا الأبحاث والمقالات وألفوا الكتب حول حكاية نهاية التأريخ والإنْسَان؛ أبرزهم فرانسيس فوكوياما وصامويل هنتجتون وآخرون، وهم الذين استمدّوا جُلَّ أفكارهم السياسيّة والاقتصادية من المفكرين العنصريين من ألمانيا الكبرى ما قبل النازية الهتلرية.

نظامُ اقتصاد السوق حقّق إنجازاتٍ كُبرى في مجال حقوق الإنْسَان داخل مجتمعاته، وحرية الفرد والجماعة في الاختيارات السياسيّة والاقتصادية والفكرية، وقد وفّر لمواطنيه الضمانة الواسعة في الحرية والتعبير وفي اختيار ممثليهم في هيئات السلطات التشريعية والتنفيذية بواسطة قانون نافذ بات.

هذا القولُ حول ذلك النظام ليس ترويجاً لملامحه وسحنته الإنْسَانية ولوجهه الخارجي، بل في حقيقة الأمر أن هذا النظام استطاع أن يخلق جميع آليات بقائه وميكانيزمات ديمومته وطاقاته المتجددة الدافعة بماكينة دوران الدولة الرأسمالية العنيفة؛ بهدفِ تحقيق تطورها ونمائها ومواصلة نجاحاتها، وأنها وفقاً لمعطيات التجربة العملية في ميدان صراعها مع واقعها التنافسي الحاد على الصعيدين الداخلي والخارجي أثبتت أنها فاعلة وناجحة وتحقّق قفزات نمو هائلة على كُـلّ الصعد والمجالات، ويأتي في مقدمة تلك المكتسبات الجانب الإنْسَاني وحقوق الإنْسَان.

المجتمعاتُ السياسيّةُ الليبراليةُ قد أمّنت للإنْسَان الفرد والجماعة بداخلها العديد من المزايا، تم الاتفاق بشأنها في دساتيرهم وقوانينهم. ومن القضايا البديهية هناك سيادة القانون، وحرية الفرد والجماعة في التعبير الحر عن معتقداتهم الدينية والمذهبية والحقوقية وتوجهاتهم وأفكارهم ورغباتهم وحقوقهم بحريةٍ واسعة ووفق معايير قانونية صارمة، وهذا ما تم الاصطلاح عليه بمفاهيم القيم والأخلاق والمُثل الغربية.

إن المتتبعَ لحركة سير التأريخ الإنْسَاني في كُـلّ مراحل الحضارات الإنْسَانية بدءاً من الفلاسفة والمفكرين والقادة في حضارة ما بين النهرين والحضارات اليمنية القديمة والإغريقية والفرعونية والإسْلَامية وحتى الرأسمالية والاشتراكية، يلاحظ أن حقوق الإنْسَان قد تصدرت كُـلّ حضارة من الحضارات البشرية على حدة، باعتبار أن الجميع دون استثناء يبحثون ويفتشون في الأرشيف عن حق الإنْسَان الحر غير المقيد بكوابح تفرضها الطبيعة البيروقراطية للنظام السياسيّ المحدّد الذي يدير مجتمعاً ما وفقاً لخصوصياته المحلية أكانت دينية أَوْ مذهبية أَوْ جهوية.

إن أحد أبرز مميزات نجاح النظام الرأسمالي الليبرالي هو الفصل الواضح بين السلطات وفقاً للقانون، إذ لا يجوز مطلقاً بأن تتداخل السلطات في ما بينها ولا تتنازع الاختصاصات والصلاحيات، وهذه القضية تعد محورية جداً، لكن الغرب لم يصل إلى مثل هذا الاستحقاق الناجز إلَّا بعد صراع مرير وحرب ضروس استمرت ثلاثين عاماً متواصلة، كانت حرباً دموية طاحنة بين مجموعة من الدول الأوروبية الناهضة المتطلعة وبين الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان مسرحها الحربي الرئيس ألمانيا، أَي أن الصراع كان إيذاناً بانتهاء المرحلة الإقطاعية ودخول الإنْسَانية مرحلة البرجوازية ومن ثَم الرأسمالية، هذه الحرب سُمِّيت بحرب الأمراء النبلاء والفرسان لتقويض نفوذ وهيمنة الكنيسة الكاثوليكية المقدّسة، والتي استمرت طوال الفترة 1618م — 1648م، هذه الحرب الثلاثينية قضت تقريباً على النفوذ الطاغي للكنيسة الكاثوليكية وأدخلت نظام اللامركزية في إدارة الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأنهت إلى الأبد مرحلة النظام الإقطاعي المُعيق لبروز نظام ينسجم مع التطور الصناعي والاجتماعي الرأسمالي، الذي أُسمي بالنظام الاستهلاكي، أَي مجتمع الرفاه المادي أَوْ (النزعة الاستهلاكية السلعية). ألم تصل الدولة الرأسمالية اليوم إلى مرحلة الذروة في:

حقوق العمال، الحرية المطلقة للبحث العلمي، شبكات الضمان الاجتماعي، التأمين الصحي شبه الكلي، سيادة القانون، الحريّة المقدسة للحرف والرأي والكلمة، احترام صوت الناخب… إلخ.

بكلمات أبسط فإن تجربة مسار المجتمع الإنْسَاني العالمي ما هي إلا عبارة عن تسلسل لمجموع الخبرات والتجارب والدروس التي مر بها المجتمع البشري. وهذا النظام قد قطع شوطاً كبيراً على مضمار سباق التطور ولا يزال يحمل معه ديمومة الاستمرار والتطور، إلى أن يأتي نظام سياسيّ إنْسَاني آخر يقدم للبشرية امتيازات أُخْــرَى يكون جديراً بإحلال الجديد بديلاً عن القديم.

فالنظام السياسيّ الاقتصادي قائم على تلك العناصر التي بها وبواسطتها استطاع البقاء قوياً منافساً، وهي:

الملكية الفردية، منظومة الحرية الاقتصادية، المنافسة الحادة ومنع الاحتكار، دافعية البحث عن الربح.

هذا ما بشر به الفيلسوف الاقتصادي الاسكتلندي/ آدم سميث، في أبرز كتاباته (ثروة الأمم) ويعد مؤسّس النظام الاقتصادي الليبرالي الحديث.

ومن قراءة ومراجعة محتوى النظام الرأسمالي الليبرالي فإنه كان ولا يزال قائماً على المنفعة الخَاصَّـة المحكومة بالنظام والقانون، وإن التجارة الحرة والصفقات التجاريّة بين الشركات والتروستات والكارتيلات العالمية وحتى بين الدول تنسجم مع روح الفكر الذي أسس لهذا النظام، ومع فكر ونظريات آدم سميث وقبله ديفيد هيوم وجون لوك والفيلسوف الألماني إيْمَانويل كانت، وهيجل، وقبلهم جميعاً، أي من قبل تأريخ الميلاد، الفيلسوف الأثيني الكلاسيكي أرسطو، كُـلّ هؤلاء والمئات من الفلاسفة غيرهم قد أباحوا فكرة الصفقات والمضاربات التجارية المحسوبة.

لكن المجتمعات البشرية على مر العصور لا يمكن لها أن تبقى ويستقيم عودها قوياً ولا بقاؤها على فكرة القُـوَّة العسكريّة والهيمنة الاقتصادية فحسب، بل يتعداها إلى استلهام المثل والقيم الأخلاقية القادمة عبر التراكم المعرفي الفلسفي وعبر التعاليم الدينية السماوية والأرضية، وهنا يبرز التناقض الحاد بين ما هو مادي وبين ما هو أخلاقي قيمي، والعديد من النظّم السياسيّة الدكتاتورية في التأريخ وحتى الحاضر وربما في المستقبل تحاول تزيين صورتها عبر مجموعة من الوسائل والشعارات ذات البهرجة الإعلامية الصاخبة، البعض منها يمر والآخر يتوقف، لأن الواقع يفضح أَي ادعاء إذا لم يكن فعلاً صادقاً ويتسق مع حقائق الواقع. لنأخذ هنا تجربتين، مستمدة إحداها من الماضي والثانية من الحاضر المعاش.

 

الحالة الأولى:

هي تجربة النظام الغربي الليبرالي (الحر) وضلوعه في مأساة الشعب الفلسطيني الذي تم تهجيره وطرده من أرضه ووطنه بمساعدة الدول الاستعمارية آنذاك، وتم إحلال اليهود الصهاينة بدلاً عنه، في أكبر حالة نفاق وتزوير لحقائق التأريخ، ليقول الغرب (الحر) أننا جئنا بشعب ليس له وطن، إلى وطن ليس به شعب. وهكذا سقطت أخلاقيات الغرب أمام أقدام الحقائق الموضوعية المطلقة والتي أظهرت وتُظهر بأن الفلسطيني إنْسَان موجود وحي ومقاوم صلب لم يترك للحظة واحدة مفتاح باب منزله على أمل العودة إلى بيته القديم ذات يوم، ولهذا يدفع بقوافل الشهداء والجرحى والمعاقين حركياً بالآلاف من أجل أن يحقّق هدف العودة، أليس هذا هو الهدف النبيل لأية أمة حرة في الأرض؟.

 

الحالة الثانية:

هي قضية الشعب اليمني الذي شُنت عليه حربٌ عدوانية مستمرّة من قبل المملكة العربية السعوديّة وحليفتها مشيخة الإمارات العربية المتحدة، حرب وحشية وحصار ظالم على مختلف الصعد، وتعتيم إعلامي قاتل، بلغت عامها الرابع ولَم تتوقف بعد، نتج عنها وباعتراف العالم والأمم المتحدة والتي عبر عنها السيد/ مارك لوكوك مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنْسَانية في تقريره الأخير لمجلس الأمن الدولي في شهر أكتوبر 2018م، الذي يقول فيه بأن الشعب اليمني يواجه أكبر مأساة إنْسَانية على مستوى العالم بعد الحرب العالمية الثانية، يموت الشعب اليمني جراء غارات طيران العدوان وبسبب صواريخ البوارج الحربية المُحاصرة للسواحل اليمنية ومن عددٍ من عملاء العدوان اليمنيين، ومن مرتزِقته الأجانب الذين جلبهم من شتى بقاع الأرض، ويموت أيضاً من جراء حصاره ومنع الأدوية والغذاء عنه، كُـلّ هذا يحدث أمام بصر وسمع العالم وتحديداً الحكومات الغربية (الحرة)، ويزيد الطين بلة أن مُعظم الحكومات الغربية تقوم بتصدير الأسلحة والذخائر في صفقات تجارية عسكريّة معلنة وسرية بين حكومات كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا (العظمى) وفرنسا وألمانيا الاتحادية وإسبانيا وهولندا وكندا وأستراليا من جهة وبين المملكة السعوديّة والإمارات العربية المتحدة من جهة أُخْــرَى، وهذا هو العار والسقوط الأخلاقي بعينه للحكومات الغربية الليبرالية (الحرة) التي تدعي زوراً بأنها مع حقوق الإنْسَان في العالم، وتنهار أمام تلك القيم والأخلاق والمبادئ التي تأسست عليها تلك النُظم.

وحينما وقعت واقعة جريمة قتل الإعلامي السعوديّ جمال خاشُقجي في القنصلية السعوديّة في إسطنبول، ثارت ثائرة الإعلام والرأي العام والحكومات الغربية في العالم، واعتبروها جريمة مُخيفة لهم ومهدّدةً لقيم وأخلاقيات النظام الغربي (الحر)! ونحن نتضامن معهم في إدانة الجريمة بأقوى العبارات، لكننا في ذات الوقت نتساءل أين القيم والأخلاق والمبادئ الإنْسَانية حينما يتعلق الأمر بالضحايا من العديد من الشعوب وفِي مقدمتها الضحايا اليمنيون من المواطنين المدنيين العُزَّل؟!!!.

هذا هو التناقض الحاد الذي تقع في دول الغرب (الحرة) بين قيم وَأخلاق ومُثل المجتمع الليبيرالي وبين المصالح الاقتصادية والمالية والصفقات التي تصل إلى مئات المليارات، هنا يبرز الوجه الحقيقي للدول الرأسمالية الملفوفة يداها بغطاء مخملي ناعم، وتكشر عن أنيابها لمجرد وجود صفقة مالية ضخمة ليعود مردودها لمجتمعاتهم فحسب، والله أعلم منا جميعاً.

وفوق كُلّ ذِي عِلْمٍ عَليم..

* رئيس مجلس الوزراء

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com