نيويورك تايمز: السعوديّة تصنعُ المجاعات في اليمن.. متى يلتفت العالم؟!

المسيرة | ترجمة: ضرار الطيب

نشرت صحيفةُ “نيويورك تايمز” مطلع هذا الأسبوع، تقريراً بعنوان “مأساة الحرب السعوديّة” استعرضت فيه جوانبَ بسيطةً من تفاصيل الكارثة الإنْسَانية الكبرى التي تسبّب بها تحالُـف العدوان في اليمن من خلال تدميره للاقتصاد واستهداف لقمة عيش المواطن اليمني، واستغربت الصحيفةُ من الصمت الدولي المخزي تجاه كُــلّ ذلك، مؤملة أن يبدأ العالم بالالتفات إلى اليمنيين الذين يسقطون ضحايا المجاعات والمجازر التي يصنعها ويرتكبها النظام السعوديّ، كما التفتت إلى الصحفي “خاشقجي” الذي قتله النظامُ نفسُه!

فيما يلي تنشُرُ صحيفة “المسيرة” ترجمةً خَاصَّـةً للتقرير..

 

“التحالُـف” دمّــر الاقتصادَ اليمني

حظيت الحربُ المدمّــرة في اليمن باهتمام أكبرَ في الآونة الأخيرة، حيثُ أَدَّى الغضب من قتل معارض سعوديّ في اسطنبول إلى تسليط الضوء على الأعمال السعوديّة في أماكنَ أُخْـرَى. وقد تركّزت أقسى الانتقادات للحرب التي قادتها السعوديّة على الغارات الجوية التي قتلت آلافَ المدنيين في حفلات الزفاف والجنازات والحافلات المدرسية، بدعم أمريكي بالقنابل والمخابرات.

لكن خبراءَ الإغاثة ومسؤولي الأمم المتحدة يقولون إن هناك شكلاً آخرَ من الحرب الخبيثة يجري شنّه في اليمن، وهي حربٌ اقتصادية تفرض خسائرَ فادحة على المدنيين وتهدّد الآن بتحويل البلاد إلى مجاعة ذات أبعاد كارثية.

تحت قيادة ولي العهد محمد بن سلمان، فرض التحالُـفُ بقيادة السعوديّة وحلفائه اليمنيين مجموعةً من الإجراءات الاقتصادية العقابية التي تهدفُ إلى تقويض (الحوثيين) الذين يسيطرون على شمال اليمن. لكن هذه الإجراءات ـ بما في ذلك الحصار الدوري، والقيود الصارمة المفروضة على الاستيراد، ومنع رواتب حوالي مليون موظف مدني ـ أثقلت ظهور المدنيين، دافعةً بالاقتصاد نحو الانهيار، وبالملايين من المواطنين نحو مزيد من الفقر.

تلك التدابير تسببت بإحداث خسائرَ بطيئة: تدمير البُنية التحتية، وخسارة الوظائف، وضعف العُملة وارتفاع الأسعار. ولكن في الأسابيع الأخيرة ارتفعت وتيرةُ الانهيار الاقتصادي بسُرعة مفزعة، مما دفع كبار مسؤولي الأمم المتحدة إلى مراجعة توقعاتهم بشأن المجاعة.

قال مارك لوكوك، وكيل أمين عام الأمم المتحدة للشؤون الإنْسَانية، أمام مجلس الأمن يوم الثلاثاء الفائت: “هناك الآن خطرٌ واضحٌ لمجاعة كبيرة وواسعة تغزو اليمن”، وقال إن ثمانية ملايين يمني يعتمدون بالفعل على المعونات الغذائية الطارئة من أجل البقاء، وهو رقم قد يصل قريباً إلى 14 مليون نسمة، أَوْ نصف سكان اليمن.

“الناس يعتقدون أن المجاعة هي مُجَـرّد نقص في الغذاء” يقول أليكس دي وال، مؤلف كتاب “المجاعة الجماعية” الذي يحلل المجاعات الحديثة التي صنعها الإنْسَان. لكن في اليمن يتعلق الأمر بالحرب على الاقتصاد.

لم ترد السفارةُ السعوديّة في واشنطن على أسئلة حول سياسات بلادها في اليمن. لكن المسؤولين السعوديّين دافعوا عن أفعالهم، مستشهدين بالصواريخ التي أطلقها الحوثيون عبر حدودهم. ويشير السعوديّون إلى أنهم، مع الإمارات العربية المتحدة، من بين أَكْثَــر المانحين بسخاء لجهود الإغاثة الإنْسَانية في اليمن.

لكن هذه “الجهود” طغت عليها هجماتُ التحالُـف على الاقتصاد اليمني، بما في ذلك حِرمان الموظفين المدنيين من الرواتب، والحصار الجزئي الذي أَدَّى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وطباعة كميات هائلة من الأوراق النقدية، مما تسبّب بانهيار العُملة.

وأدّى الهجوم من أجل الاستيلاء على الحديدة (هجوم تحالُـف العدوان) الذي بدأ في يونيو، إلى تهديد خط الحياة الرئيسي للواردات إلى شمال اليمن، وتسبب في تشريد 570 ألف شخص، ودفع بأَكْثَــر من ذلك إلى حافة المجاعة.

وقد حذّر السيد لوكوك من أن المجاعةَ هُنا “ستكون أكبرَ بكثير من أي شيء آخر شهده أي محترفين في هذا المجال خلال حياتهم العملية”.

في عام 2016، قامت الحكومةُ المدعومةُ من السعوديّة بنقل عمليات البنك المركزي من العاصمة صنعاء إلى مدينة عدن الجنوبية. وقال مسؤول غربي كبير إن البنكَ الذي تملي سياساته المملكة العربية السعوديّة بدأ في طباعة كميات هائلة من الأموال الجديدة، 600 مليار ريال على الأقل.

وتسببت الأموال المطبوعة الجديدة بدوامة تضخمية أدّت إلى تآكل قيمة أية مدخرات لدى الناس.

كما توقف البنك عن دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، حيثُ يعيش 80٪ من اليمنيين. ومع بقاء القطاع الحكومي كأكبر قطاع عمل، فجأةً أصبحت مئات الآلاف من العائلات في الشمال لا تمتلك أيَّ دخل.

وتأخذ الحرب الاقتصادية أشكالاً أُخْـرَى أيضاً. ففي ورقة حديثة، قامت مارثا موندي ـ وهي محاضرة في كلية لندن للاقتصاد ـ بتحليل الضربات الجوية للتحالُـف في اليمن، واكتشفت أن هجماته على الجسور والمصانع وقوارب الصيد وحتى الحقول تشير إلى أنها تهدف إلى تدمير إنتاج الغذاء وتوزيعه في المناطق التي يتواجد فيها الحوثيون.

 

الدولُ الكبرى تقاتلُ الفقراءَ في اليمن

بصدر بارز وعينين دامعتين، يتمدد الصبي البالغ من العمر 3 سنوات بصمت على سرير مستشفى في محافظة حجة، وقد أصبح عبارةً عن كيس من العظام يقاتل من أجل التنفس.

والده، علي الحجاجي، يقف مشرفاً عليه بقلق. وقد فقد السيد الحجاجي بالفعل أحد أبنائه قبل ثلاثة أسابيع في وباء الجوع الذي يجتاح اليمن. الآن يخشى أن يفقدَ ابنَه الثاني.

لم يكن هناك نقصٌ في الطعام في المنطقة: كانت المتاجر الموجودة خارجَ بوابة المستشفى مملوءةً بالبضائع والأسواق مزدحمة. لكن السيد حجاجي لم يستطع تحملَ أيٍّ من ذلك؛ لأَنَّ الأسعار ترتفع بسرعة كبيرة، وقال: “بالكاد أستطيع شراء قطعة من الخبز البائت”. “لهذا يموت أطفالي أمام عيني”.

عندما مرض ابن الحجاجي بالإسهال والقيء، أصبح الأبُ اليائسُ في حالة مزرية، وعلى إثر نصيحة كبار السن في القرية، كوى صدرَ الطفل “شاهد” بطرف قضيب محترق، وهو علاجٌ شعبي لاستنزَاف “الدم الأسود” من ابنه.

قال السيد حجاجي: “قال لي الناس أحرقه في الجسد وسيكون الأمر على ما يرام”. “عندما لا يكون لديك مال، وابنك مريض، ستصدق أي شيء. ”

في الماضي، كان رجال القرية يعملون كعُمال مهاجرين في المملكة العربية السعوديّة، التي تبعد حدودُها مسافةَ 80 ميلاً. وكثيراً ما كانوا يعامَلون بازدراء من قبل أصحاب العمل السعوديّين الأثرياء لكنهم يحصلون على أجر. عمل السيد حجاجي في أحد مواقع بناء الضواحي في مكة، المدينة المقدسة التي زارها الملايين من الحجاج المسلمين كُــلّ عام. وعندما اندلعت الحرب في عام 2015، أغلقت الحدود.

لم يصل القتال أبداً إلى قرية السيد الحجاجي في محافظة حجة، لكنه لا يزال يسبب خسائر، ففي العام الماضي توفيت هناك امرأة شابة بوباء الكوليرا الذي أصاب 1. 1 مليون يمني. وفي إبريل / نيسان، أصابت غارة جوية للتحالُـف حفل زفاف في المنطقة، ما أسفر عن مقتل 33 شخصاً، بمن فيهم العروس.

ولكن بالنسبة للسيد الحجاجي، الذي كان لديه خمسة أبناء دون سن السابعة، كانت الضربة الأَكْثَــر فتكاً اقتصادية.

لقد راقب بفزع عندما فقد الريال نصف قيمته في العام الماضي، ما تسبب في ارتفاع الأسعار. فجأةً، أصبحت حاجيات البقالة تكلفُ ضعفَ ما كانت عليه قبل الحرب. باع قرويون آخرون ممتلكاتهم، مثل الجِمال أَوْ الأرض؛ للحصول على المال مقابل الطعام.

لكن السيد حجاجي، الذي عاشت أسرته في كوخ من طابق واحد ذي جُدران من الطين، لم يكن لديه ما يبيعه.

في البداية كان يعتمد على كرم الجيران. ثم قام بتقليص الوجبات الغذائي للأسرة، حتى أصبحت تتكون فقط من الخبز والشاي والحلص: ورقة النبات التي كانت دائماً مصدرا للغذاء ولكنها تحتل الآن مكانا مركزيا في كُــلّ وجبة.

سَرعانَ ما أصيب ابنه الأول، شادي، بالمرض والتقيؤ والإسهال، وهي أعراض تقليدية لسوء التغذية. أراد السيد الحجاجي نقل ابنه المريض البالغ من العمر 4 سنوات إلى المستشفى، لكن ذلك كان غير وارد: فقد ارتفعت أسعار الوقود بنسبة 50 في المائة مقارنة بالعام السابق.

في صباح أحد الأَيّام في أواخر أيلول / سبتمبر، دخل السيد حجاجي إلى منزله ليجدَ شادي صامتاً وغير متحَـرّك، مع مسحة صفراء على جلده. “كنتُ أعرف أنه قد رحل”، قال الحجاجي. قبّل ابنه على جبهته، وحمله على ذراعيه، وسار به على طول طريق التل المتعرج إلى مسجد القرية.

في ذلك المساء، بعد الصلاة، اجتمعت القرية لدفن شادي، تم تعليم قبره بحجرة واحدة مكسورة، تحت أغضان من أشجار السدر التي، فيما مضى، كانت مشهورة بالعسل.

كان شادي هو أول من يموت من الجوع في القرية.

وبعد بضعة أسابيع، عندما مرض شاهر (الابن الثاني)، كان السيد الحجاجي مصمّماً على القيام بشيء ما. عندما لم ينفع الكي بالحروق، حمل ابنه على الطريق الحجرية إلى العيادة الصحية، والتي كانت سيئة التجهيز لهذه المهمة. نصف المرافق الصحية في اليمن مغلقة؛ بسببِ الحرب، لذلك اقترضت عائلته 16 دولاراً للرحلة إلى المستشفى في حجة.

يقول السيد الحجاجي: “الدول الكبرى تقاتل الفقراء في اليمن”.

 

بين أطفال اليمن الجوعى و”خاشقجي”

علاماتُ المأساة في كُــلّ مكان، تتجاوز حدود الطبقة والقبيلة والمنطقة. يصدر أساتذة الجامعات الذين لم يستلموا رواتبهم نداءات يائسة للحصول على مساعدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يضطر الأطباء والمعلمين إلى بيع الذهب أَوْ الأرض أَوْ السيارات لإطعام عائلاتهم. في شوارع العاصمة صنعاء، تتوسل امرأة مسنة من أجل الصدقات بمكبر صوت.

“ساعدني”، تنادي امرأة: “لديّ زوج مريض. لدي منزل لأدفع ايجاره. ساعدني”..

ومن بين مليونين من الأطفال المصابين بسوء التغذية في اليمن، يُعتَبَر 400000 طفل في حالة صحية حرجة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم بمقدار الربع في الأشهر المقبلة.

“نحن نُسحق”. تقول د. مكية مهدي في العيادة الصحية في أسلم، وهي بلدة فقيرة في شمال غرب البلاد، ملئت باللاجئين الفارين من القتال في الحديدة المدينة الساحلية المحاصرة على بعد 90 ميلاً إلى الجنوب.

وبينما كانت تتنقل بين الأسرة في عيادتها، قامت بتجميع الأمهات وإصدار أوامر بجلب ملاعق الحليب للأطفال الرضع المرضى. بالنسبة للبعض كان قد فات الأوان: في الليلة السابقة، مات صبي عمره 11 شهرا. وزنه خمسة ونصف باوندات.

نظرت حولها.. لم تستطع الدكتورة مهدي أن تستوعبَ الهَوَس الغربي بمقتل السعوديّ جمال خاشقجي في إسطنبول، وقالت: “لقد تفاجأنا أن قضية خاشقجي تحظى باهتمام كبير في الوقت الذي يعاني فيه ملايين الأطفال اليمنيين.. لا أحد يعيرهم أي انتباه”.

سحبت الجلد الرخو لفتاة خاملة تبلغ من العمر 7 سنوات أذرعها تشبه العصي، “انظر” قالت. “لا لحم، عظام فقط”.

وفي مستشفى السبعين في صنعاء، تعالج الدكتورة هدى الرجومي الأطفالَ الأَكْثَــرَ سوء تغذية في البلاد. لكن عائلتها تعاني أيضاً؛ لأَنَّها من الطبقة المتوسطة المتهاوية في اليمن.

في العام الماضي، لم تتلقَّ سوى راتب شهر واحد. أما زوجها، وهو جندي متقاعد، لم يعد يحصل على معاشه، وبدأت الدكتورة الرجومي في التقليلِ من المشتريات اليومية، مثل الفاكهة واللحوم وسيارات الأجرة، لتغطية نفقاتها.

قالت: “نحن صامدون؛ لأَنَّ الناسَ يساعدُ بعضُهم البعضَ”. “لكن الأمر يزدادُ صعوبة”.

 

منعُ الجسر الجوي لنقل المرضى

السيطرةُ السعوديّة الصارمة على جميع التحَـرّكات الجوية والبحرية إلى شمال اليمن، جعلت المنطقة سِجناً لأولئك الذين يعيشون هناك. في سبتمبر، توسطت منظّمة الصحة العالمية لإنشاء جسر جوي إنْسَاني للسماح للمرضى اليمنيين ـ مرضى السرطان وغيرهم ممن يعانون من ظروف مهدّدة للحياة – بالسفر جواً إلى مصر.

من بين المرضى على قائمة الانتظار، السيدة ميمونة ناجي، وهي فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً ولديها ورم بحجم فاكهة “البطيخ” في ساقها اليسرى. في أحد المساكن بصنعاء، قال والدها علي ناجي إنهم حصلوا على تأشيرات وأموال للسفر إلى الهند للعلاج في حالات الطوارئ. ارتفعت آمالهم في سبتمبر عندما عملت ابنته أنها ستكون على الطائرة الأولى خارج صنعاء عندما يبدأ الجسر الجوي.

لكن الاتّفاق توقف، مُنع من قبل الحكومة اليمنية (أي حكومة المرتزِقة) وفقاً لمسؤول غربي كبير. ميمونة وعشرات المرضى الآخرين تقطعت بهم السبل، والوقت يمضي على مرضهم.

“أولاً أخبرونا: الأسبوع المقبل، الأسبوع المقبل” قال السيد ناجي وهو يقلب رقاقات من الوثائق بينما ترتسم الدموع في عينيه” وأضاف: “ثم قالوا لا. أين الإنْسَانية في ذلك؟ ماذا فعلنا لنستحق هذا؟”.

 

هل يلتفت العالم إلى ما يحدث في اليمن؟

لم تعلن الأمم المتحدة رسمياً سوى مجاعتين خلال العشرين سنة الماضية، في الصومال وجنوب السودان. وفي منتصف نوفمبر القادم سيقرر تقييم تقوده الأمم المتحدة، مدى قرب اليمن من أن تصبح الثالثة.

“هذه مجاعة دخل” قالت ليزا غراندي، منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنْسَانية في اليمن. مضيفةً “إن مفتاح إيقافها هو ضمان حصول الناس على ما يكفي من المال لشراء ما يحتاجونه للبقاء على قيد الحياة”.

وقالت إن الأولوية يجب أن تكون لتحقيق استقرار العُملة الهابطة وضمان أن يتمكّن التجار وشركات الشحن من استيراد الغذاء الذي يحتاجه اليمنيون وأضافت: “قبل كُــلّ شيء يجب أن يتوقف القتال”.

هناك أمل واحد بالنسبة إلى اليمنيين، هو أن التداعيات الدولية لمقتل المعارض السعوديّ جمال خاشقجي، التي أضرت بموقف الأمير محمد بن سلمان، قد تجبره على التراجع في مقاضاته الثابتة للحرب.

ولكن يقول بيتر ساليسبري، المتخصص بالشأن اليمني في “تشاتام هاوس”، إن هذا أمر مستبعَد.

ويضيف: “أعتقدُ أن السعوديّين علموا ما الذي يمكن أن ينجوا منه في اليمن، التسامح الغربي مع السلوك البشع، مرتفع جداً”. “إذا أخبرنا مقتلُ خاشقجي بشيء، فهو فقط مدى تردّد الغرب في كبح جِماح السعوديّين”.

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com