التكفيريون وقميص عفاش

إبراهيم محمد الهمداني

يكتسِبُ التأريخُ أهميةً كبيرةً في حياة الأجيال المتعاقبة، ليس لأنه يُعيدُ ارتباطَهم بأسلافهم في سياق العاطفة أَوْ الولاء والامتنان، ولكن أهميةَ التأريخ تتعدى المستوى الشخصي، لتصلَ إلى ما هو أكبر وأكثر شمولًا، فالتأريخُ بما هو عصارةُ التجارب الإنْسَانية وخُلاصة المواقف والرؤى والأفكار والتصورات، التي تجاوزت المستوى الذاتي الفردي، إلى المستوى الكلي الجمعي، الأمر الذي يجعلُه بيئةً خصبةً لبناء ونمو المرتكزات الأساسية في شخصية الفرد، والمؤَسِّسة لتكوينه الثقافي والمعرفي والمحددة لتوجُّهاته ومواقفه ورُؤاه، من خلال طبيعة الأثر الذي تتركه في أعماقه بعد عملية التلقّي، وبذلك تتجاوز المادةُ التأريخية سمةَ الجمود الناتجة عن طبيعة حَرْفية التوثيق المجرد للأحداث، إلى فضاءات الدينامية والحركة والحيوية الناتجة عن طبيعة التلقي الإيجابي المتفاعِل مع مجريات الأحداث صعودًا وهبوطًا، ضمن مسارات الثنائيات المتناقضة التي يقوم عليها السرد التأريخي، وترتفعُ قيمةُ التأريخ -بوصفه نتاجا إنْسَانيًّا- من مرتبة المتعة أَوْ المنفعة -في أحسن الأحوال- المتشكلة في إطار من العصبية الضيقة، أَوْ الاحتجاج على الآخر؛ بهدف إثبات خطأه أَوْ وصمه بالعار والعيب، لتصلَ إلى مرتبة أرقى، وهي مرتبةُ التفاعُل والتلقي الإيجابي، الذي يمكن صاحبَه من إعادة صياغة حاضره وصنع مستقبله وفق رؤية استلهمت الماضي وتشبَّعت بخُلاصاته وتجاربه، وبذلك رأت الواقع كما هو ـوليس كما تحلم أن يكون- ورسمت موقعها ودورها فيه، وحددت مستقبلها من خلال انطلاقها من حيث توقف الآخرون (الأسلاف)، الأمر الذي وفّر لها الكثيرَ من الجُهد والمال والوقت، وجنّبها مخاطرَ التكرار ومزالق الاجترار.

ذلك هو ما نتمنى أن نكون عليه جميعًا في قراءتنا للماضي وصياغتنا للحاضر وتصورنا للمستقبل، بما يحقق سعادتنا ويضمن بقاءَنا من خلال ما حققناه من منجزات وتطور ورقي، وما حظينا به من سلام ومحبة وعدل وإخاء وتعاوُن، وما تغلبنا عليه من الشرور والمخاطر والصعاب وما قدّمناه من تضحيات في سبيل سعادة المجتمع الإنْسَاني عامة ومجتمعاتنا خَاصَّة.

وعلى أساس من الطرح السابق نحاولُ هنا قِراءة ما شهدته الساحة السياسية اليمنية مؤخرًا من أحداث هزت كيان الإنْسَان وبنيان المجتمع، وهي الشهيرة بأحداث الثاني من ديسمبر 2017م التي لعب فيها علي عبدالله صالح الدور المركزي، إذ لا يمكن أن نقول إنه مَثّل دورَ البطولة، إلا في حدود ما تقتضيه تقنياتُ السرد ومواضعات النقد، وأما وفق مفاهيم الواقع والأخلاق فلا توجدُ أدنى بطولة ولا ذرةُ شرَف في ما قام به، وبعيدًا عن الأسباب الحقيقية أَوْ المزعومة وتداعياتها الحاصلة أَوْ الوهمية، فما يمكن قوله هنا هو أن علي عبدالله صالح بعد وقوفه إلى جانب أبناء الشعب اليمني وصموده ضد العدوان -على أساس توصيف الظاهر- على مدار ما يقرب من ثلاث سنوات، خرج في الثاني من ديسمبر ليعلن انقلابَه على الشعب والشراكة السياسية؛ ليتحول إلى الموقف النقيض تمامًا، فاتحًا ذراعَيه للعدوان ومسقطًا جرائمَه ومجازِرَه بحق الشعب، وداعيًا المجاهدين من أبناء الجيش واللجان الشعبية إلى ترك الجبهات فورًا والعودة إلى منازلهم، ومحرِّضًا على الاقتتال الداخلي بتأليب أَنْصَـاره ومواليه ضد مكون أَنْصَـار الله، الّذين حمّلهم تبعات العدوان، وأدانهم بكل جرائمه، بينما أعلن براءة العدوان من كُلّ جُرم وذنب بحق اليمنيين الأبرياء، زاعمًا أن أَنْصَـار الله هم السبب الرئيس وراء كُلّ ما حصل، وما يحصل وسيحصل من تداعيات، مجددًا الدعوة لأَنْصَـاره في كُلّ المؤسسات المَدنية والعسكرية بأن يرفضوا أوامرَ القيادات من أَنْصَـار الله، وأن يهبوا جميعًا في كُلّ مكان لاجتثاث أَنْصَـار الله؛ حفاظًا على ثورتهم وجمهوريتهم.

كان هذا الخطابُ صاعقًا لجميع اليمنيين ومرعبًا لهم في نفس الوقت، خَاصَّة وأنه ترافق مع عاصفة أعمال عدائية وتخريبية وقتل واعتقال للمارة والمواطنين الأبرياء قام بها عفاش ومليشياته في بعض مديريات أمانة العاصمة وبعض المحافظات، ورغم كُلّ الوساطات التي بذلت لاحتواء الموقف ومحاولات التهدئة، إلا أنها باءت بالفشل؛ نظرًا لتمسُّك علي عبدالله صالح بموقفه، وركونه على الدعم العسكري والمالي السعودي الأمريكي الإماراتي الذي وعدوه به، وثقته بوعودهم بإمداده من خلال الإنزال الجوي بآلاف الجنود من النخبة، وبمساندته بالطيران، وقد صدّقوا في الأخيرة وأخلفوه في الأولى، ورغم ذلك كانت كُلّ التقديرات تشير إلى نجاح مخططه واقتراب سيطرته، نظرًا لاعتبارات كثيرة لا يمكن حصرها في هذا السياق، لكن القدرة الإلهية تدخلت بالعَون والمدد وخيبت كُلّ التوقعات وأسقطت كُلّ الرهانات، وانتهى هذا التمرد بقتل زعيمه وعدد من قياداته ومعاونيه.

بعد ذلك أعلنت وزارة الداخلية سيطرتَها على الوضع، ودعا رئيسُ الجمهورية، صالح الصماد، في خطابٍ له، إلى التهدئة واستتباب الامن، وطمأن شرفاءَ حزب المؤتمر ممَّن لم يحملوا السلاح، بأنهم في أمان، شاكرًا موقفَهم المشرِّفَ في رفض دعوة الاقتتال، ورغم ظاهرة الحُزن التي عمت المجتمع اليمني بكل أطيافه ومكوناته، نتيجةَ الخاتمة السيئة وعدم الثبات والتوفيق، وخيانة دماء الضحايا الأبرياء وتضحيات الشهداء، ومما زاد المؤتمريين الشرفاءَ إحراجًا هو مسارَعة دول العدوان إلى مباركة خطوته الانقلابية الانتقامية تلك، وإعلانها تقديم الدعم الكامل له ولمليشياته في حربهم وقتلهم الشعب اليمني من الداخل.

وعند هذا الحد يمكن القول إن جميعَ الأصوات المتعصبة لعفاش هدأت على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي فلم يعد لدى أي متعصب حجة أَوْ مبرر يمكنه أن يتأوَّلَ به جريمةَ الخيانة الكبرى التي قام بها صالح، والغريب في الأمر أن الجناحَ التكفيري في الجماعات الإسلامية المتشددة، كالإصْلَاح والسلفيين والوهابيين، قد تبنَّوا حملة الدفاع عن علي عبدالله صالح بعد مقتله، وتبرير مواقفه الخيانية واجتراح بطولات وهمية له، وتبنوا أَيْضاً الدعوةَ إلى الخروج في مظاهرات لأجله، والانتفاض على أَنْصَـار الله والشعب انتقامًا له، جاعلين من قضية مقتله مشجبًا يعلقون عليه آمالَهم بالانتقام من الشعب الذي طالما خانوه وقتلوه وسرقوا ثرواتِه ودمروا مقدراتِه وكل بناه واغتالوا أجياله وتآمروا عليه على كافة المستويات، مجدِّدين الدعوةَ إلى الانتقام وإثارة النعرات الحزبية والمذهبية، والتحريض المستمر على إحداث حالة من الفوضى والقتل والدّمار بين أبناء الشعب بما يخدُمُ مصالحَ وأطماعَ العدوان، ويحقِّقُ رغباتِ وأهواءَ أولئك العملاء والخونة، ويتيحُ لهم العودةَ لاستلام دفة الحكم في اليمن؛ ظنًّا منهم أن تشبثَهم بقميص عفاش وانتحالَهم موقف المطالبين بالعدل سيمنحُهم ما حصل عليه معاوية بن أبي سفيان من مُلك وسلطة حين جعل قميصَ عثمان سُــلَّـمًا لبلوغ ذلك، غيرَ عابئ بكارثة شَقِّ الصفِّ وتمزيقِ وَحدةِ المسلمين.

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com