“الجهاد في فكر وواقع حياة الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام” في ورقة مقدمة في ندوة نظّمها المجلس الزيدي (3_3): أُقَـدِّمُكم قبلي عند العطاء وأتقدَّمُ أمامكم عند لقاء عدوي وعدوكم

الدكتور خالد القروطي

 

المبحث الثاني: الجهاد في واقع حياة ومسيرة الإمام الهادي عليه السلام:

 

تقدَّمَ لنا في المبحث الأول الجانبُ النظري لما يمكن تسميتُه وصياغتُه بنظرية الإمام الهادي عليه السلام الجهادية، وهي تعكسُ لنا الرؤيةَ القرآنية المحمدية للجهاد أيضاً، كما إنَّها تعكسُ لنا رؤيةَ الإمام علي عليه السلام خصوصاً ونظرة آل البيت عموماً للجهاد، فإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض.

ومن الجدير ذكره هنا أن رؤيةَ ونظريةَ الإمام الهادي عليه السلام الفكريةَ للجهاد لم تكن محضَّ افتراضات افترضها، وفَنْقَلَات اختلقها، ولكنه أقامها وطبّقها وسار عليها في مسيرة حُكمه وجهاده طوال حياته، ساس بها نفسَه وجيشَه وأصحابه، وعامَلَ بها أعداءَه، في صورة من صور التعامل الإنساني الإيْمَــاني الراقي الذي جعل الباحثين والمطلعين على سيرته وتأريخه لا يساوونه بعصور ما يسمونها الخلافة الراشدة فحسب، بل ويجعلونه متقدماً عليها في بعض تطبيقات مسيرته الجهادية.

 

شروطُ بيعته التي أعلنها في أهل اليمن

ويكفي الباحثَ المنصفَ الاطلاعُ على شروط بيعته التي أعلنها في أهل اليمن، ودعاهم إلى مبايعته على وفقها، ونصها:

(أيها الناس: إني أشترط لكم أربعاً على نفسي:

  • الحكم بكتاب الله وسُنة نبيه.
  • والأَثَرَة لكم على نفسي فيما جعله الله بيني وبينكم، أؤثركم ولا أتفضّل عليكم.
  • وأُقَدِّمُكم عند العطاء قبلي.
  • وأتقدَّمُ أمامكم عند لقاء عدوي وعدوكم بنفسي.

وأشترط لنفسي عليكم اثنتين:

  • النصيحة لله سبحانه ولي في السر والعلن.
  • والطاعة لأمري في كُــلّ حالاتكم ما أطعت الله فيكم، فإن خالفتُ طاعةَ الله عز وجل فلا طاعةَ لي عليكم، وإنْ ملتُ وعدلت عن كتاب الله فلا حجة لي عليكم).

ليدرك حينها أن من يدعو الناس لمبايعته على أن يكونَ هو في مقدمة صفوفهم عند الجهاد والقتال، ويقدمهم عند المغنم والعطاء، ويدعوهم إلى مخالفته إن مال أَوْ عدل عن طاعة الله تعالى، فلن يكون لشخص مثل هذا مطمع في ملك أَوْ هوى في منصب.

 

قضيةُ الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام

فقد كانت قضيتُه باختصار أنه رجلٌ باع نفسَه لله، فلم يعد له من مطمعٍ ولا من غاية سوى أن يفيَ ببيعته تلك في الدنيا، على أمل أن يقبضَ الثمن في الآخرة.

وفعلاً كان عليه السلام كذلك وليس مجرد شعارات رفعها للتضليل والخداع، فكان طوال حياته في مقدمة صفوف جُنده ودولته مجاهداً فارساً قائماً بأمر الله فيهم.

ولقد تجلّت في جهاده (ع) كُــلّ معاني الشجاعة المقرونة بأفضل أنواع الصفح والعفو، فكانت شجاعة علوية ازدانت بأجمل وأنبل الصفات، طبع عليها الإمام الهادي (ع) بدون كلفة أَوْ مجاهدة رأي.

 

الإمامُ الهادي الصورة الثانية للإمام علي عليهما السلام

وَلقد كان (ع) صورةً ثانيةً للإمام علي (ع)، فكان يقاتلُ بسيفه، ويضرب ضربَه، ويتقدم الصفوفَ، يُروَى أنه ضرب رجلاً بنجران فجذب السيفَ من بين رجليه، فقال رئيسُهم: استروا ضربة هذا العلوي فوالله لئن رآها الناس لتناصروا.

وقال لأصحابه يوماً وهو يحثهم ويوجبُ عليهم قتالَ القرامطة: (ما يجزعكم من عدوكم وأنتم ألفا رجل، فقالوا: إنما نحن ألف، فقال (ع): (أنتم ألف، وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم).

وفي إحدى المعارك مع آل يعفر وهو في قلة من أصحابه هجَمَ عليهم حتى خالطهم بأصحابه، وقتل حامل رايتهم وهزمهم، فتعجب الناس من شجاعته تلك، فلما بلغ الهادي (ع) ذلك قال: (ويحهم وما يعجبون من ذلك، ولو كان معي ألفا رجل وخمسمائة فارس مؤمنين صابرين، لدوخت بهم عامة الأرض).

ولقد كانت تلك القوة والشجاعة تنعكسُ سماحة وعدلاً على الأعداء، مما جعلهم يتوافدون عليه للبيعة في كُــلّ جهة ينزل فيها.

 

ما قيل عن شروط البيعة للإمام الهادي

يقول الشيخُ محمد أبو زهرة بعد أن قرأ بيانَ وشروطَ البيعة للإمام الهادي عليه السلام: (وبهذا يتبين أنه ما كان يطلب الملك، ولكنه كان يطلُبُ إصلاحَ أمر المسلمين، وإحياءَ الشريعة وفرض سُلطانها، وبعد أن استقر في صعدة اتجه إلى أمرَين: أحدهما: جمع اليمن وما جاورها على حكم واحد، والقضاء على التفرّق فيها، وقد جاهد في ذلك جهاداً شديداً، وخارب المبتدعين وأهل الأهواء حتى استقر لحكمه أكثرها…).

وكان عليه السلام على العهد والبيعة التي دعا الناس لمبايعته عليها دقيقاً في التزامه بأحكام الشرع، سائراً على وفق أحكام الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وممّا تجدر الإشارة إليه في هذا المجال أنه عليه السلام كان شديدَ التمسك والاقتداء بالسيرة النبوية وصرح في مواطن جهادية عديدة لأتباعه قائلاً: (واللهِ لئن أطعتموني لا يغيب عنكم من رسول الله إلا شخصه).

ليس هذا فحسب، بل كان كلما رأى تعدياً من بعض أفراد جيشه، وظلماً وجوراً من بعض جُنْده، ينهرُهم ويوبّخُهم، ويردعهم وَيصيح فيهم مبيناً أنه سائرٌ على منهج عظيم وسيرة ناصعة تلك هي سيرة ومنهج أمير المؤمنين علي عليه السلام قائلاً لهم: (إنها لَسيرةُ عليٍّ أَوْ النار).

يقولُ عبدالفتاح شايف في كتابه (الإمام الهادي والياً وفقيهاً ومجاهداً): (ولقد قضى الإمام الهادي (ع) عمرَه كلَّه لتلك الغاية النبيلة التي أعلنها في مبدأ أمره، عاش حياتَه كلَّها جهاداً ورضاً، لم يدخر لنفسه فيها درهماً ولا ديناراً، ولم يسعَ لملك ولا سلطان، وما تناقضت أفعاله مع أقواله يوماً من الأيام، وإنما ظلت حياته كلها نسقاً واحداً ونفحاً صادقاً منذ أن خرج لإعلاء كلمة الحق حتى لقي الله).

 

أبرز ما ميّز الإمام الهادي في جهاده

ولهذا كان هذا الالتزام الدقيق بأحكام القرآن الكريم، واستحضار سيرة ومنهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتقيد بسيرة أمير المؤمنين عليه السلام، كان ذلك كله هو أبرز ما ميز الهادي عليه السلام في جهاده، وما تميزت به حروبه ومعاركه.

سواء وهو يعد جيشه ويعبّئ أصحابه لملاقاة عدوهم، أَوْ أثناء وفي حالة مباشرة القتال، وكذلك بعد انتهاء المعركة، وما يعقب ذلك من تصرفات في أمور الأسرى والغنائم وغيرها.

وتقدم لنا في آخر المبحث الأول كلامُه العظيمُ وفكرُه القويمُ والذي عقد له باباً كاملاً بعنوان: “باب القول فيما يفعل إمام الحق إذا زحف إلى جهاد المخالفين وملاقاة الفاسقين”، وما تضمنه من آداب وقِيَمٍ ومُثُل إيْمَــانية وسير نبوية وتربية علوية في الحرب، وكيفية التعامل مع أصحابه وجنده وأعوانه، وفيما يخُصُّ التعامل مع أعدائه قبل وأثناء وبعد المعركة.

بل بلغ به الحرصُ على اقتفاء السيرة النبوية أن حتى في مسميات الجيش فقد كان جيشُه مكوناً من المهاجرين والأنصار ومقسّماً على وفق التقسيم العسكري لجيش النبي صلوات الله عليه وعلى آله.

ومن دقة اتّباعه للمنهج النبوي وصدق التزامه السلوك العلوي أنه كان لا يقاتل قوماً إلا بعد أن يدعوهم ويقيم الحجة عليهم.

 

دعواته للخصوم عندما يعسكر للقائهم

وإذا اقترب من عدوه وعسكر مواجهاً له بعث إليه رجلاً أَوْ رجلين أَوْ ثلاثة من أهل العلم والعقل والتقوى، ليقيم عليه الحجة، فيدعونه إلى الله ويرغبونه في ثوابه، ويحذرونه من طاعة الشيطان، ويخوفونه بالله وعذابه وعقابه، ويسألونه حقن الدماء والدخول فيما دخل فيه المسلمون من الخير والهدى، فإن أجابهم أصبح منهم، وإن أبى ذلك عليهم قاتلوه حتى يحكم الله بينه وبينهم.

جاء في إحدى رسائل الإمام الهادي والتي بعثها لأحمد بن يحيى بن زيد يدعوه فيها لنُصرته، ويبين له فيها ما يدعوه إليه قائلاً: (وأدعوك إلى أن نأمرَ نحن وأنت بالمعروف في كُــلّ أمرنا ونفعله، وننهى عن المنكر جاهدين ونتركه، وإلى مجاهدة الظالمين من بعد الدُّعاء إلى الحق لهم، والإيضاح بالكتاب والسنة بالحجج عليهم، فإن أجابوا فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المؤمنين، وإن خالفوا الحق وتعلقوا بالفسق حاكمناهم إلى الله سبحانه، وحكمنا فيهم بحكمه، فإنه يقول سبحانه: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إلا عَلَى الظَّالِمِينَ).

 

التعاملُ مع ناقضين العهد والخارجين عليه

ولم يختلفِ الحالُ معه في التعامل مع ناقضي العهد ومانعي الزكاة والخارجين عليه، حيثُ لم يكن يقاتلهم حتى يقدم الدعوة إليهم بالتوبة والرجوع إلى الحق وإعطاء ما عليهم، فإنْ تابوا وأنابوا قبل منهم ذلك، وإن أبوا وتمنعوا لم يكن ليقاتلهم ولا ليحاربهم حتى يعلمهم بالحرب ويبلغهم بنقضهم للعهد.

جاء في كتاب له وجّهه عليه السلام لبني الحارث بن كعب بنجران وذلك عندما رفضوا تسليمَ الزكاة، وآذنوا واليه هناك بالحرب، فكان مما كتبه الإمام إليهم: (أما بعد: فإن اللهَ عز وجل يقول في كتابه: (اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَال)، وقد بلغنا ما أنتم عليه مما هو إن شاء الله تعالى سبب لهلاككم وحلول النقم بكم، ولم تزالوا أهل غدر ومكر بأولياء الله، ومن مكر بأولياء الله فإنما مكره على نفسه.. (وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ)، ونخن أحق من تأدب بأدب الله واحتذى في قوله كله، وقد قال الله سبحانه: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِين)، ولسنا ممن يستجيز غدراً، ولا يستحل خديعة ولا مكراً، ولا يقول غير ما يفعل، ولا ينطق إلا بما يعمل، وقد آذناكم بالحرب على سواء (إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِين).

وسبق لنا في المبحث الأول بيان كيف كانت سيرته عند اقتراب الزحف من تعبئة جيشه ميمنة وميسرة وقلباً كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، وكيف يصف جنوده صفاً وراء صف اتباعاً لقول الله تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوص)، ويوصيهم بقلة الكلام والصياح والهرج، ويمنع أصحابه أن يتبعوا مدبراً، أَوْ يقضوا على جريح، أَوْ يقتلوا وليداً أَوْ امرأة أَوْ شيخاً كبيراً لا يطيق القتال، أَوْ يقطعوا شجراً، أَوْ يمثلوا بآدمي أَوْ بهيمة.

 

ارتباطُه والتزامُه بأحكام الدين

ولقد غَضِبَ مرةً غضباً شديداً، حتى أنه حدث نفسَه وخُلَّصَ أصحابه عن نيته تَرْكَ اليمن والعودةَ إلى الحجاز، حينما بلغه أن بعضَ أتباعه دخلوا أثافت وانتهبوها، لولا أن كبارَ القوم من أصحابه وعقلائهم أبلغوا من وقع منهم ذلك الفعل غضب الإمام عليهم حتى تابوا وأعادوا كُــلّ ما أخذوا.

وكان عليه السلام شديداً في التقيّد بأحكام الدين وتعاليم سيد المرسلين، فلا يجامل أحداً في ذلك ولا يسمح لنفسه ولا لأحد من جيشه بمخالفة أَوْ استباحة ما حرم الله ولو كان ذلك مع الأعداء أَوْ القبائل التي لم تدخل تحت ولايته وحكمه.

ولقد جاءت إليه إحدى القبائل اليمنية طالبةً منه الإذن لها في الإغارة على قبيلة أخرى محارِبةً للإمام ونهبها، فرفض إجابتهم إلى ذلك، وكان من جوابه عليهم: (إن فعلتم بدأت بقتالكم).

وقال يوماً لأتباعه من الجنود عندما أخذوا بعضَ العَلَف لدوابهم من منازل بعض القبائل في أرحب: (ردوا كُلَّ ما أخذتم، واللهِ محمود لئن عاد أحد منكم يأخذ شيئاً بغير إذن مني لأقطعن يده).

وكان كلما انتهت المعركة يدعو أصحابَه لجمع الغنائم والأسلاب ثم يقوم بقسمتها بينهم كما أمر الله سيحانه وتعالى.

 

تعامُل ُالإمام الهادي عليه السلام مع الغنائم التي تم توزيعُها

وأحياناً ما يطلبُ من جيشه أن يهبوه نصيبَهم من المغانم ليردها على أصحابها تأليفاً لهم، كما حدث ذلك مع أهل برط، وذلك أنه وفد منهم وفد إليه وبايعوه فوجه معهم رجلاً من أصحابه عاملاً عليهم فتعرض له بعضهم ومنعوه من أداء صلاة الجمعة، فكتب بذلك للإمام، وكانوا يظنون عدم قدرة الإمام على الوصول إلى بلادهم لوعورة الطريق إليها وتضاريسها الجبَلية القاسية، فقدم إليهم الإمام بجيشه ودعاهم وحذّرهم ووعظهم فلم يلقوا بالاً لكل ذلك ورموه بالنبل وجرحوا بعض أصحابه، فقاتلهم الإمامُ وأصحابُه وقَتل منهم الكثير وأسر الكثير وفر الكثير هارباً، فلحقهم أصحابُه وجُندُه وسلبوهم وأرادوا قتلَهم، ولكن الإمام منعهم مبيناً لأصحابه أن هؤلاء ليس لهم أميرٌ ولا فئة يرجعون إليها، وطلب من أصحابه كما ذكرنا أن يهبوه ما غنموه ليعيدَه إلى أهل برط يتألفهم به لما في ذلك من مصلحة للإسلام.

ولم تختلف سيرتُه عليه السلام في جِهاده حتى مع الخارجين عنه والناكثين لعهده، فلا يجدُ عنده كُلُّ هؤلاء إلا الصفح وقبولَ الاعتذار، حتى وإن تكرر منهم الغدرُ ونكثُ العهود والمواثيق.

 

تعامل الإمام الهادي مع أهل صنعاء

ويجلي لنا تعاملُه مع أهل صنعاء وإحسانُه إليهم مع إساءتهم إليه صورةً ناصعةً من خلقه الجهادي الرفيع، حيثُ أن نفقته ونفقة جيشه قلّت، فيرفض أهل صنعاء ليس إعانته فقط، وإنما إقراضَه عليه السلام، ومع ذلك فلم يستخدم الإمام معهم أي سلوك سلطوي أَوْ تصرّف يجبرهم على إخراج جزء من أموالهم لضرورة إطعام الجيش الذي يدافع عنهم وعن مدينتهم.

وتدور الأيام والسنون، وتدخل جيوشُ القرامطة صنعاء، فتقتل وتنهب وتغتصِب وتستبيح الأعراض، ولا يجدُ أهلَ صنعاء مَن يستنجدون به إلا الإمام عليه السلام؛ لما يعرفونه وهم على يقين منه من دِينه وإيْمَــانه أولاً، وفضله وحلمه وسعة صدره ثانياً، وحميَّتِه وغِيرته على الإسلام وأهله وعلى أعراض المسلمين ثالثاً، فلا يحملُ مثلُه ضغائنَ ولا أحقاداً ولا عداوات؛ ولذلك طلبوا نجدتَه، فهب عليه السلام لنجدتهم، وقدّم في سبيل ذلك شهداءَ من خِيرة رجاله الذين رفض أهلُ صنعاء قبل ذلك مجرد إقراضه المال لإطعامهم.

 

تعامُلُ الإمام الهادي مع الأسير

وكان عليه السلام يرى أن الأسيرَ إذا لم يكن بعدُ في حبس المسلمين، فإنّ الإمام مخيّر في قتله أَوْ المن عليه أَوْ الفداء، أما إذا كان الأسير قد وثق بوثاق يمنعه من الإفلات فإنه لا يجوز قتله عند ذلك.

كما كان يرى أن أيَّ أسير قامت عليه البينة بقتل أحد من المسلمين فإنه يقتل به، وإنْ جرح أحداً أقيد به.

وإنْ لم يكن قتل ولا جرح وتاب وظهرت توبته وجب إخلاءُ سبيله، إلا أن يخاف كيده فيحبس).

وقصة رفضه عليه السلام لقتل زعماء آل يعفر وآل طريف الذين كانوا في سجنه في شبام معروفة، وجوابُه لمن أشار عليه بذلك قائلاً: (إنه لا يحلُّ لي قتلهم وهم في أسري).

 

أهمُّ عوامل انتصار الإمام في جهاده

بعدَ العرض السابقِ لجانبٍ من سيرة الإمام الهادي عليه السلام فيما يخُصُّ الجانبَ الجهادي، والتي كانت نموذجاً حياً ومثالاً تطبيقياً واقعاً للسيرتين النبوية والعلوية التي ألزم نفسه السيرَ مقتدياً بهما.

فإنه يحسُنُ بنا عرضُ أهم العوامل التي كان لها الأثرُ البالغُ في انتصارات الإمام عليه السلام في معاركه، وتعكس لنا صورةً مشرقة مما كان عليه الإمام والتي لخصها أحدُ الباحثين في سيرته، وهي:

  • صدقُ الإمام وإخلاصُه فيما كان يدعو إليه، ويقينُه الجازمُ بأنه وأصحابه على الحق، وأن أعداءَه على الباطل.
  • شجاعةُ الإمام منقطعةُ النظير، وبسالته التي عُرِفَ بها، حتى أنه صرّح بنفسه أنه كان يقوم بألف من الفرسان، وهو ما أكّده عليه السلام في شروط بيعته التي اشترط فيها لمن يدعوهم إلى نُصرته ويستجيبون لدعوته أن يتقدمهم عند لقاء عدوه وعدوهم بنفسه، ولقد كان كما وعدهم في مقدمة جيوشه عليه السلام، حتى أصبح عليه السلام مضربَ المَثَل في الشجاعة.
  • الصبرُ الشديدُ الذي تميّز به الإمام الهادي وأصحابه أمام أهوال المعارك والحروب وشدة ضراوتها، صبراً أثار استغراب الناس وتعجبهم من ذلك، حتى قال الإمام الهادي عليه السلام لما بلغه ذلك: (ويحَهم وما يعجبون من ذلك، ولو كان معي ألفا رجل وخمسمائة فارس مؤمنين صابرين، لدوخت بهم عامة الأرض).
  • التزامُ الهَادِي الدقيقُ بأحكام الإسلام وأخلاقه في سلمه وحربه، وفي سياسته وحكمه، مع أصحابه ومع أعدائه، ذلك التطبيق الدقيق لأحكام ومبادئ الإسلام أوجد صورة مشرقة كان يرسُمُها الهَادِي في كُــلّ منطقة يدخلها من إزالة الفتن، والثارات، وإقامة العدل بين الناس، وإزالة المنكر بكل صوره وأشكاله، فلا تلبث تلك الصورة المشرقة من أن يتسامع بها الناس في كثير من البلاد، فيتطلع على إثرها المظلومون للتحرر من الظلم والاستعباد، ويطمع الخائفون في أمن الإسلام وأمانه.
  • المجموعةُ النادرةُ من الرجال المهاجرين المعروفين بالطبريين والعلويين والمضريين الذين تركوا ديارَهم وأهلَهم، وهاجروا إلى الإمام عليه السلام في اليمن، ولا يبتغون سوى النصر لدين الله أَوْ الشهادة في سبيل الله تعالى، إضافةً إلى الثلة المؤمنة من الرجال اليمنيين المخلصين الذين كانوا على مستوى عال من الإيْمَــان والفداء، شكلوا معاً رغم قلتهم طليعة متميزة كانت تقذف بنفسها في مقدمة الصفوف، حريصة على الموت أكثر من حرص عدوها على الحياة.

وهكذا قضى الإمامُ الهَادِي عُمُرَهُ كلَّه لتلك الغاية النبيلة التي أعلنها في مبدأ أمره، عاش حياتَه كلها جهاداً لم يدخر لنفسه فيها درهماً ولا ديناراً، ولم يسع لملك وسُلطان، ما تناقضت أفعاله مع أقواله يوماً من الأيام، وإنما ظلت حياته كلُّها نسقاً واحداً ونغماً صادقاً منذ أن خرج لإعلاء كلمة الحق حتى لقي الله وفياً بما عاهده عليه.

فسلام الله عليه يوم وُلِدَ ويوم جاء إلى اليمن ويوم يُبعَثُ حياً، وجزاه الله عنا أهلَ اليمن أفضلَ ما جزى عبادَه المرسلين والمصلحين، وصلى اللهُ وسلَّمَ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com