الوظيفة الاجتماعية للمال في فكر الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين

حمدي محمد الرازحي

++++++++++++++++++++++++++++++++++++

الإمام الهادي بدأ بالقضاء على الخلافات القبَليَّة والصراعات البَيْنِيَّة والحروب المستدامة لتهيئة الأجواء لبناء الدولة

توجه الإمام الهادي للارتقاء بالمجتمع في مختلف مجلات الحياة المعرفية والسياسيّة والاجتماعية والاقتصادية

الإمام الهادي عالج الجانب الاقتصادي لدولته وحسّن مستوى دخل الفرد والمجتمع وفقاً للوائح القرآنية

تربية الولاة على استشعار الحضور الإلهي أحد أساليب الإمام الهادي الرقابية والمحاسبية

دولة الإمام الهادي جعلت من أولوياتها تأمينَ الاقتصاد وتحسين الوضع المعيشي للمجتمع

جعل الزكاة تحقّق لجميع أفراد المجتمع الأمن والاستقرار والطمأنينة والحماية من جميع المخاطر التي يمكن أن تتهدّد وجودهم وأمنهم وسلامتهم

الحِسْبَةُ ومراقبة الأسواق التجارية وما يرتبط بها من بيع وشراء من أبرز الوظائف الاجتماعية التي تنظّــم الشؤون المدنية في دولة الإمام الهادي

استطاع الإمام الهادي أن يضبط حركة البيع والشراء، وأن يتحكم في الوضع الاقتصادي وبشكل صارم

++++++++++++++++++++++++++

مدخل:

قد يكونُ من المفيد قبلَ الولوج إلى أعماق موضوع هذه الدراسة أن نعرِّجَ وبشكل مختصر على طبيعة الأوضاع العامة في اليمن والعالم الإسْـلَامي في تلك المرحلة الزمنية التي سبقت دخول الإمام الهادي إلى اليمن وتوليه الحكم فيه؛ للاستئناس بالمعطيات التأريخية في تأكيد صحة ما ستذهب الورقة إلى إثباته من حقائق ومعلومات حول موضوعها.

(فاليمن لم تكن ذات أهميّة بالنسبة لعاصمة الدولة العباسية في بغداد؛ نظراً لموقعها الجغرافي البعيد عن عاصمة الدولة، وإنْ كان خلفاء بني العباس ينظرون إلى اليمن وأهله نظرة مملؤة بالشك والحذر والارتياب؛ كونها تمثل من وجهة نظرهم معقل الولاء لبني هاشم وذرية علي بن أبي طالب -عَلَيْـهِ السَّــلَام- منذ فجر الإسْـلَام الأول)، ولعل رد المأمون العباسي على من سأله الإنصاف والعدل بين الولايات التابعة له وهو يحدثه عن معاناة اليمن واليمنيين خير دليل على ذلك، حَيْــثُ قال له: (وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني).

وعلى الرغم من أن دولة بني العباس قد قامت على أنقاض الدولة الأُموية وتحت شعارات دينية، إلاَّ أنها قد استساغت التجربةَ الأُموية في الحكم والاستبداد، فبدأ الحكامُ العباسيون بإحكام قبضتهم على مقاليد الحكم، والبطش بكل من يسعى للثورة ضد انحرافاتهم الفكرية والسياسيّة التي مارسوها بحق الأُمَّـة الإسْـلَامية وكل من ينتمي إليها، حَيْــثُ تشاغلوا (عن هموم الرعية ومطالبها بالترف واللهو، وخصوصاً تلك المناطق البعيدة عن عاصمة دولتهم كاليمن مثلاً، حَيْــثُ كان جُـــــــلُّ اهتمام خلفاء بني العباس بتلك المناطق النائية عنهم يتمحور حول جباية الأموال وجمع الخراج ولو على حساب مصلحة الرعية وقضاياهم الجوهرية).

والمتأملُ لمفردات تأريخ اليمن الإسْـلَامي في ظل الدولة العباسية يدركُ حقيقةَ الانتهاك السافر لحقوق الإنْسَـان وموارده الاقتصادية، حتى فقد المواطن اليمني كُــلّ مقومات العيش الكريم في ظل بني العباس، فهذا الخليفة العباسي هارون الرشيد (149 -193هـ) عندما علم بتمرد أهل تهامة على واليه محمد بن خالد بن برمك يأمر بعزله ويستبدله بمولاه حماد البربري، والذي أمره بالفتك بأهل اليمن والتنكيل بهم قائلاً: (اسمعني أصوات أهل اليمن)، وتشير المصادر التأريخية إلى أن (حمَّاد البربري قد انتهج له سياسة قمعية أعادت إلى أذهان اليمنيين ذكرياتِ معاناتهم أيام بسر بن أرطأة في العهد الأموي)، حَيْــثُ عاملهم ((بالعسف والجبروت وقتل من رؤسائهم جماعة، وشرد جمعاً في البلاد حتى دانوا وأطاعوا بالخراج المعتاد وزيادة عليه)، وبذلك تدهورت أوضاع الناس المعيشية، وضجُّوا من الظلم والاستبداد الذي يمارسُه الوالي العباسي بحقهم، فتوجه وفدٌ من أهل اليمن لملاقاة الخليفة العباسي الرشيد، وخاطبوه (وهو بمكة: نحن نعوذ بالله وبك يا أمير المؤمنين أعزل عنا حمّاداً البربري إنْ كنت تقدر. فقال: لا، ولا كرامة).

وسار بقيّةُ خلفاء الدولة العباسية على منوال هارون الرشيد في تعاملهم مع أهل اليمن بالبطش والتنكيل، وكأن الهدفَ من ذلك تدمير مقومات الحياة وعوامل الازدهار؛ للانتقام من اليمنيين لاحتضانهم العديد من الخارجين على حكمهم من أئمة أهل البيت عليهم السلام، ومما يؤكّــد ذلك ما ذكره العلامة أحمد بن أحمد بن محمد المطاع في تأريخه من أن إسحاق بن العباس والي اليمن وعامل المأمون العباسي قد نكَّل باليمنيين ودمر كُــلّ موارد الاقتصاد اليمني في بعض المناطق، حَيْــثُ (أساء السيرة وعسف الرعية، وظهرت منه أَخْلَاق منكرة غليظة، ونال من أهل اليمن كُــلّ منال، وتعصب عليهم تعصباً لم يفعله أحد قبله، كان لا يسأل أحداً عن نسبه فينسب إلى حمير إلَّا قتله، ولم يترك لهم ذكراً، حتى أمر بقلع الخوخ الحميري مما أسرف به في التحامل عليهم).

وهكذا كانت اليمن تعيش فترة مخاض عسير في انتظار من يخلصها مما لحق بها وبأهلها من ظلم وجور، حتى مَنَّ الله عليهم بالإمام الهادي إلى الحَــقّ يَحيَى بن الحسين الرَّسي؛ لتعيش اليمن مرحلة جديدة من العدل والمساوة والانصاف.

 

الفصل الأول:

المفهوم الاجتماعي للمال في فكر الإمام الهادي

انتهج الإمامُ الهادي إلى الحَــقّ يَحيَى بن الحسين -عَلَيْـهِ السَّــلَام- سياسةً مغايرةً للسائد المألوف في حكم اليمن، حَيْــثُ بدأ بالقضاء على الخلافات القبَليَّة والصراعات البَيْنِيَّة والحروب المستدامة، والتي أسهمت في تدمير اليمن وتمزيق نسيجه الاجتماعي فترة من الزمن، فأصلح بين القبائل وردم هوَّة الخلافات التي كانت تنشأ لأتفه الأسباب، واقتلع جذور الفتن وعوامل الخلاف، ورسّخ في وجدان المجتمع اليمني مفاهيمَ الإخاء والتكافل والتعاون ووحدة الصف، وبعد أن استقرت له الأوضاعُ وانتشر الأمن في أوساط الناس بدأ برسم ملامح دولته المستقبلية والمستقلّة عن الدولة العباسية ونظامها السياسيّ الجائر، وقام ببناء مؤسسات الدولة وتوزيع المهام والدساتير المنبثقة من وحي الخطاب القُــرْآني الخالد وتوجيهات الشرع الحنيف.

 

الإمام الهادي يعالج الجانب الاقتصادي في ظل البرنامج القُــرْآني

ومن أبرز الجوانب التي ركّز عليها الإمام الهادي وهو يدشّنُ عملية الإصلاح والبناء والتطوير لمختلف مرافق الحياة في دولته الناشئة، الجانب الاقتصادي، فالوضعية التي عاشتها اليمن في ظل الدولة العباسية قد أرهقت اليمنيين ودمرت موارهم وإمكاناتهم الاقتصادية، فعَـمَّ الفقر والجوع، وانتشرت الفوضى وقُطَّاع الطرق واللصوص في كُــلّ مكان؛ ولهذا اتخذ الإمام الهادي من إصلاح الوضع الاقتصادي في اليمن أولوية، وتوجَّه للارتقاء بمستوى دخل الفرد من خلال تنفيذ وتطبيق البرنامج القُــرْآني في التعامل مع مفهوم المال ومصارفه ووسائل تنميته وتوزيعه وفق معايير العدالة الاجتماعية التي يتساوى أمامها الناس كلهم.

والمتأملُ لمفردات التراث الفكري الذي خَلَّفَه الإمامُ الهادي -عَلَيْـهِ السَّــلَام- يدرك بأن أغلبها قد توجهت لإصلاح الفرد والمجتمع في مختلف مجلات الحياة المعرفية والسياسيّة والاجتماعية والاقتصادية بشكل أَوْ بآخر، ومن يركز على الجوانب التي تطرق إليها الإمامُ الهادي -عَلَيْـهِ السَّــلَام- في الجوانب المالية ومصادرها كالزكاة والخراج والنذورات وغيرها يدرك بأن الإمامَ الهادي قد وظّفها كلَّها؛ لتحقيق الأمن الاقتصادي وإصلاح الوضع المالي والمعيشي لجميع المستفيدين منها بما يتوافق مع روحية المنهجية القُــرْآنية التي اتخذها منطلقاً لمشروعه التنويري في بناء الدولة وتصحيح المسار العام لفكر الأُمَّـة وثقافتها الإسْـلَامية.

ومن المعلوم أن أهل اليمن قد أدركوا الفرقَ الواضحَ بين سياسة الإمام الهادي -عَلَيْـهِ السَّــلَام- ومنهجيته القُــرْآنية، وبين المنهجية التي انطلقت منها الأنْظمة السياسيّة السابقة في عهدي بني أمية وبني العباس، حَيْــثُ (لم تكن ولاياتُ اليمن الخاضعة لنفوذ دولة الإمام الهادي -عَلَيْـهِ السَّــلَام- مجرد مصدرٍ لتغذية حزينة الدولة بأموال الخراج والضرائب بغضِّ النظر عن حالة الناس وظروف معيشتهم المادية لما كان معهوداً في عهد الدولة العباسية، ولم يكن الهدفُ من جمع تلك الأموال مجرد بناء منظومة طبقية تقتات على حساب الطبقات الكادحة وملاك الأراضي، ولكنها كانت وسيلةً من الوسائل المساعدة في بناء الدولة وتحسين أوضاع المواطن وتوفير مقومات الأمن والاستقرار له).

وإذا كانت الدولةُ العباسية قد انتهجت سياسةً تعسفية في جمع الأموال وجباية الخراج، فإنَّ أغلبَ الولاة التابعين للدولة العباسة قد مارسوا أبشعَ صور الاستغلال والاضطهاد بحق المواطن اليمني في تلك المرحلة، حَيْــثُ ((كانوا يقومون بضرب أصحاب الأملاك وسحبهم على وجوههم وتعليقهم من أيديهم وأرجلهم كي يحصلوا منهم على كُــلّ ما يريدون من الأموال؛ بِحُجَّةِ أنهم يأخذون منهم حَــقّ المسلمين في أموالهم بينما يذهب معظم هذه الأموال إلى جيوبهم وجيوب من عينوهم).

وإذا كان هذا هو حالُ اليمن في ظل الدولة العباسية فإنَّ الإمام الهادي -عَلَيْـهِ السَّــلَام- قد انطلق في تعامله مع مسألة المال ومصادره ووسائل جمعه من منطلق التعاليم الإسْـلَامية، مستهدياً بسيرة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وتعاملاته مع الناس، وهذا ما تجلى بكل وضوح من خلال عهده لولاته في مختلف المناطق اليمنية، حَيْــثُ كان يخاطب أتباعه بقوله: ((ثم انظر في عملك فما كان من الزرع يسقى سيحاً، أَوْ بماء السماء فخذ عشره كاملاً، وما كان من ذلك يسقى بالسواني والدوالي، فخذ نصف عُشره، وكذلك إذا كان العثري بكلام أهل اليمن، وهو الأعذاء بكلام أهل العراق، والمسقي ثلاثة وثلاثون فرقاً وثلث الفرق وهو خمسة أوسق كاملة، فإنْ قصر شيئاً مما يجب فيه العشر أَوْ نصف العشر عن هذه الثلاثة والثلاثين فرقاً وثلث فسلمه إلى صاحبه ولا تأخذ منه عشراً ولا نصف عشر فإنَّ الله تبارك وتعالى لم يوجب في ذلك شيئاً، وانظر إنْ كان لرجل أقل مما سمينا من الكيل شعيراً، أَوْ أقل من الكيل برّاً فسلّم الصنفين جميعاً لصاحبهما ولا تضم أحدهما إلى صاحبه فإنه لا يجب في شيء من ذلك زكاة حتى يبلغ كُــلّ صنف من الأصناف هذه المكيلة المسماة)، والنص على طوله يؤكّــد البُعد الإنْسَـاني في التعامل مع مسألة جمع الأموال ومراعاة ظروف الناس وأحوالهم بما يتوافق مع المعطى الدلالي للخطاب القُــرْآني في تلك السائل، وتوجيه الإمام الهادي -عَلَيْـهِ السَّــلَام- لولاته بالالتزام الدقيق بمعايير جمع الأموال بالكيفية التي نصَّت عليها الآيات القُــرْآنية والأحاديث النبوية الصحيحة قد منح سياسته في إدَارَة الحكم وتصريف شؤون البلاد سمعة حميدة جعلت مختلفَ القبائل اليمنية تتسابق لإعلان البيعة والولاء له، فهو مثال الحاكم العادل في زمن الظلم والجور والطغيان.

 

الإمام الهادي يضعُ آلياتٍ رقابيةً على وُلاته

ولم يكتفِ الإمامُ الهادي -عَلَيْـهِ السَّــلَام- بتعميم تلك الآلية المنهجية لجمع أموال الزكاة والخَرَاج وحسب، ولكنه توجَّه لبناء وتأسيس قيم الإيْمَــان والتقوى في نفوس أتباعه وولاته، ووضع الضوابط التي تحول دون انحراف الإنْسَـان وجشعه وطمعه، حَيْــثُ (ولم يكتف الإمام الهادي بمجرد التطبيق الحرفي لقواعد ومعايير جباية الأموال كما فرضتها الشريعة الإسْـلَامية وحسب، ولكنه جعل من تلك الوظيفة العملية وسيلةً لتفعيل الرقابة الذاتية عن طريق إثارة مفهوم التقوى في نفوس ولاته واستشعار الحضور الإلهي المطلع على الضمائر والسرائر)، وهذا ما نلمحه في قوله: ((فإذا ضممت جميع ما قبلك إنْ شاء الله تعالى من حَــقّ الله تبارك وتعالى فقدّم في ذلك وفي حفظه النية والأمانة، واعلم أن الله تبارك وتعالى المطلع على فعل كُــلّ فاعل، والمجازي على عمل كُــلّ عامل، وذلك قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ )، وبتحقّق القيم الدينية والنزعة الأَخْلَاقية في وجدان من يقوم بجمع تلك الأموال يتحقّق العدل والإنصاف، ويختفي الظلم والتعسف والاستبداد، ويأمن الناسُ على حقوقهم وممتلكاتهم وأموالهم؛ لأنَّ القيم الدينية والرقابة الذاتية لا تسمح لأصحابها بانتهاك حدود الله أَوْ الاعتداء على حقوق الآخرين دون وجه حَــقّ.

لقد أمن الإمام الهادي بأن الالتزام بتعاليم الدين وضوابطه الأَخْلَاقية، ومعاييره في التعاملات والعبادات هي الضمانة الوحيدة لاستقامة الحياة وازدهارها، والوسيلة الوحيدة لنشر العدالة والأمن الرخاء في أوساط المجتمع الإنْسَـاني؛ ولهذا فهو لا يسمح باختراق تلك المنهجية التي ارتضاها دستوراً للتعامل والبناء والتأسيس لدولته الراشدة، ولهذا رفض أن يستجيبَ لميل بعض الناس للتعبير عن شكرهم وامتنانهم لحكمه العادل بتسليم أموال أَكْثَــرَ مما هو مُقَدَّر عليهم بدافع عاطفي شخصي وبشكل اختياري؛ لأنَّه يرى أن ذلك مخالف لمنهجية القُــرْآن الكريم تعاليم الإسْـلَام، هذا ما تؤكّــده تلك الحادثة التأريخية التي تشير إلى أن بعض ولاة الإمام الهادي جاء إليه وقال له: (جُعلت فداك هاهنا قوماً يعطون بطيبِ أنفسِهم أَكْثَــرَ مما يجبُ عليهم فنأخذ منهم ما يصلحهم؟ فقال يحيى بن الحسين: والله لا أصلحتكم بفساد نفسي)، وعندما (أتاه حسن بن علي بن فطيمة، وعبيد الله بن حذيف فقالا له: جُعلنا فداك، إنْ كنت إنما تأخذ من ثلاثة وثلاثين فرقاً وثلث من الطعام عُشراً ونصف عُشره فليس يجتمع من هذا شيء أبداً، فقال لهم يحيى بن الحسين: لا اجتمع من هذا شيء أبداً، والله لو التقت هذه وهذه “يعني السماء والأرض” عليَّ حتى تختلف أضلاعي، ما أخذت غير الحَــقّ أبداً).

 

آلية توزيع الموارد المالية على المجتمع في منهجية الإمام الهادي

وفيما يتعلق بمسألة التوزيع للموارد المالية على أفراد المجتمع (نلمحُ ذلك التوجه المدني لتفعيل وظيفة المال الاجتماعية والتي تهدف إلى تخفيف معاناة الفقراء والمساكين وأصحاب الاحتياجات الخاصة وتحسين أوضاعهم من خلال لفت الأنظار وتسليط الأضواء على هذه الفئات المحرومة)، وهذا ما تجسد بكل وضوح في عهده لولاته، حَيْــثُ يقولُ: (ثم انظر أن تكتبَ أسماء فقراء البلد الذي أنت به ومساكينه، ولا تكتب من أهله إلَّا كُــلّ من لا حيلة له إلى التحرّف، والاستغناء عن ذلك، فإنك إنْ كتبت جميع من يحتاج ومن له حيلة، أضررت بمن لا حيلة له، فآثر أهل المتربة، وأهل المتربة من لا حيلة له)، ومن خلال هذه السياسيّة المالية الحكيمة ندرك (تركيز الإمام الهادي على الطبقة الضعيفة التي تحتاج إلى رعاية من نوع خاص، وهذا لا يعني تجاهله للفقراء والمحتاجين ممن يملكون القدرة على العمل وإنما إرجاؤهم إلى حين وتقديم الضعفاء بحسب أولويتهم في الاستحقاق)، وهذا ما أشار إليه عهد الإمام الهادي -عَلَيْـهِ السَّــلَام- لولاته، حَيْــثُ وجههم بقوله: (وأزح من كانت له حيلة في الرزق حتى يوسع الله علينا وعليه فنصيّر ما أمرنا الله بتصييره إليهم من أموال الله تبارك وتعالى إنْ شاء الله تعالى، فإذا أتيت عدتهم فاعزل لهم ربع جباية بلدهم، ثم اكتب إليَّ بعددهم، وبكل ما جعل الله لهم حتى أكتب إليك برأيي، وكيف تفرقه إنْ شاء الله تعالى).

ولم تقتصر تلك الوظيفة الاجتماعية للمال على رعاية أبناء كُــلّ منطقة من المناطق اليمنية التي كانت تحت حكمه وحسب، ولكنها استوعبت جميعَ العابرين ممن ليسوا من أبناء تلك المناطق ممن يحتاجون إلى رعاية من نوع خاص، حَيْــثُ أكَّد الإمامُ الهادي على ضرورة الإحسان إليهم ورعايتهم بما يكفَلُ لهم سترَ الحال ويدفع عنهم الحاجة إلى السؤال، وهذا ما نجده في ثنايا عهده لولاته، حَيْــثُ خاطبهم بقوله: (وانظر إنْ جاز بك ابن سبيل وشكا إليك حاجة، أن تقويَ أمرَه، وتلمَّ شعثه، وتُجري في جميع أمورك ما يقربك إلى الله تبارك وتعالى، فإنَّ ذلك أنفع لك في الدين والدنيا، والسلام عليك).

وبما أن الزكاة تؤخذُ من أموال الناس كفريضة دينية، فإنَّ الإمامَ الهادي -عَلَيْـهِ السَّــلَام- كان يرى بأنها يجبُ أن تحقّق لجميع أفراد المجتمع الأمن والاستقرار والطمأنينة والحماية من جميع المخاطر التي يمكن أن تتهدّد وجودهم وأمنهم وسلامتهم في الإطار الجغرافي للمكان الذي يخضع لنفوذه، ولهذا رفض الإمام الهادي أن يأخذ من تجار المناطق البعيدة عن حدود دولته أخذ الأموال؛ لأنَّه لا يستطيع أن يوفر لهم الأمن والاستقرار النفسي خارج محيط دولته، وهذا ما صرح به محمد بن سليمان الكوفي بقوله: (كنت أقبض ليحيى بن الحسين زكاة أموال التجار، فيكون في البلد تجاراً غرباء يتجرون ويقيمون الأشهر، فقلت له: جُعلت فداك نأخذ منهم زكاة أموالهم؟ فقال: إنْ أخذنا منهم زكاة أموالهم وجب علينا أن نحوطهم، حَيْــثُ كانوا في بلادنا وغيرها، فلم يأخذ منهم شيئاً).

وهكذا تحولت كُــلّ مصادر المال إلى وسيلةٍ للتحقيق الأمن والاستقرار لكل فرد من أفراد مجتمع دولة الإمام الهادي -عَلَيْـهِ السَّــلَام-، وبذلك تحقّقت الوظيفةُ الاجتماعية للمال من خلال تلك السياسة التي اتخذها الإمامُ الهادي وسيلةً لإصلاح اختلالات المجتمع وتحسين أوضاع الناس، (وعلى ضوء تلك القضية الاجتماعية للمال كانت كُــلّ وحدة إدارية خاضعةً لنفوذ دولة الإمام الهادي تتكفل بحل مشاكلها الداخلية بنفسها وتتولى عمليات تطوير ذاتها بعيداً عن تدخلات المركز (عاصمة الحكم) إلا في الأمور المستعصية أَوْ ما يتعلق بأمن الدولة ككل)، وفي حدود الإمكانات المتاحة.

 

الفصل الثاني:

نظام الحِسْبَـة وتحقيق الأمن الاقتصادي

ينطلق مفهومُ الحِسْبَـة من الواقع العملي لتفعيل حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يحمل معنى الإنكار والزجر، وهذا ما توحي به الدلالة اللغوية للمصطلح، حَيْــثُ وردت الحِسْبَـةُ في اللغة بمعنى الإنكار، (يُقال: احْتَسَبَ -بسكون الحاء – فلان على فلان، أي أنكر عليه قُبحَ عمله، ومنه جاء مفهوم المحتسب)، وعلى هذا أشار الإمام الناصر الأطروش إلى أن (الحِسْبَـةَ هي القيامُ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتفقد أحوال السوق)، وعلى هذا الأساس (كان نظامُ الحِسْبَـة ومراقبة الأسواق التجارية وما يرتبط بها من بيع وشراء من أبرز (الوظائف الاجتماعية التي تنظّــم الشؤون المدنية) في دولة الإمام الهادي إلى الحَــقّ تحت ما يمكن أن نطلق عليه قانون حماية المستهلك).

 

الإمام الهادي يتفقد الأسواق لمراقبة حركة التجارة وتداول العُملة

حيث تشير المصادر التأريخية إلى أن الإمامَ الهادي -عَلَيْـهِ السَّــلَام- كان دائمَ التَّفقد للأسواق وحركة تداول العُملة بنفسه، (حيث كان يقف على أهل كُــلّ بضاعة فيأمرهم بأن لا يغشوا بضائعهم، ويأمرهم بتنقيتها من الغش، وتفصيل ما يبيعون، وإيفاء ما يسمون، فقالوا له: أليس التسعيرُ حراماً؟ فقال: أَوَليس الظلم والغش حراماً؟ قالوا: بلى، قال: فإنما نُهي عن التسعير على أهل الوفاء، وأهل التقوى، فإذا ظهرت الظلامات في البيوع وجب على أولياء الله أن ينهوا عن الفساد كله، ويردوا الحَــقّ إلى مواضعه، ويزيحوا الباطل من مكانه، ويأخذوا على يد الظالم في ظُلمه).

ومن خلال المتابعة المستمرّة لحركة الأسواق وما يدور في فلكها من حراك اقتصادي استطاع الإمام الهادي إلى الحَــقّ -عَلَيْـهِ السَّــلَام- أن يضبط حركة البيع والشراء، وأن يتحكم في الوضع الاقتصادي وبشكل صارم، (وتلك الصرامة في مراقبة الأسواق وما يدور في فلكها من حراك اقتصادي تعكس اهتمام الإمام الهادي بالمستهلك (المواطن) وحرصه على حماية مصالحه من أن تتلاعب بها أهواء التجار وأصحاب الاحتكار، كما تعكس تلك الرغبة الصادقة في أحداث الاستقرار وتحقيق ما يعرف بالأمن الغذائي المرتبط بسلامة المواد الغذائية واستقرار أسعارها، ومحاربة الغش والفساد والاحتكار).

 

إدَارَة الموارد المالية لتحقيق الأمن الاقتصادي على مستوى الفرد والمجتمع

لقد استطاع الإمام الهادي إلى الحَــقّ يَحيَى بن الحسين -عَلَيْـهِ السَّــلَام- أن يدير موارده المالية وبشكل دقيق مكَّنه من تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة التي كان يطمح إلى تحقيقها، وذلك من خلال:

–        اعتماد المنهجية القرآنية كمصدر وحيد للتشريع في إدَارَة العملية الاقتصادية وجوانب الأخرى للدولة.

–        تحقيق الرعاية الشاملة لجميع الأفراد الذين يحكمهم.

–        ضبط العملية التجارية من خلال مراقبة الأسواق وحركة البيع والشراء.

–        حماية المستهلك من خلال متابعة معايير الجودة ومحاربة الغش والاحتكار.

 

 

التوصيات:

ومن أبرز النتائج التي توصلت إليها الورقة ما يلي:

  • ضرورة تسليط الأضواء على الجوانب المشرقة في سيرة الإمام الهادي -عَلَيْـهِ السَّــلَام- وتأريخ دولته الكريمة.
  • العمل على تحويل مفردات السياسة المالية في فكر الإمام الهادي إلى الحَــقّ -عَلَيْـهِ السَّــلَام- إلى برنامج عمل تنفيذي للارتقاء بمستوى السياسة المالية في اليمن وتحديداً في ظل الأوضاع الراهنة.
  • العمل على تحقيق الأمن الاقتصادي والحدّ من التلاعب بالأسعار وأقوات الناس من خلال الاستئناس بالأسس الاستراتيجية التي تعامل بها الإمام الهادي في ضبط الاقتصاد المحلي خلال فترة حكمه لليمن.
  • العمل على إثراء الموضوع وتحويله إلى دراسات أكاديمية منهجية قابلة للتطبيق في مختلف الميادين العملية، وتعميمها كمواد دراسية في مختلف قطاعات التعليم العام والجامعي وبشكل يتوافق مع طبيعة كُــلّ مرحلة.
  • تفعيل نظام الحِسْبَةِ بوسائلَ وأساليبَ تتوافق مع روح العصر ومتطلبات المرحلة لمراقبة الأسواق والتعاملات المالية ومكافحة الاختلالات التي تؤثر سلباً على الوضع الاقتصادي ومصالح العامة.

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com