الجهاد في فكر وواقع حياة الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام في ورقة مقدمة في ندوة نظّمها المجلس الزيدي (1 _ 3) .. الجهاد لا يعدله ولا يساويه شيءٌ من شرائع الإسلام

الدكتور خالد القروطي

المبحث الأول: الجِهَـادُ في فكر الإمام الهادي:

برَزَ الجِهَـادُ في فكر الإمام الهادي بروزاً واضحاً قوياً جلياً، يظهر ذلك من خلال تتبُّعِ وقراءة ِمصنّفات الإمام التي بين أيدينا، الأصولية منها والفقهية، ومن أهمها مجموعُ كتبه ورسائله والمعروفة بالمجموعة الفاخرة والأحكام والمنتخَب والفنون، والتي لا يكاد يخلو مبحثٌ منها من ذكر الجِهَـاد، ولا أبالغ إن قلت لا تخلو صفحةٌ من مؤلفاته من التطرق فيها للجِهَـاد.

ليس هذا فحسب بل إنه عقد مباحثَ خَاصَّـة في بعض مؤلفاته لبيان فضل الجِهَـاد ومكانته.

وتنبغي الإشارَةُ هُنا إلى أن هذا الحضور الكبير للجِهَـاد في فكر الإمام الهادي إنما هو نابعٌ من الحضور الكبير للجِهَـاد في القرآن الكريم وما جعل الله له في كتابه من المنزلة العظيمة، والتي جسّدها رسول ُالله وآل بيته الأطهار في واقع حياتهم ومسيرة كفاحهم.

ولهذا ومن خلال هذا المبحث سيتضح لنا وسنتعرف على أهميّة الجِهَـاد ومكانته وفضله وحضوره القوي في فكره وهو ما انعكس جلياً في سيرته ومسيرته الجِهَـادية، وذلك فيما يلي:

 

الجِهَـاد أعظم وأَكْبَر فروض الشريعة الإسلامية وأجلُّها قدراً ومكانةً عند الله تعالى ووجوب إظهاره والإقرار به:

بيّن الإمامُ الهادي في كلام واضح وجلي وصريح حقيقةً هامةً من حقائق الدين الإسلامي، هي أن الجِهَـاد أعظم الفروض التي افترضها الله على عباده، وأمرهم وألزمهم بها.

يقول في بيان ذلك بعد بيانه لما يجب على المسترشد: (فإذا علم المسترشد ذلك وعرف كُــلّ من ذكرنا بصفاتهم، ووقف على أولي الأمر منهم بدلالتهم، ودان الله سُبْحَــانَــهُ بولايتهم، وجب عليه من بعد ذلك أن يعتقد معرفة فضل الجِهَـاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يعلم أن ذلك أَكْبَر فروض الله المفترضة عليه، فيظهر جهاد الظالمين، وينوي مباينة الفاسقين، بيده ولسانه وقلبه وبما يقدر عليه من طاقته، ثم يجب عليه من بعدُ أن يتطهر للصلوات…).

ويقول مبيناً ومشيراً علو مرتبة الجِهَـاد ودرجته عند الإقرار بفرائض الإسلام ومنهياته: (وأشهد أن الصلاة واجبة، وأن الزكاة لازمة، وشهرُ رمضانَ فرض صيامه، ولم توجب علينا النافلة قيامه، والحج على الناس دين من استطاع إليه سبيلاً، والاستطاعة الزاد والراحلة، وأمان الطريق. والجِهَـاد قسراً يقسر النفوس على القيام بالجِهَـاد قسراً، وفي الجِهَـاد فضل الدرجات، والبعد من النقمات).

ويقول في مقدمة كتاب تفسير معاني السُّنة في بيان الحمد لله على ما وفّقه له من نعم عظيمة وامتن عليه من مِنَنٍ جسيمة ومنها التوفيق للجِهَـاد وكونه أَكْبَر الفروض وأعظم الواجبات: (والقيام بأَكْبَر فروضه قدراً، وأعظمها لديه خطراً، وهو الجِهَـاد في سبيله، والمباينة لمن عَنَد عن دينه، وفي ذلك ما يقول جل جلاله عن أن يحويه قول أَوْ يناله: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِـرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾.

وفي عبارة صريحة لا غبار عليها ولا تحتاج إلى التأويلات والتمحلات يقول الإمام: (وكان أفضل ما افترض الله عليهم، وجعله حجة مؤكّدة فيهم الجِهَـاد في سبيله، والأمر بالمعروف الأَكْبَر، والنهي عن التظالم والمنكر).

 

بيان بعض الأسباب الباعثة على كون الجِهَـاد أعظمَ الفرائض:

وهنا يبين الإمام بعض الأسباب التي جعلت من الجِهَـاد أفضلَ من غيره من الأعمال الصالحة فيقول مصدّراً ذلك باستفهام استنكاري: (وكيف لا يكون الجِهَـاد أعظم فرائض الرحمن، وهو عام غيرُ خاص لجميع المسلمين، وعَمْلُ من عمِلَ به شامل لنفسه ولغيره من المؤمنين؛ لأنَّ الجِهَـاد: عز لأولياء الله، مخيف لأعداء الله، مشبع للجياع، كاس للعراة النياع، ناف للفقر عن الأُمَّــة، مصلح لجميع الرعية، به يقوم الحق، ويموت الفسق، ويرضى الرحمن، ويسخط الشيطان، وتظهر الخيرات، وتموت الفاحشات. والمصلي فإنما صلاته وصيامه لنفسه، وليس من أفعاله شيء لغيره، وكذلك كُــلّ فاعل خير فعله لنفسه لا لسواه).

 

الجِهَـاد لا يعدله ولا يساويه شيء من شرائع الإسلام ولا يقاس به شيء غيره

اعتبر الإمام قياس الجِهَـاد بغيره جهلاً من فاعله ودلالة على عماية من يقوم بذلك، وهو ما صرح به في عبارة قوية تبين سوء فعل من يتصدى لذلك من العلماء والعامة قائلاً: (فأين بالجهلة العمين والعلماء المتعامين؟ كيف يقيسون شيئاً من أعمال العباد، إلى ما ذكر الله سُبْحَــانَــهُ من الجِهَـاد، هيهات هيهات، بَعُد القياس، ووقع على الجهلة الالتباس).

واستند إلى بيان فضل المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم على سائر من سواهم من العاملين على ما قرّره القرآن الكريم في ذلك، حيثُ قال: (ثم قال تبارك وتعالى فيما يذكر من تعظيم ما ذكرنا من الجِهَـاد الكريم: (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْـوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).

 

عدم قبول صغائر الأعمال الصالحة عند رفض الجِهَـاد والتخلف عنه وبيان عموم الجِهَـاد:

وهنا يقف المرء منا مشدوهاً من بعض عبارات الإمام الهادي التي تكاد تكون صادمة للكثير منا، ومن ذلك هذه العبارة وهذا الكلام في هذا الجانب فتأملوه بدقة، يقول: (وكيف يجوز له الإقبال على صغائر الأمور من الصالحات، وهو رافض لأعظم الفرائض الزاكيات، وكيف لا يكون الجِهَـاد أعظم فرائض الرحمن، وهو عام غير خاص لجميع المسلمين، وعَملُ من عمِلَ به شامل لنفسه ولغيره من المؤمنين).

ويقول في كلام أخطر مما سبق: (فليعلمْ كُــلُّ عالم أَوْ جاهل، أَوْ من دُعِيَ إلى الحق والجِهَـاد فتوانى، وتشاغل، وكره السيف والتعب، وتأوّل على الله التأويلات، وبسط لنفسه الأمل، وكره السيف والقتال، والملاقاة للحتوف والرجال، وآثر هواه على طاعة مولاه- فهو عند اللطيف الخبير العالم بسرائر الضمير من أشر الأشرار، وأخسر الخاسرين- أن صلاته وصيامه وحجه وقيامه عند الله بور لا يقبل الله منه قليلاً ولا كثيراً، ولا صغيراً ولا كبيراً، وإنه ممن قال سُبْحَــانَــهُ فيه حين يقول: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً).

 

لزوم الجِهَـاد والقيام به:

كما لم يُغفل الإمام البيان إلى لزوم الجِهَـاد والقيام به على إمام المسلمين وعلى عموم المؤمنين، وجعل التهاون والتقصير عن القيام بذلك كفراً بالله تعالى، يقول: (والجِهَـاد والقيام لازمان، لا يفكه عن فرضها، ولا يزيحه عن واجب أمرهما إلا القيام بهما، والأثرة لهما، أَوْ الكفر لمن افترضهما، كما قال الرحمن الرحيم في ما نزل من القرآن الكريم، حين يقول تبارك وتعالى: (انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

 

الجِهَـادُ سبيلُ سعادة:

ومن خلال الاطلاع على دعوته التي وجّهها لكثير من مشايخ وقبائل اليمن نجد بياناً منه للأُمَّــة أن الجِهَـاد في سبيل الله هو سبيل سعادتها، وأن في ترك الجِهَـاد شقاء الأُمَّــة نتيجةَ ما سيترتب على ذلك من ظهور الفساد وعلو كعب الضلال، يقول: (فاجتهدوا رحمكم الله واستغفروا، وقوموا لله بما أمركم به ولا تقصروا، ولا تركنوا إلى الخفض في الدنيا فتهلكوا، وجِدُّوا في جهاد أئمة الظلم تسعدوا، إلا تفعلوه تكن فتنه في الأرض وفساد كبير).

 

الجِهَـادُ مهمةُ الأنبياء والمرسلين، ووظيفة الأئمة الهادين، وسبيل خيرية أمة الإسلام:

ومما يؤكّد هذه المنزلة العظيمة للجِهَـاد والمكانة العالية له أن امتدح اللهُ أنبياءَه لقيامهم بذلك، وكونه وظيفة لازمة لهم ولأئمة الإسلام من بعدهم، ولأجل الجِهَـاد والقيام به اقترنت خيرية الأُمَّــة بالقيام به في واقعها.

يقول: (وكان أفضل ما افترض الله عليهم، وجعله حجة مؤكّدة فيهم الجِهَـاد في سبيله، والأمر بالمعروف الأَكْبَر، والنهي عن التظالم والمنكر؛ لذلك امتدح الله به الأنبياء المرسلين، وذلك قوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

ويقول سُبْحَــانَــهُ وتعالى في بيان أهمّ وظائف أئمة المسلمين: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور.

ويقول سُبْحَــانَــهُ مبيناً سبب اكتساب الأُمَّــة للخيرية والفضل بالجِهَـاد: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه.

 

فضلُ الجِهَـاد وبيان نتائجه:

وهنا نجد الإمام يعدد لنا جملة من الآثار العظيمة المترتبة على الجِهَـاد، والتي لأجلها كان أعظم فرائض الله على العباد، مع بيانه ابتداء على عدم إمكان الإحاطة بفضائل الجِهَـاد كلها لسعتها وكثرتها.

يقول: (وما ذكر الله من تفضيل الجِهَـاد فأَكْثَــر من أن يحيط به كتاب، وهو معروف عند من رزق فهمه من ذوي الألباب، وكيف لا يكون الجِهَـاد في سبيل الله فُضَل على جميع أعمال المؤمنين، وبه يحيا الكتاب المنير، ويطاع اللطيف الخبير، وتقوم الأحكام، ويعز الإسلام، ويأمن الأنام، وينصر المظلوم، ويتنفس المهموم، وتنفى الفاحشات، ويعلو الحق والمحقون، ويخمل الباطل والمبطلون، ويعز أهل التقوى، ويذل أهل الردى، وتشبع البطون الجائعة، وتكسى الظهور العارية، وتقضى غرامات الغارمين، وينهج سبيل المتقين، وينكح الأعزاب، ويقتدى بالكتاب، وترد الأموال إلى أهلها، وتفرق فيما جعل الله من وجوهها، ويأمن الناس في الآفاق. وتفرق عليهم الأرزاق).

 

من دلالات فضل الجِهَـاد عند الهادي الأمر من الله لنبيه صلى عليه وآله وسلم بالتحريض عليه، والأمر للمؤمنين بالنفير في سبيله:

تأمّلوا بدقة هذا الكلام العظيم للإمام: (ولفضل الجِهَـاد ما أمر الله نبيئه بالتحريض عليه للعباد حين يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ)، ويقول تبارك وتعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِـرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).

ثم قال سُبْحَــانَــهُ فيما أمر به عباده من النفير في سبيله، والإحياء لشرائع دينه: (انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

 

الترغيبُ للجِهَـاد بوصفه بالتجارة:

يقول الهادي في ذلك: (ثم قال سُبْحَــانَــهُ ترغيباً لعباده المؤمنين، وإخباراً لهم بما أعد لهم على الجِهَـاد من الثواب المبين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّـرِ الْمُؤْمِنِينَ). صدق الله سُبْحَــانَــهُ..

إن ذلك للتجارة الكبرى، والكرامة الجليلة العظمى، والحظ العظيم، والأمر الجسيم، الذي جل ذكره، وعظم قدره، وحسن – عند الله مآب فاعله، وجل لديه سُبْحَــانَــهُ خطر القائم به. جعله له سُبْحَــانَــهُ مؤتمناً على خلقه، ومرشداً إلى أمره، خصه بخواص من الكرامة الكاملة، وأعطاه العطية الفاضلة، وجعله حجة شاملة، ونعمة على الخلائق دائمة، فنسأل الله إيزاع شكره، وبلوغ ما نؤمل من طاعته، فإن ذلك أفضل ما أعطى الخلق من العطاء، وأعظم ما بلغه بالغ من الرجاء).

 

اغتنام الفرصة بالدعاء بالتوفيق للجِهَـاد والشهادة في سبيل الله تعالى:

وهنا نجد الإمام يرشدنا ويدلنا على أن من أفضل الدعاء وأرغبه، بل وما يجب الإكثار منه هو سؤالُ الله التوفيقَ للجِهَـاد في سبيله ونيل الشهادة على مرضاته، وها هو يقول في ذلك: (من فتح له باب الدعاء، فليكن أَكْثَــر ما يدعو الله به أن يسأله الرضا والرضوان وأن يرزقه الجِهَـاد في سبيله والشهادة فإن ذلك أفضل ما أعطي العاملون).

 

الوعيدُ الشديد للمتخلف عن الجِهَـاد:

ومن كلام له يجعل القارئ له في خوف وحذّر شديد، حيث بيّن فيه أوّلاً أن الشك والارتياب في الحق إلا من عمل الفجار الفساق، ونحن ندرك ما معنى أن يصف الهادي أناساً بهذه الأوصاف وما الذي تعنيه تلك الأوصاف في مذهب وفكر أهل البيت عليهم السلام، ولم يكتف بذلك بل جعلهم من الضالين الهالكين، هؤلاء هم في المتردّدون المتحيرون الشاكون في فريضة الجِهَـاد، يقول: (ثم أخبر أن المرتابين الذين هم في ريبهم يتردّدون، والتردّد فهو الشك، والشك فلا يكون في حق إلا من أهل الفجور والفسوق، ومن أضل عند الله، أَوْ أهلك، أَوْ أشد عذاباً عند الله، أَوْ آفك ممن تخلف عن الحق وهو يعرفه، وسوَّف بالإقبال إليه. فكذلك، لعمر أبي، الجفاة الرافضين للحق والمحقين، والمتأولين في ذلك على رسول الله، ما لم يجعل الله إلى التعلق به سبيلاً، أشدُّ عذاباً عند الله، وآلم تنكيلاً ممن لم يعرف ما افترض الله عليه في الجِهَـاد، فهو يتكمه في البلاء متحيراً عن ما اهتدى إليه غيره من العباد، فنعوذ بالله من التخلف عن أمره، والصد عن سبيله).

بل إنه يعقد كلاماً خاصاً ويركز على فئة من الناس بعينها في هذا الجانب لخطورة موقفها وما يترتب عليه من اقتداء العوام من الناس بها في أفعالها، تلك الفئة هي فئة العلماء، فيقول سلام الله عليه مبيناً عظيم جناية تخلفهم عن الجِهَـاد في سبيله: (فلا صد يرحمك الله أصد، ولا جرم عند الله أشدّ من جرم من تخلف عن الحق، ممن ينظر إليه من السواد الأعظم من الكبراء، وبه تقتدي العوام من العلماء والجهلاء، بل تخلف من كان كذلك ثم تخلف فقد عطل ورفض الحق، وأضعف دعوة الصدق؛ لأنَّ كثيراً من ضعفة المؤمنين يقتدون بأفاعيله، لثقتهم به واتكالهم على رأيه، ونظرهم إلى عزيمته، إذ قصرت عزائمهم، وصغرت عن كثير من ذلك بصائرهم، فهم له أتباع في كُــلّ أمره، لا يعدلون عن قوله ورأيه، ولا يفعلون إلا بفعله، وإن نهض نهضوا، وإن أقام أقاموا، وإن نصر نصروا، وإن خذل خذلوا، وكلهم مأخوذ بنفسه، إذ هو مقصر عن مدى غيره، والمنظور إليه منهم فمأخوذ بهم إن علم أنهم إليه ينظرون، وإياه يبصرون، فيا ويل من تخلف عن الله وخالف الهدى، وركن إلى الأولاد والدنيا، أما سمع قول الله تعالى فيما نزل من القرآن الكريم حين يقول لرسوله: (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)، فأوجب لمن اتبع الجزاء الحسن والثواب، ولمن تخلف عن ذلك أليم العقاب، فنعوذ بالله من البلاء والحيرة والشقاء، والركون إلى ما يزول ويفنى، والأثرة له على ما يدوم ويبقى).

وفي مكان آخر يقول: (ثم قال تخويفاً للقاعدين وإعذاراً وإنذاراً للمتربصين واحتجاجاً على المتخلفين عن واجب ما أوجب أحكم الحاكمين، وتبييناً لفضل المنابذين لمن نابذ شرائع الدين، وجهد في إبطال الحق اليقين، وكان ضداً مدافعاً للحق، وكهفاً وسنداً للفسق: (إلا تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير).

 

المتخلف عن الجِهَـاد من أشر عباد الله وبيان سبب ذلك:

وهنا يقول الإمام متسائلاً عن سبب كون المتخلفين عن الجِهَـاد من أشر العباد معدّداً جملة من الآثار المترتبة على تقاعسهم: (وكيف لا يكون من منع الجِهَـاد، وتعلل بالأموال والأولاد، من أشر العباد عند ذي العزة والأياد؛ وقد هتك الدين، وباين رب العالمين وشرك في دماء المسلمين وقوى بذلك جميع الفاسقين؟! فكان بخذلانه للدين، وقعوده عن المحقين؛ شريكاً للكافرين ومعاضداً للفاجرين، إذ كانت – بخذلانه – نيته وسطوته على المحقين، بتخلف المتخلفين مُظَاهِرَة. فكان محلُّ الخاذل- بخذلانه وقعوده عند الله – محلَّ المحارب بمحاربته، لا ينفك الخاذل للمؤمنين، من المشاركة للفاسقين، فيما نالوه من المتقين، في حكم أحكم الحاكمين. فليتق الله ربّه، وليقس بفتره شبره، وليَتْرُك عنه التعلات، وليحذّر من الله النقمات، فقد وضح الحق لطالبه، واستنار الرشد لصاحبه).

 

بُطلانُ أعذار المتخلفين عن الجِهَـاد، واستحقاقهم للذم بذلك:

المتأمل في كلام الهادي يجد ويلاحظ شدةً واضحة منه وفي مواطنَ كثيرةٍ على المتخلفين عن الجِهَـاد المتعللين بأنواع العلل والأعذار، الصادّين عن سبيل الله تعالى.

وها هو في هذا المقطع يصرح بها قائلاً: (فلا عذر في تخلف المتخلفين، ولا حجة في تأويل المتأولين، ولا بد من النصرة لرب العالمين، أَوْ الكفر بما أنزل على خاتم النبين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم، ثم ذكر سُبْحَــانَــهُ فذم ذا التعللات وأهل التأويلات الباطلات، فأخبر أنه لا عذر لهم فيما به يعتذرون، ولا حجة لهم فيما فيه يتأولون من التعلق بالشبهات والتسبب لمنال الفكاهات، والتلذذ بمقارنة الأولاد والزوجات، وجمع الأموال من التجارات، فقال سُبْحَــانَــهُ تحذيراً لهم، وتنبيهاً عن وسنتهم، وتيقيظاً لهم من رقدتهم: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، ثم سمى من كان كذلك أَوْ ضرب لنفسه تأويلاً في ذلك فاسقين، وأوجب لهم ما أوجب للفاجرين من عذاب الجحيم، والخلود في العذاب الأليم).

 

بيانُ أن المتخلفين عن الجِهَـاد فسّاقٌ بتركهم لذلك:

وهنا يستندُ الإمام إلى صريح منطوق القرآن الكريم في وصف المتخلفين عن الجِهَـاد، الصادين عنه، المتشاغلين بنال والولد والمسكن والمال والتجارة وغيرها بالفسق.

وكلنا يدرك متى يطلق اسم الفسق على المتلبس بالإيْمَـان، والنتائج المترتبة على كونه فاسقاً..

يقول: (ثم قال سُبْحَــانَــهُ إبانة منه للمتخلفين، وتسمية منه لهم بأسماء الفاسقين، وإخراجاً لهم بذلك من معاني المؤمنين: (قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ… إلى قوله: (فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، فجعل المتخلفين عن جهاد الظالمين في الحكم عنده سُبْحَــانَــهُ من الفاسقين).

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد أسباب الألفة المؤمنين وأخوّتهم وبيان أنه الجِهَـاد في سبيل الله:

وهنا يقول: (وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألف الله بين المؤمنين، وجعلهم إخوةً عليه متوالين وذلك قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

ثم بيّن بعد ذلك حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائلاً: (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يُنال إلا بالإقدام والتصميم، والنية والاعتزام الكريم على الجِهَـاد في سبيل الله، وتوطين الأنفس على ملاقاة أهل الظلم والطغيان، فحينئذ ينال ذلك، ويؤدي فرض الله من كان كذلك، وهو الجِهَـاد في سبيله).

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علامة جلية دالة على النفاق، وأن ذلك شأنُ المنافقين:

يقول مُجْلياً ذلك: (وبترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذمَّ اللهُ المنافقين والمنافقات حين يقول: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون).

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com