من وحي الجبهات.. (3 – والأخيرة)

حمود الأهنومي

في صباح اليوم التالي انطلق بنا طقمٌ يبارِز الطائرات المحلِّقة سُرْعة في خطٍّ ترابي يشق وسط البرية، ويلزم أحدَنا أن ينتبه لدفع السيارة له إلى أطراف تلك الأشجار فتتناول شيئاً من جسده على حين موجة سرعة، حتى إذَا وصلنا إلى الزاوية بين ميدي وحرض كان هناك الخطُّ الحدودي الترابي هو ما يسترنا عن مواقع العدو في القنبور، والموسم، وكانت ميدي إلى الغرب منا.

 

ملائكة طُهراً.. وأسود قتالاً

ترجَّلنا عن السيارة وأبعدناها عنا، لنتحرَّك تحت سياط الحرارة المندفعة بحماسة هؤلاء الأبطال وبين مواقعهم ومتارسهم الأمامية، فعايدنا أولئك الأبطال هناك، وعبّرنا عن شعورنا بالامتنان والتقدير لتضحياتهم وجهادهم، والتمسنا البركة والخير من حضورنا معهم، وقلنا لهم بأن المجتمعَ اليمني ينظر إليهم كأبطالٍ عظماء وقديسين من أفضل البشر، استطاعوا أن يناجوا الله من محاريبهم الجهادية المقدَّسة في هذه اللوحة العبادية الرائعة والفاتنة.

وجدنا هناك مجاهدين من أماكنَ مختلِفة، من مديريات الساحل التهامي ومن الجبال، كلُّهم ألسنة شكر على ما منَّ اللهُ به عليهم من فرصة الجهاد مع الله وفي سبيله وتحت قيادة أبي جبريل سَلَامُ اللهِ عَلَيْهِ، وجدناهم بالفعل ملائكة مطمئنين يمشون على الأرض طهرا ونقاء وصلاحا وذكرا، ووجدناهم أسودا ضارية متأهبين لكل إشارة، وقد أعدوا من السلاح والمتارس والخنادق والممرات والتمويهات ما أعجز عقول العدو ومرتزقته إن كانت لهم عقول.

ما بقي للعدو هو الطيران، ومع ذلك فقد تعايش هؤلاء المجاهدون هنا مع هذا السلاح، وطالما أفلتوا من غائلاته، وقد يصطفي الله منهم من يختار شهداء إلى جواره.

عُدنا شرقاً إلى الشمال باتجاه الحثيرة، والتقينا بعدد من المجاهدين وعلى رأسهم السيد أبو عبدالله جاري العزيز، وآخرون من أبطال مديريتنا الشرفاء، ومررنا على مكان الشهداء الأربعة من أبناء مديريتنا، الذين قضوا شهداء في اليوم السابق لزيارتنا، وهم الشهيد..، وإذا بمكان استشهادهم قد أُحْرِق تماما، ترحَّمْنا عليهم، وقلنا: هنيئا لمن جاور الكريم ولحق بالرب الكريم الرحيم.

 

والمقيل.. في الحثيرة

بات حديث المجاهدين عن زملائهم الشهداء أمراً اعتيادياً وطبيعيًّا، وحدثاً يوميًّا متكرراً، وكلٌّ منهم مستعدٌّ للقاء الله في أية لحظة، ومع ذلك فهم يتمازحون، ويتحدَّثون، ويتحرَّكون كما لو أنه لم يحدث شيء مكروه في ذلك اليوم، وكأنه لم يغادِرْهم إلى الله أحدُ أحبَّتهم، وهنا لا يملك أحدُنا إلا أن يقول: سبحان الله مَنْ رَبَط جأشَ هؤلاء، وثبَّتَ قلوبَهم، ورفَعَ معنوياتهم.

صلينا العصرين، وتناولنا الغداء في الموقع الذي صادَفَنا فيه وقتُ الغداء، لننتقل بسرعة منه إلى مترس آخر، ثم هكذا حتى وصلنا إلى الحثيرة، لنجد أصحابَنا الذين أحببنا زيارتهم هناك، وتناولنا معهم هناك غصونَ القات الطري، وأطراف الحديث الجهادي، وكيف أن الله مكَّن رجالَه المؤمنين من إهانة نظام آل سعود العميل ليحرِّروا بسلاحِهم البسيط والخفيف بعضَ الأراضي المحتلة مثل الحثيرة وغيرها.

ذكرتُ لهم مستفيدا منهم بأن علينا أن نفهم طبيعة المعركة، ومن يديرها في جبهة العدوان، وتذاكرنا شرف التصدي لهذا العدو الحقير، وشرف المشاركة في هزيمته، التصدي الذي يسطرونه يوميا بأروع البطولات، وأقوى الثبات وأعلى الشموخ، إنها لمواجهةٌ فاصلةٌ لها ما بعدها، وإن الله قد هيَّأ لليمنيين الأَحْــرَار أن يحوزوا هذا الشرَفَ نيابة عن الأُمَّـة الإسْلَامية جمعاء.

 

جريحٌ.. يقضي نقاهتَه في الجبهة الساخنة!

ومن عجيبِ ما رأيتُ أن أحدَ المجاهدين الجرحى من بيت جهلان من مديريتنا الغراء كان لسانَ القوم ومتحدِّثَهم، جُرِح في ميدي، ولم ينتظِر حتى يُشْفَى جرحه، بل ذهب يرابِط حاملا يده الجريحة التي لم يستطع أن يصافحنا بها إلا لمسا، وهذا نموذج يكاد يكون عاما لمعظم الجرحى.

قلت: وهل يعي هذا العدو أية مصيبة تورَّط فيها، ورجالنا هؤلاء الهائمون بالجبهات على هذا النحو الفريد، الذين لا يأنسون إلا لحياة الكرامة والمواجهة حتى وإن أصيبوا فإن نفوسهم لا تطيب ولا ترضى ولا تسعد إلا بالبقاء في الجبهة.

 

(روح الله).. مدد القوم

في الطريق وجدنا (روح الله) أحد الشباب المجاهدين من بني مطر، سائق سيارة الماء (البوزة)، الذي ما إن رأى (دهشوش) حتى صاح بكل صدق ومحبة (دهشوش)، بل صادف اللقاء به غياباً للطيران فإذا به يقْفِز من سيارته ليُسَلِّم على بشوش الوجه (دهشوش) وكأنه أبٌ له أَوْ أم.

يا للروعة.. كيف صنعت المعركةُ هذه الروابطَ المتينة التي لا تجدها حتى بين الأبِ وابنِه، والأخ وأخيه، وتقبَّل الله الشهيدَ أبا حرب الملصي فقد ذكر أن المجاهد أَكْثَـر اهتَماماً وعناية ومحبة لزميله من الأب لأبيه، والأخ لأخيه، وتبادل دهشوش وروح الله النكتة الطريفة، والتعليقة المؤدَّبة.

 

الجميع.. خلية نحل

في الجبهة تلك لاحظت ترتُّبَ العمل ووجودَ قيادةٍ وسيطرة وتحكُّم بجميع مفاصل الجبهة، في الأقسام والجبهات والمتارس، وتبدو الأمور في أحسن أمورها ترتيبا وتنظيما وتوزيعا، وأداءً ومهمات؛ سألت أبا أحمد عن السبب، فقال: الجميع هنا يعيش في رحاب المولى تبارك وتعالى، ويشعر بحقارة الدنيا، وضآلة من يطلب حظوظ النفس، ولذا فالجميع يطلب رضوان الله ويبتغي عفوه وقبوله، ومن هنا لا تظهر الاختلافات الضارة، ويتحرك الجميع كخلية نحل كلٌّ له دورُه المرسوم، وعمله المعلوم.

ومن غير شك فهناك تطوُّر وتقدُّم في ذلك؛ حيث طوال الفترة الماضية كانت تعقد لهم الدوراتُ التأهيلية والتدريبية المواكِبة على قدم وساق، لتأهيلهم في مختلف الأعمال والأقسام بالشكل الضامن للنصر بإذن الله تعالى، ولرفع مستواهم الإداري والفني والقتالي والعسكري بشكلٍ دائم، لا كلل فيه ولا ملل.

وطالما لقيتُ في صنعاء وغيرِها مجاهدين من جبهة حرض والحثيرة وميدي، تلقَّوا دوراتٍ وورشَ عملٍ مختلفةٍ وفي مجالاتٍ عديدة، وهذا ما يُطَمْئِنُ أن وضعَ جبهتِنا ورجالِنا يتطوَّرُ وينتظِم يوما بعد آخر، بخلاف وضع جبهة العدو ومقاتليه فإنه يتدهور يوما بعد آخر، وينتثر أمرهم من يوم إلى آخر.

 

رجالُ الحرب.. وأسودُ السلم المختبئون في ملابس نسائهم

أظهرَتْ هذه المعركةُ معادِنَ الأَحْــرَار من الرجال عنْ مَن سواهم، تسألُ عن قائدِ هذا المربَّع أَوْ ذاك فإذا به من الرِّجال الذين كانوا لا يُؤْبَهُ لهم مجتمعياً، لكنهم استطاعوا أن يشقُّوا طريقَهم في مضمارِ العزة والكرامة، وإذا بهم يقودون أقوى معارك الصمود، في الوقت الذي سقط فيه آخَرون طالما ملأوا أيامَ السِّلم ضجيجاً وصخَباً وفتلاً لعضلاتهم وقوتهم، وإذا بهم وبأفرادهم في هذه المعركة يختبئون في ملابس نسائهم، لهذا أقولُ: إن أيَّةَ أسرةٍ أَوْ قبيلةٍ أَوْ قريةٍ أَوْ مدينةٍ لا تتشرَّف بشرف المشاركة في هذه الملحمة الأسطورية فهي ناقصة الشرف، فاقدة الكرامة، لا عزة لديها ولا نخوة.

ماذا عسى أولئك الذين ليس لهم جهد واضح في مواجهة هذا العدوان أن يقولوا أمام أجيالهم حين يسترجع الناسُ تأريخَ عزتهم فيسأل الولدُ أباه: في أية معركة كنتَ يا أبي؟ وما هي جبهتك التي شاركْتَ فيها؟ وما هو العملُ والدورُ الذي قمت به في مواجهة الغزاة المحتلين؟

في أرض العزة والكرامة حيث تنال منها سياط القنابل، ونار الصواريخ، وتضيق عليها الطائرات، وتصيخ الأسماعَ مدافعُها العملاقة.. تعلو بك معنوياتُ المجاهدين شأوا بعيدا، وتفتح لك آفاقا واسعة، هناك تسمع المجاهدين وهم يتعجَّلون يومَ يطوفون على بيتِ الله، وقد تحرَّر من دنس عملاء اليهود والنصارى، وتحليلاتُهم لا تستثني سقوط البيت الأبيض في أيديهم، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على الهمة العالية والأفق الواسع والنفسية العالية التي تقف خلف هذا الصمود والانتصار.

 

مرتزقة.. و(يتحاقرون)

في صبيحة اليوم التالي لوصولِنا إلى تلك الجبهة.. كان هناك شخصٌ في الإشارة يحثُّ المقاتلين قائلاً: (لماذا لا تلبُّون حاجة السودانيين من الموت في التبة الفلانية؟)، فقيل: هذا صوتُ القائد يحث مجاهديه على اقتحام تبة في أقصى شمال صحراء ميدي كان المرتزقة السودانيون لا يزالون يتشبثون بها بعد أن تلقوا هزائم نكراء طوال الفترة الماضية.

وفي صباح اليوم الثالث سمعْنا الإشارة تخبِر أن العدو قد اندحر من أماكنَ عديدةٍ في ميدي، وأن معنوياتهم في انهيار، فكان ما سمعناه في اليوم الأول من حَثٍّ قد آتى أُكُله في اليوم التالي، وهكذا تأتي النتائجُ العظيمةُ بحسب الهمم الكبار، فالهمة العالية تحقق المستحيلات، وليس الصعاب فقط.

جديرٌ بالذكر أن العدوَّ السعوديّ الأمريكي كان قد شكَّك في مرتزقته اليمنيين واتهمهم بالتواطؤ والتآمر والجبن لاستنزافه؛ لهذا جلب الآلاف من مرتزقة السودان الذين شراهم بثمن بخس لينقذوا بعضا من طموحاته المتهالكة والمنهارة.

وفي آخرِ شعبان المنصرم، نفَّذ السودانيون هجوماً كاسحاً بأعدادٍ مهولة، وبعتادٍ كبير، وصادف أن هاجموا مُرَبَّعاً في صحراء ميدي كان كثيرٌ من أفراده يقضون صياماً فاتهم في العام الماضي قبل دخول رمضان هذا العام.

استطاع المرتزقة السودانيون اختراقَ ذلك المربع، واشتعلت قنوات العدوان أخباراً باحتلال ميدي ومزارع نسيم، لكن ما إن توغلوا قليلاً حتى تلقاهم الخط الدفاعي الثاني، الذي أوقف زحفَهم، وتحرَّكت المربَّعات المجاورة بالضغط عليهم من خلال وحدات القَّناصة ومضادِّ الدروع، فقتلوا العشرات منهم، وتحركت المديريات المجاورة للجبهة برفد الجبهات في لمح البصر، وكان ضغط الخط الدفاعي الثاني، وضغط المربعات الجانبية لذلك المربع كفيلاً بإعاقة تموضع السودانيين، بل وفي إرباكهم، واصطيادهم في حقول ألغام، حوَّلتهم وآلياتِهم إلى أشلاء وقِطَع ممزَّقة ومتناثِرة، ولم يصل مجاهدو ذلك المربع ويفطروا إلا بالتنكيل بأَعْدَاء الله الجنجويد والمرتزقة المجلوبين من كُلّ حدب وصوب.

والجميع رأى ذلك المصوِّر البطل ربيع الميسري (استشهد لاحقاً) في الإعلام الحربي وهو يشيرُ إلى عدة وعتاد السودانيين عن قُرب، ويبشِّر بالتنكيل بهم عن قريب، وبالفعل ما وصل المقاتلون والأرفاد الأُخْـرَى إلى المعركة إلا وقد تم قتل وجرح المئات منهم، تركت جثَثَ قتلاهم تملأ فضاء تلك الصحراء نتانة ودناءة.

تركت جثث المرتزقة السودانيون تملأ ذلك الفضاء، وليس هناك من قريب ولا من بعيد كلَّف نفسه بجمعهم ودفنهم، غير المجاهدين الذين واروهم بالتراب دفنا لهم مع عارهم الذي جلبوه على أنفسهم في الدنيا والآخرة في تلك الصحراء.

المضحك أن المرتزقة المحليين قد فرحوا فرحاً كبيراً بهزيمة المرتزقة السوادنيين واتصلت تلفوناتهم (الوزيز) بالشكر للمجاهدين اليمنيين أنهم (طيبوا نفوسهم) في السوادنيين الذين كانوا قد أظهروا الكِبْرَ عليهم، قلت: قاتلكم الله جميعاً، جميعكم مرتزقة وأَعْدَاء لنا، ومع ذلك تتمايزون، أيكم أرفعُ دركة في نار العار؟!

 

مرتزقة سوادنيون لم تغنهم (طلاسمهم)

وُجِدَ في جثث كثير منهم (طلاسم) عليها خطوط وأشكال وهيئات من كتب الشعوذة، وفيها يطلبون نجاتهم ممن سموهم (الحوثة الرافضة)، غير أنهم وجدوا أن (كل تميمة لا تنفع) أمام بأس الله القوي الجبار الذي منحه أولياءه المؤمنين الأَحْــرَار.

والسؤالُ الذي يطرَحُ نفسَه على دعاة التوحيد من وعاظ الوهابية الذين قتلوا الأمم من المسلمين بذريعة أنهم مشركون، ومشعوِذون، كيف يقبلون بهؤلاء المشركين معهم يدافعون عن (توحيدهم)، كيف قبلوا بأن يقاتلوا على أرضهم، ودفاعاً عن الحرمين كما زعموا؟!

سؤالٌ وجيهٌ، ولكنه يحمل من الغباء أَيْضاً ما يَحمِل؛ لأن السعوديّين الذين يعتقدون شِرْك هؤلاء وبدعيَّتَهم، قد جوَّزوا الاستعانةَ بالمشركين، وباليهود والنصارى أيضاً، وبالتالي فهم يعتقدون جوازَ الاستعانة بالمشرك، وهؤلاء السودانيون من أرخص المشركين لديهم، وسيّان عندهم حياتهم وموتهم.

 

في ساحل ميدي

قمنا بزيارة جبهة ساحل ميدي، وسرّنا ما وجدنا عليه القوم من الاستعدادات المذهلة، والترتيبات التي لا تخطر على بال في مواجهة أية محاولة اختراق بحرية من هناك، هناك من الإعدادات ما أوقعت العدوان في حيص بيص من أمره، ولم يجرؤ على القرب من هذا الساحل؛ لأنهم علموا أنه سيكون جهنم الأُخْـرَى التي تلتهمهم وما يأفكون.

على طول ذلك الساحل وحتى اللحية يرابط المجاهدون من محافظة حجة، مررنا على بعضهم وسلَّمنا عليهم سريعا، وكانت سيارتنا بيضاء، لا توارينا عن عين الطيران الوقح، ولكن بيدنا إشارة تخبرنا عن تحليق الطيران، وكنا على استعداد بترك السيارة بعيداً كلما داهمنا خطر، كان المجاهدون يخرجون إلينا من أماكن لا تخطر على بال أحد، وإذا ب الأرض القفرة في لحظة تصبح مأهولة بشكل سريع، فنسلم عليهم سريعا وننطلق إلى غيرهم.

 

لا يريد الحديث عن السياسة

في ليلة الجمعة استضافنا أحد المجاهدين في مديرية عبس، وبادر ابن خالتي الأستاذ محمد علي المهلا بتوزيعنا ورفقتي لخطبة الجمعة على بعض المساجد هناك، وكان عليَّ أن أذهَبَ إلى جامع دار الحسي على طريق الجر، وهو جامعٌ كبير، يخطب فيه (مطوِّع) قيل لي بأنه لم يسبق له أن تحدَّثَ عن العدوان ومواجهته، وقد شكى كثيرٌ من رواد المسجد أمْرَه، ويبدو أن التحالم هو ما حجَزَ المسؤولين هناك عن عزله واستبداله بغيره.

ما إن علوتُ المنبر وأكملت ديباجة الخطبة، وولجت إلى موضوع العدوان، حتى قام شخصٌ كأنه ملدوغ من حية، يعترض عليَّ ويهذرم بكلامٍ لم أدر ما قال، وكأنه كان لا يريد سماعَ كلام في السياسة على حد زعم الكثير، ويريدنا أن نتحدَّثَ عن الغيبة والنميمة فقط، في وقت يأخذ منا العدوان كُلّ شيء، وكان اعتراضُه ذاك حافزاً للحديث عن العدوان بشكل أَكْبَـر تفصيلاً، وكأنه فتح الشهية للحديث عن ذلك من جديد.

أكملنا الصلاة، وقد غُص المسجد بالمصلين، وإذا بجماعات من عقال المدينة، يتحلقون بي ويترجونني ومرافقي ابن الخالة محمد المهلا أن لا نمُسَّ هذا المعترض بسوء؛ لأنه كما قالوا مجنون، وقد رفع القلم عنه، فطمأنَّاهم خيراً، لكنهم كرَّروا رجاءَهم ذلك، فقلت لهم: حتى ولو كان ممَّن يجري القلم عليه، فسوف لن نحاسبَه، ولن نهبطَ إلى هذا المستوى الذي تظنون، وغاية ما في الأمر أن ننصحَه، بأنه قد لغى في خطبة الجمعة، وأنه إن كان مؤيداً للعدوان فقد لغى في إيمانه، ودينه، ووطنه.

قلت لمرافقي: يبدو أنه مواطن مستثار، وقد أعيت الأحداث وجهته وبصيرته، ولو كان من المنافقين المرتبطين بالعدوان لما جاهر بذلك الشكل السطحي.

 

مع مشرف المديريات

التقيت بمشرف مديريات الساحل، المجاهد العظيم إبراهيم المداني، فرأيت منه رجلاً كاملاً في عقله، ورزانته، وعلمه، ومعرفته، ووعيه، وحسن إدارته، وليس غريبا على رجل أن يكون بذلك المستوى الجهادي، وأخوه القائد الشهيد أبو طه المداني رحمه الله، وأخوه الآخر أبو حسين المداني حفظه الله ونصره.

جلست معه في مقيل وهو في معالجة قضيةٍ من القضايا التي كانت مثارة آنذاك، فرأيت منه حسن إدَارَة، وتبيّن لي طيبة أبناء تهامة وكرمُهم ووفاؤهم، ووراثتهم لصداقات الآباء، بما طمأنني أن ظهر الجبهة ظهرٌ محمي بالرجال الطيبين، كما تبيَّن لي أن كثيراً من المسؤولين الحزبيين هناك على وعيٍ بأن قواعد اللعبة السياسية والحزبية قد تغيّرت؛ ولذا كُلّ منهم يضع رجله في وطاء مستقبل آخر، وكل منهم يحجز مكانه في قطاره الجديد، وإن كان ذلك على خفية واستتار.

 

في الحديدة ومع أمنها

كان علينا أن نغادر أولئك الطيبين إلى مدينة الحديدة ومحافظتها، وبها مجاهدون كُثْرٌ ممن نعرفهم، فأعجبني التدقيق في نقاطها الأمنية، وأعجبني ازدحام الناس في هذه المدينة من أهلها، ومن غير أهلها، جاؤوا للنزهة والسباحة رغم حرارة الصيف المتوهجة، ورغم حرارة تصريحات دول العدوان الفقاعية حول مهاجمتها.

نزلنا فندقا من فنادقها المتوسِّطة، ونحن متوشِّحون لأسلحتنا، فأوسعَنَا مالكُه أَوْ مديرُه من الترحيب والثناء والتعامل اللطيف ما أخجلنا، ظنا منه أننا مجاهدون، فقلنا: رضي الله عن رجال الله في الميدان، ولطف بنا معهم.

هناك التقينا صباح اليوم التالي بالمجاهدين، وخضنا في قصص هذه المدينة الجميلة والطيبة، وكيف أحكم رجال الله قبضتهم الأمنية والعسكرية على المنطقة، وما يسَّر الله به من فتوحاتٍ عظيمة، انتهت بالقبض على كثير من الخلايا التكفيرية القاعدية والداعشية، ومنافقي العدوان.

 

الله يتدخَّل بتدبيره

من تلك القصص أن رجالَ أمنٍ تحرَّكوا من صنعاء، ومن مدينة الحديدة إلى في باجل، للقبض على زعيم القاعدة في المنطقة الغربية الشمالية كاملة، بعد عملية ترصد جيدة، لكنه عند وصولهم انسلّ من مقره ذاك من بابٍ خلفي له، وأفلت من أيديهم، ولكن عناية الله كانت حاضرة، حيث ما إن ابتعد هذا الزعيم القاعدي ونائبُه قليلا عن المقر حتى رأيا طقما من اللجان الشعبية، فظنا أنهم يلاحقونهما، وهم لا يعرفونهما، وليس لديهم معلومات عنهما، فبادراهم بإطلاق النار، فرد عليهما أصحاب الطقم حالا وأردوهما قتيلين، ولما أبلغوا عنهما إذَا بهما المطلوبان بذاتهما، ووجدوا في ذلك المقر كنزاً من المعلومات الأمنية والترتيبات، أفاد منها الأمن شيئاً كثيراً.

هذه حالة من عدد كبير من الحالات المشابهة التي تتدخل فيها العناية الإلهية وتساعد رجال الأمن في الحفاظ على أمن المجتمع، واستقراره النفسي، حين لم يقصر رجال الأمن في واجباتهم فإن الله تدخل معهم للتسديد والإعانة والتدبير.

أَوْضَاع الحديدة رائعة ومطمئنة، وقبضة رجال الله المجاهدين هناك للوضع الأمني والعسكري مطمئنة، بل ومبشرة، وهناك عملية بناء مستمرة للكادر العسكري والأمني، وأبناء الحديدة أنفسهم أثبتوا أنهم من أفضل المجاهدين الذين يثبتون في الجبهات بشكل عجيب.

وتجولنا في بعض مواقع التدريب في المحافظة، وإذا بنا نجد عملا رائعا، وجهودا استثنائية، ودورات تأهيلية وتدريبية مستمرة، والجيد فيها أن هناك إشراكا رائعا لأبناء المدينة والمحافظة في المساهمة الفاعلة في الدفاع عن البلد، وفي الحفاظ على الأمن، وأن هناك استجابة كبيرة جِدًّا منهم.

 

التحولات الكبيرة قادمة

مكثنا نتجول في تلك المواقع ورأينا من ثبات المجاهدين وحملِهم لقضية الجهاد ما طمأننا أن التحولات التأريخية قادمة لا محالة، وأن اليمن بهؤلاء العظماء باتت أصلب من الحديد، الذي يتكسر عليه مؤامرات الأَعْدَاء والخونة، بشكل أسكت الطامعين، وقضى على آمال المتربصين، ولله أمر يريد أن يمضيه، وما علينا سوى التسليم له، فبيده الأمرُ كلُّه، والله المستعان، وعليه التكلان.

 

 

 

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com