القضية الفلسطينية في الإعــلام العربي* (1-2)

إعداد/ هاشم أحمد شرف الدين

أتوجَّهُ بالشكر الجزيل لجامعة اقرأ ومنظمي هذه الندوة التي تأتي بالتواكب مع المخاطر التي تمرّ بها القضية الفلسطينية مؤخّراً في أعقاب إعلان الرئيس الأمريكي ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس واعتبار القدس عاصمةً لإسرائيل، وهي الخطوة التي تستهدفُ تصفيةَ القضية الفلسطينية وإنهائها، إرضاءً لرغبة العدو الصهيوني، وتحقيقاً لمصالحه، وذلك باستهداف القدس والمسجد الأقصى، وحق عودة اللاجئين، واستمرار حصار غزة، ومصادرة الأراضي، وتذويب الهُوية العربية الفلسطينية.

ويُشَرِّفُني أن أُسهِمَ في هذه الندوة عبر محاولة لإحياء القضية الفلسطينية وحضورها في الإعْــلَام العربي، مع التنويه ابتداء أن قضية بهذا الحجم بحاجة إلى مؤتمرات يشارك بها عددٌ من كبار الإعْــلَاميين والمسئولين في وسائل الإعْــلَام في العالم العربي والإسْلَامي.

ويمكن أن نبدأَ هذه الاطلالة على المشهد الإعْــلَامي العربي في تناوله للقضية الفلسطينية من خلال الشهيد القائد السيد حسين بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه، حيث يقول:

“إن أغلب الدول العربية والإسْلَامية تبدو عاجزة فعلاً عن أن تواجه اليهود حتى في المجال الإعْــلَامي وحده، فهي تملك العديد من محطات التلفزيون والقنوات الفضائية، لكن لم تستطع أن تصنع رأياً عالمياً مضاداً لإسرائيل، أَوْ أن تصنع رأياً عالمياً متعاطفاً مع فلسطين، أَوْ حتى أن تصنع رأياً عالمياً عربياً يحمل عقدة العداء لإسرائيل، هل استطاع مثقفو هذه الأُمَّـة العربية، والإعْــلَام العربي تغذية العداء داخل النصارى لليهود؟ لم يحصل كُلّ ذلك، وهم في نفس الوقت يقولون أن اليهود هم الذين يصنعون الرأي العالمي داخل بلدان أوروبا وأمريكا وآسيا وغيرها، هم الذين يصنعون الرأي العام العالمي داخل تلك البلدان. أين جاءت أموال العرب؟ أين جاءت محطاتهم التلفزيونية؟ أين جاءت قنواتهم الفضائية؟ أين صحفهم؟ أين الصحفيون؟ المئات من الصحفيين منهم؟ أين مراكزهم الإسْلَامية؟ أين وأين؟. كلهم عجزوا أمام اليهود”.

ويضيف:

“الإعْــلَام العربي حاول أن يعزز خلق الهزيمة النفسية داخل المسلمين، هو يعرض مظاهر عما يعمله الإسرائيليون، لكنه لا يتحدث عما يثير المسلمين تجاه اليهود أَوْ ضد إسرائيل، إنه يعملُ على ترسيخ الشعور بالهزيمة النفسية لدى المسلمين أمام اليهود، لترى إسرائيل ثم لا ترى أي حل، ماذا يحصل لديك؟. تبرد أعصابك، ويموت ضميرك، وتتحول إلى يائس. فالقرآن عمل على أن ينهض بالأمة حتى لا تصل إلى هذه الحال، واللهُ سبحانه وتعالى يريد منا أن نربّي أنفسنا، وأن نربي أولادنا على أن يحملوا عداوة لأعداء الله لليهود والنصارى؛ لأن اليهود والنصارى يحملون لنا اشد العداء ابتداءً، يقول تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}”.

وقبل أن نشيرَ إلى أهم أسباب تراجع القضية الفلسطينية في الإعْــلَام العربي أُلفت الانتباهَ سريعاً إلى الإعْــلَام الفلسطيني نفسه، وموقعه في الإعْــلَام العربي.

يقولُ الصحفيُّ الفلسطيني عبدالباري عطوان: إن المقال عن فلسطين لا يثيرُ اهتماماً واسعاً للقراء، وهو الصحفي الفلسطيني الذي قضى حياتَه في الاهتمام بشأن شعبه، فما بالك بغيره من الإعْــلَاميين غير الفلسطينيين؟!، هذه حقيقة مرة، لكن، لا يمكن إنكارها، ولا يعود السبب في ذلك إلى فقدان القضية مشروعيتها، ولكن؛ لأن الذين يتحدثون باسمها ضيّعوا البوصلة، ودخلوا في متاهاتٍ أبعدت فلسطين عن الناس، وعن وسائل الإعْــلَام.

ثمة قنوات تلفزيونية فلسطينية مثل قناة فلسطين، والأقصى، وفلسطين اليوم، ومعاً، والقدس، والفلسطينية.

هل تعرفونها؟ هل سبق لكم مشاهدة أيٍّ منها؟ أكاد أجزم أن الكثير من العرب والمسلمين لا يعرفونها أَوْ لا يشاهدونها، بينما يعلم الجميع الآن عن وجود قناة إسرائيلية على القمر الاصطناعي النايلسات!.

ولا أكونُ مجحفاً إنْ قلتَ إنَّ الإعْــلَامَ الفلسطيني المقاوم لم يستطع توظيفَ واستثمار الحدث كما استثمره الإعْــلَام اللبناني المقاوم، بدءاً من قراءة الموقف، وإبداع الشعار السياسي المتجدد حسب الوضع الميداني، إلى المشاهد التلفزيونية التي استعرضت قوة المقاومة في الميدان وعجز الجيش الصهيوني وقيادته، بالإضَافَة لنقل حالة الرعب والذعر والخوف للقطعان الصهيونية في معظم مستعمرات شمال فلسطين المحتلة بشكل مباشر وخَاصَّـة بعد إطلاق الرشقات الصاروخية العابرة للمستعمرات.

كما لم يكن بقدرة واقتدار الإعْــلَام الوطني اليمني المقاوم أَيْضاً في إدارة المعركة العسكرية في مواجهة العدوان العالمي منذ مارس 2016م، والذي ينجح حتى الآن في إدارة المعركة الإعْــلَامية التي استنهضت كَثيراً من أبناء الشعب اليمني والعربي لمواجهة العدوان، بحكمة وحنكة تجاوزت التضليل الإعْــلَامي (السعوصهيوأمريكي) وأبواقه التابعة من الإعْــلَام العربي المهرول للتطبيع.

ولهذا فإنه تقعُ على الإعْــلَام الفلسطيني ال مقاوم بشكل خاص مسئولية النهوض بدور حيوي واستراتيجي ليكون الأجدرَ بحمل لواء القضية الفلسطينية إعْــلَامياً، وهذا ما يحتاج لإعادة النظر في كثير من الأمور والإمكانيات المادية والتقنية والمهنية لاستكمال شروط التكامل ما بين الدور الإعْــلَامي والعسكري والصمود الشعبي.

كما أن عليه الوقوفَ بوجه وسائل إعْــلَام عربية وفلسطينية كثيرة تشارك الصهيونية في التشويه المبرمج لمقومات القضية الفلسطينية، والذي يتجلى من خلال انتقاص حقوق الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية التي مسختها وسائل الإعْــلَام الصهيونية والعربية تلك، إلى حد محق الوعي الفلسطيني والعربي والإسْلَامي بما يتعلق بجغرافيا وتأريخ فلسطين، وإلى حَدِّ تلقيم العرب والمسلمين وجهة النظر الصهيونية التي لا تعترف أصلاً بالوجود الفلسطيني ولا بحدود لدولة إسرائيل المزعومة.

ليس مهماً الاستفاضةُ في هذا الجانب؛ كي لا أُتَّهَمَ بالتنصل عن المسئولية كإعْــلَامي عربي، وإلقاء تهمة التقصير أَوْ تحميل الفلسطينيين مهمة المواجهة الإعْــلَامية بمفردهم، فاليهودُ كما يقول الشهيد القائد السيد حسين بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه “يصلون إلى كُلّ بيت، التثقيف المغلوط يصل إلى كُلّ بيت، عملاء إسرائيل يبثون الثقافة اليهودية إلى كُلّ أسرة، إلى كُلّ مسجد، إلى كُلّ زاوية، وإسرائيل لم تعد تلك البقعة التي تهيمن عليها داخل فلسطين.. الثقافة، الرأي العام، الهيمنة الإعْــلَامية، الهيمنة الثقافية أَصْبَحت بأيدي اليهود، فنحن بحاجة إلى أن نواجه اليهود، وليس فقط إسرائيل، اليهود تأثيرهم يصل إلى كُلّ مكان. والعقائد الباطلة هي تأريخياً من صنع اليهود، العقائد الباطلة التي اندست داخل المسلمين هي تأريخياً من صنع من اندسّوا من داخل اليهود”.

والآن دعوني أتساءل: ما الذي قدّمه الإعْــلَام العربي للإعْــلَام الفلسطيني؟

هل شاهدتم يَوماً قناة تلفزيونية عربية ترتبط ببث مباشر مع قناة تلفزيونية فلسطينية؟

كم مرة شاهدتم ضيوفا فلسطينيين في وسائل الإعْــلَام العربية؟.

هناك نظريةٌ تدرس في الأكاديميات الإعْــلَامية اسمها “ترتيب الأولويات” أَوْ “وضع الأجندة”، فما الذي رتّبه الإعْــلَام العربي من أولويات لدى الجمهور العربي؟ وأين موقع القضية الفلسطينية من هذه الأجندة، أَوْ ما هو ترتيبها؟.

واقع الحال يقول إن الإعْــلَامَ العربيَّ بشأن القضية الفلسطينية قد انقسم إلى قسمَين:

القسمُ الأول هو الإعْــلَام المطبع مع الكيان الصهيوني، ويمثله غالبية الإعْــلَام العربي الرسمي والمحسوب عليه، والتي ظلت مع كُلّ التوجهات الأمريكية، يجمعها وبلا استثناءٍ الانحيازُ لإسرائيل والانتقاص من الحقوق الفلسطينية، العزوف تَمَاماً عن الترحيب بالمقاومة، حيث ظل الإعْــلَام العربي الرسمي يعتبر المقاومة عنفاً، ومنظماتها تضم عناصر من المتشددين وأحيانا الإرْهَابيين.

صدر قرارُ ترامب، ولكن ولأيام عديدة واصلت وسائل الإعْــلَام العربية والتلفزيونية بَثَّ برامجها المعتادة، مكتفيًة بما يرد على الشريط الإخباري أسفل الشاشة، فيصابُ المشاهد العربي بالدهشة وهو يقلب القنوات التلفزيونية، فيجد قناة تبث برنامجًا عن الطبخ والمأكولات الشهية، ثم يعيد نقر “الريموت كنترول” للتأكد من أن ما يراه بأُمّ عينه حقيقةً، فيشاهد برنامجاً تحضيرياً لانتخاب ملكة جمال، ثم يعيد الكرة على قناة أُخْرَى فيرى – بالصدفة – أجساد أطفال يمنيين أَوْ فلسطينيين قد تحولت إلى أشلاء أَوْ محروقة، أَوْ تدمع عيونهم من حرقة الألم، ورغم كُلّ ذلك لا تهتم تلك الوسائل لا بالعدوان على اليمن ولا على فلسطين.

أما القسمُ الثاني في المقابل هو الإعْــلَام العربي الإسْلَامي المقاوم، الذي نجح إلى حَدٍّ ما في إجهاض محاولات تهوين المقاومة، وفي قطع الطريق على ضغوط تركيع الأُمَّـة واستسلامها، كما أنه حقق إنجازات مهمة أُخْرَى على مستوى القضية وعلى مستوى الأُمَّـة، ومنها أنه نجح في تعرية الاحتلال وفضح ممارساته، وتحقيق درجة عالية من الوحدة الشعورية في العالم العربي، بل والإسْلَامي أَيْضاً تجاه القضية الفلسطينية.

كما نجح الإعْــلَام أَيْضاً في رفع وتيرة التضامُن مع الشعب الفلسطيني، الذي عبّرت عنه الجماهيرُ العربية قدر استطاعتها في مختلف الأقطار، وهو ما سَبَّبَ إحراجاً للسياسات الرسمية من ناحية ولجماعات التطبيع التي ضمت عناصر من المهزومين سياسيا وحضارياً.

مع الاعتراف بوجود بعض الثغرات تمثّلت بعدم التنسيق بين وسائل الإعْــلَام المقاوم، وعدم قراءة الموقف الميداني، وإبداع صناعة الحدث لخدمة الأهداف السياسية المقاومة، ولذلك فقد ظلت القضية الفلسطينية تحضر وتغيب في الإعْــلَام العربي المقاوم، ولكن دون جهد مُخَطّط.

وبالحديث عن أسباب تراجع القضية الفلسطينية في الإعْــلَام العربي يمكن القول إن قرار ترامب قد أتى في ظل واقع عربي منقسم، تنشغل فيه كُلّ دولةٍ بشئونها الداخلية، مما أثر على طبيعة تناول وسائل الإعْــلَام العربية للقرار الأمريكي، ووضع كَثيراً منها على محك الانتماء للقضايا العربية المركزية التي تتصدرها القضية الفلسطينية.

فقد كشف القرار الأمريكي عدة متغيرات في أسلوب التعاطي مع القضية الفلسطينية من قبل العرب، فالقضية التي طالما نشأت عليها أجيال عدة بأنها القضية المركزية للعرب والمسلمين، ويجب العمل على حلها لم تعد كذلك، وصار التطبيع على المكشوف دون حياء أَوْ خجل من قبل الأنظمة الخليجية وفي مقدمتها السعودي والإمَارَاتي.

تماماً كما فعل العدوانُ الغاشم على اليمن والحصار الجائر، والذي كشف عن تغير فاضح وللأسوأ من قبل الأنظمة العربية، التي لم تكتف بالسكوت عن حق الشعب العربي في فلسطين، وإنما أَصْبَحت شريكة في العدوان على الشعوب العربية والإسْلَامية، وداعمة له بصورة علنية، مع تباين هذا الدعم من نظام لآخر ومن دولة لأُخْرَى.

كما أن تهافُتَ الإخوان المسلمين على السلطة في مصر مثلاً بعد ثورات الربيع العربي قد أَدَّى إلى تراجُعٍ في حضور القضية الفلسطينية إعْــلَامياً، لا سيما الموقف من قضية التطبيع والاتفاقيات والمعاهدات المبرمة مع الكيان الصهيوني، فبعد أن كانوا قبل الربيع العربي يزعمون قيادة الفعاليات المطالبة بوقف التطبيع وإلغاء المعاهدات، وجدوا أنفسهم أمام معادلة صعبة فرضت عليهم – كما ورد في تبريراتهم – احترام معاهدات دولية طالما جاهروا برفضها ومعاداتها.

وكما فعل الصراع العربي العربي فقد أَدَّى الصراع السياسي الفلسطيني إلى تأثير سلبي على التعاطي الإعْــلَامي العربي على القضية الفلسطينية.

اليوم تعمد الأنظمة العربية العميلة إلى تقديم نفسها الوصية على الشعوب العربية والإسْلَامية والمالك الوحيد للبت في القضايا المركزية للأمة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ومحاولة احتكار الحديث بشأنها، فنجد وسائل إعْــلَام عربية تلائم نفسها مع الحالة الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه تزخرف إطارها الخارجي وتُزيّنه بشيء من الفسطنة كإبراز العلَم الفلسطيني.

كما تنفذ حصاراً إعْــلَامياً لتهميش أي إعْــلَامي عربي يكتب أَوْ يتحدث عن فلسطين بكل تفاصيلها ومقوماتها، وتسعى جاهدة لعزل الإعْــلَام المقاوم ضمن مسعاها الخبيث لعزل الحركات المقاومة ومن يدعمها أَوْ يقف إلى جانبها، وتقوم بتغييب مظاهرات وفعاليات الشعوب العربية المتضامنة مع القضية الفلسطينية.

علينا الإقرار بأن الجانب السياسي المطبع “لإسرائيل” له أثر بارز في ضعف التعاطي الإعْــلَامي العربي مع القضية الفلسطينية، ليس بصرف الاهتمامات ووضع أجندات جديدة للجمهور العربي والمسلم فقط، بل أَيْضاً بتقديم حركات المقاومة على أنها حركات إرْهَابية مسلحة، وبعد عقود طويلة من اهتمام العرب والمسلمين بالقضية الفلسطينية واعتزازهم بالمقاومة ورموزها، أَصْبَح الإعْــلَام الخليجي يتسابق في تشويه صورة المقاومة – وعلى رأسها حزب الله وحماس – وشيطنتها، من خلال إلصاق التهم بها.

اليوم تمارس تلك الأنظمة العميلة عبر إعْــلَامها أَكْبَر عملية تضليل بشأن القضية الفلسطينية، بالارتكاز على الاعتراف بوجود إسرائيل والتعايش مع احتلالها للأرض الفلسطينية وتشريدها لغالبية الشعب الفلسطيني.

*ورقة عمل مقدمة لندوة “القدس في قلوبنا” – جامعة إقرأ ـ صنعاء

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com