الجريحُ المجاهد علاء الحملي: شكرتُ الله أن وفّقني وامتن عليَّ بقبول بعض جسمي ولحمي وعظمي خالصاً له وجهاداً في سبيله

لجراحهم كلام

الجريحُ المجاهد علاء الحملي:

دمعت عيناي وأنا أرفعُ يدي إلى الله حامداً وشاكراً على أن وفّقني وامتن عليَّ بقبول بعض جسمي ولحمي وعظمي خالصاً له وجهاداً في سبيله

استقبلتني أمي قائلة: واللهِ لو ذهبنا كلنا قطعةً قطعةً من أجل ديننا ووطننا وكرامتنا

لن أنسى ما حييتُ كم كانت لحظات إصابتي لذيذةً وأنا استغفِرُ الله وأسبحه

مقدمة:

حين تبوحُ الجروح، فحديثها هو الشجون بعينه..

حديثٌ تصدقه دماءٌ سقت الأرض، وبَوْحٌ تتلوه أوجاعُ أرَّقت الليالي، وشهادات ترتلها إعاقاتٌ شاقت وَأشقت الجسد..

هنا الجروح قصص، ميدانها الجبهات، وأحداثها الالتحامات والاقتحامات، وأجواؤها كُلّ التضاريس والمناخات، وزمانها منذ بدئت بالعدوان والحصار إلى أن تنتهيَ منهما بالانتصار، ومكانها – على/في/تحت – كُلّ شبر من أرضهم ولتر مِن بحرهم وحيّز من سمائهم، أما أبطالُها فهم هم، وما أدراك من/ما هم؟؟؟

هم ليسوا ملائكةً نزلت من السماء، ولا أساطيرَ انبعثت من غُباراتِ القرون.. هم ببساطة أناسٌ منّا، وبشرٌ مثلُنا، هم فتيةٌ/شبابٌ/رجالٌ/كهولٌ يعيشون بيننا الحياتَين، حياة ما بعد الولادة وحياة ما بعد الشهادة..

هم من أقاربنا من جيراننا من قبيلتنا، من محافظاتنا، من وطننا من يمننا..

هم من غير ما شروط نفروا مِن تلقائهم خفافاً وثقالاً إلى القتال، واستنفروا في سبيل الله النفوسَ والأموال، ذلك لما وطأ الغزاة أرضهم واستهدف البغاة دينهم وكرامتهم، دعاهم اللهُ فاستجابوا، وناداهم الوطنُ فلبوا..

هذي المساحة المضرّجة بتباريح الجسد، يفردسُها كلامُ الكرام العظام من جرحى أبطال جيشنا ولجاننا الذين تسنى لنا شرَفُ لقائهم واستنطاق معنوياتهم، وتوثيق جانبهم من حكاية الانتصار اليمني المستمر بعون الله وتأييده ورعايته على هجمة العدوان والحصار الأَمريكية السعودية التي لما تتوقف..

(نص مقابلة الجريح: علاء الحملي)

حين تبدأ بالكتابة لا تشعُرُ بأنك بحاجة للاستماع إلى مسجل الصوت (التوثيق)؛ لأنك ما تزال حافظاً كُلّ ما فصّله وجمّله.

فالحديثُ مع صقور المعارك الجرحى مدهش، فلا تستطيع أن تغادرَك حكاياتُ نزفِهم قطرةً قطرةً ولحظة لحظة، فحديثهم ليس عابراً للذاكرة، ولا يتجاوز النسيان.

فتى الثمانية عشَرَ ربيعاً الجريح، علاء الحملي، منذ اتصلت به (صدى المسيرة) لتنسيق موعد لقاء، أدهشتنا روحيتُه البشوشة المقبلة على الحياة، وكان صوته من سمّاعة التلفون مفعماً بالحيوية.

عند التجهيز للتسجيل شرع الحملي يتمتم منشداً لزامل (……..) وكأنه يوطئ للقاءِ أريحية تزيحُ مقامَ التهيب والرسمية بيننا، فأمطرنا بدعاباته التي انتزعتنا إلى صلب الحديث بلا تريُّث، فسألته: هلا حكيت لي عنك منذ كم وكيف التحقت بالمسيرة القرآنية؟ تحركت للجبهة؟ حدثت إصابتك؟ وَردة فعلك وأسرتك؟ وحياتك بعدها؟

فتكلم بوقار: قبل سنة كنتُ بالصف الثالث الإعدادي وكنت أقضي معظمَ أوقات الإجازة الصيفية طالباً في مركَز بدر العلمي عند الشهيد الدكتور العلامة المرتضى المحطوري رحمه الله، وهناك درسنا الثقافةَ القرآنية الصحيحة، ثقافة الاستشهاد، تعلمنا أن نكونَ عبيداً لله وحدَه، وأنْ لا نقبَلَ بالظلم ولا الخنوع، كما كنا نشارك في حراسة المركز وتأمينه (أمنيات)، وكان لنا الشرفُ في المشاركة في المسيرات والتصعيد الثوري حتى حلول ٢١ سبتمبر، والتحقنا بالعديد من الدورات الثقافية، إلى أن هجم العدوان الأَمريكي السعودي علينا في ليلة ٢٦ مارس من العام ٢٠١٥م، فلم تعد تسعُنا بيوتُنا للقعودَ، ونحن نصبح ونمسي على جرائم قصف الطيران الأَمريكي السعودي التي لَم تستثنِ حياً في صنعاء واستهدفت كُلَّ شيء في اليمن، وشاهدنا بأُمّ أعيننا المجازر الشنيعة وأشلاء الأطفال والنساء الذين كانوا آمنين في بيوتهم.

ثم انطلقت إلى إحدى جبهات التصدّي للغزاة ومنافقيهم، شهران مضت ونحن في المحراب المقدّس، عِشنا مع الله وجاهدنا في سبيله، خُضت فيهما جنباً إلى جنب مع رفاق الجهاد سلسلةً من المعارك الشرسة، وكنا نلمس فيها عياناً بياناً شواهدَ تأييدِ الله ورعايته وتسديده.

وبعد ثلاثةَ ليالٍ متواصلة وفي الظهيرة كنتُ ومجموعة من المجاهدين على متن طقم عسكري نمشّط إحدى التباب الاستراتيجية لإكمال الإنجاز الذي حققناه بفضل الله وأدى لاندحار العدو منها، وإذا بقذيفة آر بي جي تصيبُنا بشكل مباشر، استشهد على الفور اثنان من رفاقي وأصيبت ساقاي إصابةً بليغةً وعميقة لم أفقد معها وعيي، وأتذكّرُ كُلّ تفاصيل إسعافي ونقلي للمشفى الذي استغرق ساعاتٍ لبُعد المسافة ووعورة الطريق وتحليق وغارات الطيران.

قاطعته الصحيفة: أيُّ شعور انتابك في تلك اللحظات؟ تبسم وعلى سيمائه مرت سحابة ثقة تنبئ بجَلَلِ ما سيدلي به: إني لأتهيَّبُ الإفضاءَ بما أنعم الله عليَّ به لحظاتئذ، شعرت بهدوءٍ وسكينةٍ ولا أنسى ما حييتُ كم كانت لذيذة تلك اللحظات وأنا أستغفر الله وأسبحه.

سألته الصحيفة: متى أفقت من التخدير بعد خضوعك لعملية جراحية عاجلة.. وهل تفاجأت على منظر فقدانك لساقيك؟.

أجاب بنشاط: حوالي ثلاث ساعات بعدها أفقت، ولم أتفاجأ مطلقاً من منظر فقداني لساقي الاثنتين معاً؛ لأن الإصابة كانت بليغةً جداً، بل أذكر أني دمعت عيناي وأنا أرفعُ يدي إلى الله حامداً وشاكراً على أن وفَّقَني وامتنَّ عليَّ سبحانه بقبول بعضِ جسمي ولحمي وعظمي خالصاً له وجهاداً في سبيله.

الصحيفة: كيف كان ردةُ فعل أهلك عند عودتك إلى منزلك مبتُورَ الساقين؟

باستحياء أجاب: لا أخفيك حينها أني كنت متوجِّساً من أمي، مشفقاً عليها أن تراني للوهلة الأولى بعد شهرَين من الغياب محمولاً مبتور الساقين، لكنها رغم فجاءة ما رأته وقساوة ما طالعته تمالكت نفسَها وقالت وقتها تستقبلني: واللهِ لو ذهبنا كلنا قطعةً قطعةً من أجل شرفنا وديننا ووطننا وكرامتنا.

توقف هنيهةً وأضاف من تلقائه مقاطعاً لسؤالي عن حياته بعد الإعاقة: لكن يعلم اللهُ أنني بعد إعاقتي هذه لَأشعر بالرضا والفخر والاعتزاز، بل والسعادة لدرجة أن البعضَ قد لا يستوعبُ ذلك، (مكيّف ومرتاح للآخر)، وأظنك قد تسألني ماذا عن حياتي الآن وماذا أفعله هذه الأيام، وأقول لك بأنني بعد إجراء عملية بتر ساقي الاثنتين بعشرة أيام فقط بدأتُ تحرُّكي الجهادي الجديد في المجالَين الثقافي والاجتماعي.. وإني واللهِ لَتوَّاقٌ مشتاقٌ متلهفٌ لصولات وجولات أخوضُها في جبهات الصدق والرجولة والإيْمَان مع رفاقي الذين قد كرّم اللهُ بعضَهم بالشهادة وبعضهم الآخر ما يزال مرابطاً هنالك.

الصحيفة: لو رجع بك الزمان إلى ما قبل إعاقتك. .ماذا كنت فاعلاً؟

فقال: واللهِ ما انتابني في لحظة من اللحظات أيُّ شعور بالحُزن فضلاً عن غيره، ولو رُدِدتُ إلى ما قبلِ إعاقتي لما تردّدت لحظةً واحدةً أبداً في الانطلاق إلى الجبهة..

وهنا توقف ليعب جرعةَ ماء، بدا قيامُه بذلك كما لو أنه تحنّن عليَّ باستقطاع وقت، ألملم فيه خيالاتي المحلّقة.. كأنني رجعت بعدَ مغادرة بادرته بالسؤال عن اسمه الثلاثي وعمره.. كانت إجابته بأن أحكمَ غطاءَ قنينة الماء وشرع يغرد زاملاً شجياً ترثي أبياتُه الشهيدَ القائدَ (……)، لم يطربني صوتٌ مثل صوت إنشاده، وعندما فرغ من نشيده وبهدوء جَمٍّ، همس لي قائلاً: اسمي علاء محمد عبدالله الحملي من مواليد سنة 1999م.

عند التجهيز لإنهاء الحوار بالدعاء بالصبر والرضا بقضاء الله وبلوائه قال مقاطعاً: عاد الدنيا عوافي وما قد واللهِ وصلنا ولا شعرنا أننا قد وصلنا لمرحلة الصبر والشدة والمعاناة (وزُلِزلوا)، عاد هي إلا متيسرة ومتوسّعة بفضل الله وكرمه، له الحمد وله الشكر.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com