الصهيونية وتطويع الشعوب العربية

محمد ناجي أحمد

(اخرجوا المستعمرَ من قلوبكم يخرُجْ من أرضكم) حسن البنّاء.

بعدَ أن تحققَ للكيان الصهيوني التطبيعُ مع جُلِّ الأنظمة العربية سياسياً واستخباراتياً واقتصادياً وثقافياً ورياضياً أصبحَ اليوم مع التحدي الحقيقي المتمثل في محاولاته تطويع الشعوب العربية وهزيمتها نفسياً من خلال الصدمة والرعب، ومن خلال تكريس العقل الخرافي بمزيد من الإفقار والتجهيل والحروب الطائفية والمناطقية.

“استخدم فيبر اصطلاحَ إبطال السحر؛ ليصف الطريقة التي اكتسح فيها التفكير العلمي في المجتمعات الحديثة تيارات التعاطف الوجداني التي كانت سائدة في الماضي” ص72 (أنتوني غِدِنْز) في كتابه الموسوعي (علم الاجتماع) الذي ترجمه الدكتور فايز الصَّيَّاغ، والصادر عن المنظمة العربية للترجمة 2005م – لكننا في المجتمعات العربية تم تفعيل السحر في مناحي الحياة المختلفة، بتوجه مقصود لإقالة العقل العربي من التفكير الذي ينهض بأمته.

الصراع في الوطن العربي ليس صراعاً اجتماعياً فحسب، بل هو على المستوى القومي صراعٌ وجوديٌّ في مواجهة الغرب الامبريالي وذراعه المتقدمة إسرائيل، وكياناتهم الوظيفية في المنطقة.

من هنا يصبح اختلافُ المصالح ليس وِقْـفاً للطبقات، كما نحا ماركس بل إنه مرتبط بصورة أوسع بالاختلاف على السلطة والقوة. ص75. بحسب ما ينقله (غدنْز) في كتابه سابق الذكر عن (دارندوف).

الثقافة البصرية ثقافة بلا ذاكرة. كم هي الصورُ التي بثت حول مقتل خاشقجي؟ وما الذي بقي منها في الذاكرة؟

لا شيء. كُـلّ صورة تم نفيُها وإزاحتُها بسيل من الصور المتسارعة، أو من خلال نمطية التكرار التي لا تفضي إلى معلوم!

بل إن حكايةَ مقتل الصحفي السعودي(خاشقجي) هي بذاتها كانت إزاحةً للوعي؛ كي يتم تمرير واقع لا يتوقف سقوطه في مخالب الغرب الامبريالي وصنيعته إسرائيل!، أي أننا يمكن أن نصفَ حكاية مقتل (خاشقجي) بالغبار الضوئي، الذي يحجُبُ الوعي العربي عن مخاطره الجوهرية المتمثلة بتمدد الكيان الصهيوني في كُـلّ مناحي الحياة العربية، جغرافياً واقتصادياً وتأريخياً وثقافياً ورياضياً!

كانت حكاية مقتل خاشقجي تمكيناً أكثر لإسرائيل في المنطقة، والانتقال من التطبيع الخفي إلى التطبيع الجَهْري، الذي يستقصد خلق الصدمة والرعب في الشعوب العربية لإسقاط ممانعتها نفسياً ومادياً!

تسارعت الصور التي تنقل زيارة رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو إلى عمان، ووزراء الثقافة إلى الامارات، والفرق الرياضية الصهيونية إلى قطر… إلخ، وتم إلهاء الناس بأن حبل المشنقة يلتفُّ حول عنق محمد بن سلمان، وحقيقة الأمر هو أن حكاية (خاشقجي) تعملُ على تمتين دور محمد بن سلمان في المنطقة، فالجريمةُ التي تمت في القنصلية السعودية بتركيا، والمتمثلة باغتيال (خاشقجي) كان الجهرُ بها وترتيبُها بتلك الصورة شديدة الكشف مقصوداً بذاته، فشدة الوضوح يراد منه تعتيمُ الرؤية عن المشروع الصهيوني الذي يراد تمكينه في المنطقة العربية بشكل خاص والشرق المتوسط بشكل عام.

لم تعد إسرائيل تتقدم بخطوات بطيئة بخصوص استهداف الممانعة الشعبية لها ككيان سرطاني في المنطقة، وإنما أصبحت أقرب إلى الوثب العالي؛ وذلك لأن مرحلة التطبيع سياسياً وَاقتصادياً واستخبارياً طيلةَ العقود الماضية قد تمت بوتيرة متواصلة. وإزاء هذا الاكتساح الإسرائيلي -الذي يستهدف عبر الصدمة والرعب زعزعة الرفض الشعبي العربي لها ككيان استيطاني استعماري– كان التغلغل الصهيوني الناعم من خلال أقلام كُتّاب وأدباء يعملون على تسطيح الصراع العربي/ الصهيوني، وتقديمه على أنه خلاف هامشي على قطعة أرض هنا أو هناك، تتم تسويته لتتبوأ بعدها إسرائيل الجغرافيا العربية على بساط أحمدي!

كل أشكال الهجوم الناعم أو الصادم الغايةُ منها هو النيلُ من الرفض الشعبي لهذا الكيان؛ ولهذا فإنَّ الردَّ الفاعلَ يكونُ بعدم الانسحاق أمام هذه الصور الصادمة والهادفة إلى إسقاط روح الممانعة والمقاومة، والعمل بجهد مضاعف في الأوساط الجماهيرية من أجل تمتين روح الرفض والصمود في معركة الوجود العربي.

ما أحوجنا إلى استعادة موقف ورؤية الدكتور محمد عَبدالملك المتوكل، في مقاله الذي نشره بتأريخ 20-4-2000م بصحيفة الأمة، بعنوان (الذكرى التي تنفع المطبّعين) حينها كانت الوفودُ الإسرائيلية تجوبُ المنطقةَ العربيةَ، ومنها اليمن، التي صرّح وقتَها الكيانُ الصهيوني بأنه سيجعلُ من اليمن يابان الشرق الأوسط مقابل التطبيع معه! فعلّق الدكتور محمد عَبدالملك في مقاله سابق الذكر بأن الوعدَ يشي بالمقاصد الإسرائيلية، وهو امتلاكُ اليمن والجزيرة العربية، بعد أن تم امتلاكُ الخليج العربي!

وقد رَوَّجَ البعضُ وقتَها، ومنهم الدكتور فارس السقاف، الذي نظّم ندوةً عن يهود اليمن، من أجل تمرير التطبيع مع من سمّاهم يهود اليمن، وأنهم مستضعفون هاجروا في الأرض ومن حقهم أن يكتسبوا جنسيةً إسرائيليةً وأن يحتفظوا بجنسيتهم اليمنية، وكان رد الدكتور محمد عَبدالملك في مقاله هذا أو في تعقيبه على ما طرحه فارس السقاف، هو أن يهود اليمن لم يغتربوا بحثاً عن الرزق وإنما ذهبوا ليكونوا جنوداً يوجهون فوهاتِ بنادقهم لقتل الفلسطينيين والعرب، هاجروا ليساهموا باغتصاب أرض وتشريد وقتل وحرق وتدمير القرى والمدن في فلسطين!

إنَّ طرحَ الدكتور فارس السقاف يريد أن يصادر ذاكرتنا، فهؤلاء اليهود هاجروا لاغتصاب أرض عربية ولم يهاجروا لطلب الرزق. ووجّهوا فوهات بنادقهم إلى أجساد العرب وقراهم وأطفالهم ونسائهم، وشيوخهم، ولم يضربوا في الأرض سعياً للرزق والعمل!

وما أراد تمريرَه السقافُ؛ بحجة الهجرة والاستضعاف، يمارسه عديدُ كُتاب وأدباء وصحفيين في أيامنا هذه!

في مقاله سابق الذكر يقول الدكتور محمد عَبدالملك: “إن اليهود اليمنيين قد أصبحوا أداةً للصهيونية العنصرية الحاقدة، التي تستهدف وجود الأمة كلها”، وأن هذه الأفواجَ السياحيةَ السياسية إلى اليمن هي سياحة صهيونية تطبيعية “أما اليهودي اليمني الذي جنّدته الصهيونية فقد أصبحت الأرضُ المغتصبة وطنَه الأُم، انتماءً، وديناً، وعداءً للعرب والمسلمين”.

وفي موقفه النقدي من تصريحات الصهاينة بأن اليمن لو طبّعت مع دولتهم فسوف يحوّلونها إلى يابان المنطقة، قال “إن ضربَ المَثَلِ باليابان وأمريكا دلالاته خطيرة –أيضاً- وهي أن على اليمن أن تخضع خضوعاً كاملاً للدولة الصهيونية، كما خضعت اليابان لأمريكا حتى تصبح يابانًا أُخْـرَى في منطقة الشرق الأوسط”.

كان توجه إسرائيل في تسعينيات القرن العشرين وما زال هو السيطرة على البوابة الجنوبية للبحر الأحمر، وخنق سوريا التي رفضت التسوية المذلة معها.

هدفُ التطبيع وتطويع اليمن هو إدخال الصهيونية إلى قلب الجزيرة العربية، كما أدخلها من سبقه إلى الخليج العربي، والغاية من ذلك “انتزاع الجزيرة والخليج من قلب الأمة، لتدور لا حول أمريكا وحسب وإنما تدور حول الصهيونية العالمية مباشرة، بما يمثله ذلك من خطورة على سيادة الأمة ووجودها”.

تستخدم الصهيونية -بحسب ما ذهب إليه الدكتور محمد عَبدالملك في مقاله سابق الذكر- التناقضات داخل ساحة الجزيرة العربية والخليج، وتعرف هشاشة الأنظمة وصراعاتها، وتعرف ضعف المجتمع الذي تتوزعه الطوائف والعشائر وعقلية المراعي، كما تعرف دور المال في مجتمع فقير يكاد الفقر فيه أن يكون كفراً.

لا سبيلَ أمامنا تجاهَ هذا التوغُّــل الصهيوني في الخليج والجزيرة العربية والوطن العربي سوى أن نُراهِنَ على الشعوب، -وبحسب تعبير الدكتور محمد عَبدالملك في مقاله آنف الذكر- “وإذا كانت الأنظمة قد جنت وهرولت وتخلت عن كُـلّ قيم الأمة ومصالحها فإن الشعوبَ أحقُّ بأن تتخذ المبادرة، وتعلن جهاد النفوس، وتحول اتفاقات الأنظمة إلى حبرٍ على ورق، وتُفشِلُ المُخَطّط الصهيوني المحمي بمِظَلَّة الإدارة الأمريكية”.

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com