تقرير : الاتفاق النووي في ميزان الأمن القومي العربي..واشنطن تخوّن الخليج واليمن يدفع ثمن صحوة "الرياض"

صدى المسيرة : خاص 

  • تدخل المنطقة منعطفاً مهماً في ظل تداعيات اتفاق فيينا التاريخي بين طهران والدول الكبرى بشأن الملف النووي للجمهورية الإسلامية الإيرانية، الذي يشكل انتصاراً ديبلوماسيا يفضي إلى انفتاح سياسي واقتصادي، طالما تطلعت إليه إيران منذ اندلاع الثورة الإسلامية 1979، التي جوبهت بمعارضة أمريكية /عربية منذ أيامها الأولى.

ولأن القطيعة الأمريكية الإيرانية كانت هي الطاغية على المشهد السياسي طوال 35 عاماً، فقد رتبت العواصم العربية الحليفة لأمريكا أوراقها على هذا الأساس، ما جعل التوافق الغربي مع إيران بشأن الملف النووي مفاجئاً وصادماً لكثير من هذه الدول، التي وجدت نفسها في خندق واحد مع الكيان الصهيوني، الذي عبرت قياداته عن امتعاض شديد  إزاء الاتفاق ووسمته بالخطيئة التاريخية.

ومما يفاقم الوضع عربياً أن هذا الاتفاق الذي يمنح إيران فرصة التعملق إقليمياً، يأتي في ظل  تردي العلاقات العربية / العربية، وتضعضع الحالة الأمنية لمعظم الدول العربية، التي تعيش حالة انكشاف غير مسبوقة، دفعتها إلى التفكير في إنشاء قوة عربية مشتركة بهدف حماية الأمن القومي العربي، لكن هذه القوة ضلت طريقها إلى اليمن بدلاً من الاتجاه نحو إسرائيل أو إيران!

على رأس العواصم العربية تبدو الرياض الأكثر خسارة والأشد حسرة ، فهي ما كانت تتوقع هذه الخيانة- إن جاز التعبير- من دولة حليفة جداً كالولايات المتحدة الأمريكية، متناسية أن السياسات الدولية تقوم على المصالح أولاً وآخراً. وضاعف من صدمتها أن دولة خليجية وهي سلطنة عمان قامت بدور العراب في هذا الاتفاق، ثم أن مصر وعدد من العواصم الخليجية سارعت إلى الترحيب الحذر، وتهنئة طهران ، بغض النظر عن مشاعر المملكة وعاهلها الجديد.

وبرغم أن الرئيس الأميركي باراك اوباما، قد عمل على طمئنة الرياض وأخواتها قبل وبعد إبرام الاتفاق، إلا أن ذلك لم يبدد مخاوف عواصم النفط الخليجية من مخاطر تمدد النفوذ الإيراني بالمنطقة.

بل إن المبالغة في تقدير الخطر الإيراني، كان من ضمن العوامل التي دفعت الرياض ومن تحالف معها إلى العدوان على اليمن بزعم حماية الأمن القومي العربي، والحؤول دون خروج اليمن من الوصاية السعودية الأمريكية، وإعادتها بقوة السلاح إلى (بيت الطاعة)!

وإذ عملت الرياض وبدعم أمريكي، بهدف إخضاع اليمن لنفوذها قبل أن تتوصل طهران إلى الاتفاق التاريخي الذي ثابرت الأخيرة بهدف التوصل إليه نحو 12عاماً، فإن الوضع السياسي والأمني للمملكة قبل العدوان على اليمن كان أفضل حالاً مما هو عليه الحال بعد العدوان الغاشم والفاشل على اليمن، وهذا يعني أن صحوة الرياض المتأخرة- إن جاز التعبير- انطوت على غباء وسوء تقدير جعلها أكثر انكشافاً أمام القوى الإقليمية الأخرى وعلى رأسها إيران.

لقد أفرطت الرياض في العداء لطهران مستفيدة من حالة القطيعة بين الغرب وإيران، بل وانزلقت السعودية إلى فخ الفتنة الطائفية، ورفع لواء “السنة” في وجه شيعة المنطقة بمن في ذلك حزب الله اللبناني المقاوم للكيان الصهيوني، وحتى عندما أرادت أن تصفي حسابها مع النظام السوري فقد ركبت موجة الثورة السورية ( ضد العلويين!)، رغم أن الرياض أجهضت ثورة البحرين، وألتفت على الثورة اليمنية، ودعمت الثورة المضادة في مصر.

ويفرض السؤال نفسه: لماذا تخشى السعودية ومن معها من التقارب الأمريكي الإيراني، ما دامت إيران قد تخلت عن امتلاك السلاح النووي وفقاً للاتفاق؟

وبغض النظر عن حقيقة الموقف الإيراني بشأن السلاح النووي، فالمؤكد أن القوة العسكرية الإيرانية التي تتطور بشكل مضطرد، لا تنحصر في قدرتها النووية القائمة أو المحتملة. ولولا ذلك لأمكن لإسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة توجيه ضربه عسكرية لطهران، دون اللجوء إلى الحلول السلمية.

بالإضافة، فإن الحفاظ على القوة العسكرية، والاستفادة من التهدئة في إطار إنعاش الاقتصاد الإيراني، سيمنح طهران فرصة أكبر في الانفتاح على العالم، وتعزيز موقع ومكانة حلفائها في المنطقة، وبالجملة يصبح دورها الإقليمي أكثر تأثيرا من ذي قبل.

وإذا عرفنا أن السعودية عملت على الدوام في خط معاكس ومضاد للنفوذ الإيراني، فمن الطبيعي أن يغدو المكسب الإيراني خسارة سعودية بامتياز، خصوصا أن الأخيرة رهنت أوراقها بيد الحليف الأمريكي، والذي ظهر بدوره كمن ينفض بيده ملفات الشرق الأوسط، مفسحاً للقوى الإقليمية هامش أكبر من الدور والتأثير.

بل أن المقابلة الصحفية المطولة التي أجراها مؤخرا الصحافي الامريكي توماس فريدمان مع الرئيس الأمريكي، انطوت على إهانة بالغة للأداء السياسي للحكام العرب، (فبينما كان الرئيس اوباما يمتدح ايران كدولة حضارية تملك تاريخا عريقا، وقاعدة علمية وتعليمية صلبة، وشعبا راقيا، كان انتقاديا بشكل لافت لـ “حلفائه” العرب السنة، حيث اتهمهم، او بالأحرى حكامهم، بالديكتاتورية والفساد، والتخلف، وانتهاك حقوق الانسان، تلميحا وتصريحا، والعزلة عن شعوبهم ومطالبهم العادلة)!

وبالطبع فإن الاتفاق في مضامينه لا يحمل تفسيرا للمخاوف التي شغلت حيزا كبيرا من تناولات الصحافة العربية والعالمية، ولذا فقد أنصبت التحليلات بحثا عن كشف تفاصيل “صفقة سرية” يقال أن إيران أبرمتها مع الغرب على حساب القضايا العربية، وتقضي الصفقة بأن تتنازل إيران عن برنامجها النووي مقابل إطلاق يدها أكثر في المنطقة.

وبدلاً من التعاطي الواقعي مع الاتفاق، والاستفادة من إيجابياته، والتعلم من دروسه، فقد سيطرت على أذهان حكام الخليج هواجس مفادها أن المنطقة بعيد الاتفاق على أبواب فوضى يراد لها أن تضرب استقرار وأمن دول الخليج لحساب إيران والغرب معاً، فكانت هذه المخاوف على رأس العوامل التي دفعت الرياض إلى تشكيل التحالف العربي الذي بدا متناقضاً مع المهمة التي تشكل لأجلها، حين قاد عدواناً عسكرياً على دولة تشكل ركناً أساسياً للعروبة وللأمن القومي العربي.

مما لا شك فيه أن كل معاهدة أو اتفاقية دولية هي محصلة تفاهمات على مصالح إما ثنائية أو جماعية، فلا شك أن ثمة مصلحة متبادلة بين الغرب وإيران في هذا الاتفاق. وإذا كانت المحصلة تصب في خانة المصلحة الإيرانية على حساب المصالح العربية، فالسؤال ايضاً: لماذا خانت واشنطن عواصم النفط العربي واتجهت إلى التقارب مع طهران؟

والجواب: ربما أن المصلحة الأميركية اقتضت التخفف من الاعتماد على النفط العربي في منطقة مكتظة بالصراع وبالتكالب الدولي عليها، وهو ما يعني التخفف أيضاً عن مسئولية حماية أمن دول النفط الخليجية، فأمريكا لم تعد مستعدة للحرب نيابة عن أي كان،(وقد ينطبق هذا الأمر على اسرائيل في المستقبل القريب).

معروف أيضاً أن السياسة الدولية تقوم على مبدأ “لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل مصالح دائمة”، والتغير في الموقف الأمريكي ليس نتاج الحب أو الكراهية لهذا الطرف أو ذاك، بقدر ما هو مرتبط بالإستراتيجية التي اعتمدها الرئيس أوباما على أنقاض سياسة المحافظين الجدد، التي خلفت أزمة اقتصادية للولايات المتحدة استهلكت جهدا كبيرا من أوباما وفريقه للحد من تفاقمها.

تقوم السياسة الجديدة للبيت الأبيض على عدم التورط في نزاعات مسلحة خارجية، واللجوء إلى الطرق الدبلوماسية لمواجهة المشكلات والأزمات الدولية، وعندما اندفع أوباما مؤيداً للربيع العربي، وانساق في الأخير إلى المشاركة في العملية العسكرية على ليبيا، وكاد أن يتورط في سوريا، وجد نفسه يتصرف على عكس السياسة التي رسمها في بدء توليه رئاسة الولايات المتحدة، ما اضطره إلى التراجع، واللجوء مجددا للحلول السلمية.

ساعده على ذلك أن طهران بانتخاب الرئيس الجديد حسن روحاني، عبرت عن رغبة في التقارب مع العالم بعيدا عن العزلة التي رافقت السياسة المتشددة للرئيس السابق أحمدي نجاد. وإذ تلقف أوباما المستجدات الإيرانية، فقد وجد في الموقف الروسي/ الصيني عامل ضغط فرض عليه تفهم حاجة العالم إلى توازن دولي بعيداً عن الأحادية القطبية التي حكمت المجتمع الدولي أكثر من عشرين عاماً.

قبل ذلك كان من الواضح أن الولايات المتحدة قد باشرت مرحلة الانكفاء الأمريكي، بإعلان البيت الأبيض العزم على سحب كامل القوّات الأميركية من العراق بحلول نهاية عام 2011، ومن أفغانستان بحلول نهاية عام 2014.

من وقتها بدأت طهران تعدّ نفسها لمَلْء الفراغ الناجم عن هذا الانكفاء، وقامت بتوثيق علاقاتها بدول عالمية وإقليمية بدءا بروسيا والصين والهند، وباكستان، مرورا  بالعراق، وسوريا وغيرها، ما جعل الجمهورية الإسلامية الإيرانية حجر الأساس في “التسوية الكبرى” التي كانت تمشي على قدم وساق ، بينما العرب بلا مشروع يضمن لهم الشراكة في التسوية، أو يحميهم من تداعياتها على الأقل.

ويطل سؤال ثالث: إذا كانت إيران قد عملت للاستفادة من المتغيرات الدولية، فما الذي يمنع العرب من استغلال نفس المتغيرات، وتحويل الخسارة الفادحة إلى ربح مؤكد؟

على المدى المنظور، يبدو الرهان على المشروع العروبي ضرباً من الخيال، غير أنه لا توجد بدائل أفضل حتى وإن سلمنا بالواقعية السياسية التي تكاد تخنق خياراتنا وتأتي على البقية الباقية من الحلم العربي.

بيد العرب أوراق كثيرة، فبالإضافة إلى النفط والقدرات المالية، يظل الموقع الاستراتيجي للعالم العربي ( قلب العالم) بمثابة الرصيد الذي لا ينضب، وكذلك بالإمكان توظيف العوامل المشتركة بين الدول العربية، والتقريب بين وجهات النظر، بالاعتماد على وسائل غير تقليدية تستجيب للمتغيرات الدراماتيكية التي تعيشها المنطقة، وتعد القضايا العربية محورا رئيساً في تقلباتها.

لا يصح أن يكون التقارب الإيراني مع الغرب مثار هلع للعرب، بل يجب أن يشكل تحديا جديداً، وفرصة لإعادة النظر في التحالفات العربية مع دول العالم، وقبل ذلك محطة مراجعة لتقييم العلاقات العربية/ العربية، وإحياء المشروع العروبي الذي غمرته رمال التباينات، وتضاد المصالح، و نتائج الهروب من مواجهة الاستحقاقات الكبرى، كالقضية الفلسطينية، والوحدة العربية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان.

ثم إنه في “فقه السياسة” ليس هناك ما يمنع العمل باتجاه خلق حالة من التقارب والتفاهم العربي/ الإيراني، والتعاون المشترك في معالجة كثير من قضايا الخلاف، والملفات الصراعية، التي باتت تتغذى وتغذي” الطائفية المقيتة” كعنوان لصراع عبثي يراد له أن يستمر في منطقة عانت الويلات وهي تنتظر اللحظة المناسبة للنهوض الحضاري من جديد.

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com