من شعب القبيلة.. إلى قبيلة الشعب

حمود عبدالله الأهنومي

على مدى عقود اعتمدت السياسيةُ السعوديةُ في التدخل في شؤون اليمن على مشايخ قبليين وشيوخ دين وضباط وسياسيين ووجاهات مجتمعية وثقافية، فملأت جيوبهم بالريالات الشهرية، وأدرجتهم في كشوفات لجنتها الخَاصَّة، ولم تكن حظوة هؤلاء لدى السعودية بسبب ترشيح مجتمعي لهم أو انطلاقاً من كفاءات ذاتية، بل كان نتيجة صناعة المال لهم وتقديمهم كشخصيات قيادية ولكنها وهمية بوهم قوة المال وبريقه.

حظِيَ متسوّلو هذه اللجنة الخَاصَّة بمخصصاتهم الشهرية، وتمتّعوا هم والمقربون جداً منهم بتلك المخصّصات، في الوقت الذي حرِم الكثير من قبائلهم من حقوقهم الطبيعية، فسكتوا عن ذلك، بل وأيدوه، فأنتج ذلك رهنَ القرار السيادي والسياسي والثقافي والإسلامي بيد السعودية التي طالما تصرفت على مختلف الأصعدة على النحو المعاكِس لما يريده اليمني البسيط، وبحكم ذكاء اليمنيين عرفوا أن المال الذي يتمتع به الزعيم المصنوع على عين السعودية ومالها هو ثمن انصياعهم وانقيادهم له، فأذهب الوقتُ كارزمية هذه القيادات، وانحسر نفوذ الزعيم القبلي إلى حد كبير، وتوسع نفوذ الشيخ الوهابي في دائرة أوسع من دائرة الشيخ القبلي بحكم طبيعة عمله الموكل إليه.

بالطبع أدرجت السعودية هؤلاء في كشوفات لجنتها الخاصة لكي تدرج اليمن في محفظتها الرديئة، غير أن علاقة انفصام نشأت بين هؤلاء العملاء وبين قبائلهم، وتطورت بمرور الوقت الكافي إلى النظر بعين الريبة إلى هذه العلاقة التي لا تفيد اليمنيين كشعب، بقدر ما أفادت زعماء وهميين تربطهم مصالح شخصية نفعية بالنظام السعودي؛ ولهذا بات لزاماً على كُلّ مواطن أن يتدبّر أمره اليومي وحياته المتنوعة ويكابد بؤسه السياسي والفكري والاقتصادي والثقافي بعيدا عن تأثيرات أولئك الزعماء.

في جولات من تفاعل المجتمع مع متغيراته، ظهرت حركة أنصار الله كتعبير شعبي إسلامي ثوري اجتماعي لمكوِّنات المجتمع الصادقة مع نفسها، والنظيفة أيديها من المال المدنّس الحرام، وكثر وكبر أفراد هذه الحركة شعثاً غبراً بهموم إسلامية عالمية، ووعي قرآني عالٍ، بدون تاريخ سيء في الوظيفة العامة، ولا علاقات مريبة مع السعوديين والأمريكيين، فكانوا والمجتمع ولا سيما قبيلته كروح لقي جسده الذي ظل يبحث عنه شطرا من الدهر.

كثير من المحللين ومنهم مخططو العدوان وأدواته في الداخل والخارج لا يدركون سر قوة أنصار الله، المتمثلة في الإيمان بهذا المشروع القرآني النهضوي، ولا يعون القوة الإيمانية الغيبية التي حرَّكت شباب المجتمع اليمني على نحو مثير للعجب، ولهذا يقدمون كُلّ مرة تفسيرات مجانبة للصواب.

التحولات الاجتماعية الثقافية والفكرية التي أحدثتها ملازم الشهيد القائد، وخطابات السيد القائد حفظه الله في أوساط المجتمع، ولا سيما في أوساط الأرياف والقبائل في ظل واقع عملي تطبيقي، تغيب عادة عن أذهان الكثير من المحليين، وهو ما يوقعهم في الخطأ. هذا التحول الاجتماعي الذي لقي فيه ابن القبيلة، وابن المدينة، وابن الفقير، وابن الغني، وابن النخبة، وابن العامة من الناس بغيته، وحقق من خلاله ذاته، واستوفي فيه دوره، وشعر بمسؤوليته وواجبه، ومما لا شك فيه فإنه كان من السباقين إلى هذه المسيرة ابنُ القبيلة اليمنية الذي نظر شزرا إلى زعيم قبيلته الأناني والمستأثر والذي خلد لحياة العمالة والأثرة، وترك قبيلته فريسة للجهل والحاجة والفقر، بل وعمل على تجهيلها وتضليلها حتى تظل أسيرة نزواته الشخصية، وكفيلة بتلبية حاجاته الأنانية.

ولما عاد هذا (القبيلي) البسيط الذي لم يكن في عِير قبيلته ولا نفيرها، وقد حمل هم الأمة على عاتقيه، وتحدث بحديث القرآن الواسع، وكشف اللثام عن واقع قبيلته وشعبه السيء، وأبان الخطيئة التي تسبَّبت فيها السعودية والأنظمة المستكبرة بحق المسلمين والعرب، وصار بصرخته وشعاره والتزامه وشجاعته وقيمه وفتوته حديثَ قبيلته رجالا ونساء، صبحا ومساء؛ إذ جاءهم بما لا عهد لهم به، فأصبح محور حكاية حياتهم الاجتماعية، وشيئا فشيئا التف به شباب القرية أو القبيلة أو الحي ذوو النزعة المتمردة، والناقمة وما أكثرهم، فتلقّفتهم الدورات الثقافية لتحلِّق بهم في عالم واسع من الهموم، وإطار أوسع في الزمان والمكان، فبات الذي فكر منهم يوما وقاتل على حدود قبيلته وقريته ضد القبيلة أو القرية الأخرى يتحدث عن الأمة وحدودها العالمية، وصار المهتم بالواقع المذهبي مندفعا لتعبيد الطريق نحو واقع إسلامي عالمي، وظهر ذلك الرعديد الخوّار يواجه أعتى أهل الأرض، فصار بطل قريته وشعبه، وملهِم أقرانه، وحديثَ مساءِ عجائز بلده، ونموذج صغارهم الذي تضفى عليه الأساطير، وتحفه حكايات البطولة.

وإذا ما كتب الله لأحدهم الشهادة، في معركة مقدسة خاضها، فقد كتب لقضيته وسعيه وحركته ومفاهيمه الخلودَ في قبيلته أولا، ثم في شعبه ثانيا، وصارت روضات الشهداء قبلة الأمهات المربيات، ومهوى أفئدة الأجيال الصاعدين، يطوف الجميع بين هذه الأجداث ليستلهم منها حكايا المجد، وأساطير التضحيات، وترانيم الوطنية، وآيات الرجولة، وبينات الفحولة.

هنا سقط عملاء السعودية، وأفصح المجتمع عن حقيقة أمرهم، وانقشع الستار عن واقعهم الموهوم والمزيف، بعد أن كشف أبطال التحول الاجتماعي هذا الستار عنه، وأبانوا زيفه المصنوع، وظهر للجميع أن أولئك العملاء أعجز من إحداث حدَثٍ مهم، وكانوا كلما أوقدوا نارا للعدوان على أتباع هذه المسيرة كلما اتسع أوارها، وامتد نورها، وسطع شعاعها، وخبى دور عملاء السعودية، وتضاءل وتقزَّم، أمام هذا التيار الجارف، الذي ينتشر في المجتمع انتشار النار في الهشيم.

هنا تبين للسعودية مع عملائها أنها أخسر صفقة من أبي غبشان، ففطمته عن ضرع العمالة، وقطعت مخصصاتهم، بحجة تكاسلهم عن دورهم المناط بهم، أو انعدام تأثيرهم، فزادت طين عملائها بلة، وجعلت واقعهم خبالاً.

هذا هو واقع المجتمع، وواقع القبيلة المكون الرئيس فيه، وهذه صورة مصغرة عن واقع التحولات العظيمة التي شهدها المجتمع، بينما كان الصحفيون والكتاب والنخب ينتشون في أجواء الحداثة، ويخوضون جدلاً عميقا حول قضايا صغيرة، ويلوكون مفردات لا تسمن المجتمع ولا تغنيه من جوع.

لا أتحدث هنا عن القبيلة التي كانت بالأمس تستخدم لإنتاج (شعب القبيلة)، ولكني أتحدث عن الشعب الواعي الذي اتجه بالقبيلة لأن تكون (قبيلة الشعب)، وأتحدث عن الثقافة التي صنعت الإنسان الكريم، وعن الوعي الذي أشعَّ ليضيء دروب التحرك في مضمار إنجاز الحضارة الواعية، وعن الشجاعة التي جعلت من هذا الشعب بإمكاناته الفقيرة والضعيفة والمنعدمة مواجِها عتيدا لأغنى وأعتى وأقوى دول الأرض، وعن التضحيات التي أعجزت العالمين تفسيرا وتعليلا، وعن الصمود الذي فاق الجبال رزانة، وعن السلوك القويم الذي يجعل من صاحبه قديسا يحفه الاحترام أينما حل.

ليس بالضرورة أن ينطبق هذا الوصف على الجميع، بل كان يكفي في تلك الظروف أن يكون هناك نموذج، وقد كان.

ليس التفسير المادي الاقتصادي من حرّك هذه الجموع بذلك الاتجاه يا صديقي، ولكنه الوعي، والثقافة القرآنية، ووجدان الجواب عن كمٍّ هائل من الأسئلة الحائرة التي ربَّما وجدوا لها كثيرا من التنظيرات، ولكنها في كُلّ مرة كانت تصطدم بجدار الواقع المزري والرديء والذي طالما اقتات على الفشل الدائم واليومي.

ليست القبيلة كقبيلة بمفهومها السلبي ورصيدها السيء في الماضي القريب هي من تتحرّك اليوم في مواجهة العدوان، وأي خطوة تؤصل لهذا الاتجاه فإنها إنما تصب في إعادة إنتاج الفشل مرة أخرى، ووضع البذور التي تؤسِّس لانكسارات لاحقة لا سمح الله، وإلا ففسِّر لي لماذا غاب الزعماء القبليون والوجاهات الرسمية عن ساحات المعركة، وحضر أفراد القبائل البسطاء الذين تلقوا ثقافة القرآن واقعا وسلوكا، وهي ثقافة العزة والعطاء، لا الذين تلقوا ثقافة الادعاء القبلي والعصبية الخاسرة، والتي هي ثقافة تخرب أكثر مما تعمر.

هل تعلم أن في هذه الحارة أو تلك كثيرا من الشهداء لا ينتمون إلى هذه القبيلة ولا إلى تلك، ولكن ينتمون إلى هذه المنطقة الحرة من هذا الشعب الأبي، وحين تحرك ابن القبيلة فليس استجابة لأمر زعيمها ولكنه استجابة لحالة الشعور بالمسؤولية التي استوقدها من أدبيات المسيرة.

إنه الشعب الذي لم يعد (شعب القبيلة)، وقد جعل القبيلة (قبيلة الشعب)، إنه المجتمع الذي شعر بخطورة النكوص في هذه المعركة المصيرية فعبّر عن دوره بكل هذا الصمود الأسطوري، والتضحيات الجسيمة، إنهم الشعث الغبر الذين اتخذهم العدوان وأدواته وإعلامه من قبلُ ومن بعدُ سُخريا، إنه الشعب الذي تأفف حزب الإصلاح عن النظر إلى أثوابه السَّمِلة، وخِرَقه البالية، وسخر من حياته المعيشية، إنه الشعب الذي تنكر فيه بعض الاشتراكيين لما لُقِّنوه زمانا طويلا، فطووا عن حديث (الديالكتيك) كشحا، وباتوا طبقات رجعية منتظمة على أبواب الأنظمة المتخلفة، فصدق الشعب وكذبوا.

إنه الشعب الذي شاركت الأرياف في حركته بشكل رئيس، فكان الشعث الغبر أصدقَ قيلا من كثير من المثقفين والأكاديميين المتفيهقين دهراً، والناطقين اليوم عمالة وعُهراً، إنه الشعب الأصيل الذي عبّر شعرُه وأدبه وتراثه وزامله عن أصالة تحركه المقدس، وبرهن بشجاعته وإيمانه وصبره على إيمانه اليماني، وأثبت بتاريخه الفذ والأسطوري أنه امتداد حق لمسيرة الإيمان اليمانية الحقة.

ألا ما أحوجنا في أن نستمر في دعم هذا الشعب بالتحرك الثقافي، حيث هو محور عملية التحول الاجتماعي، وما أحوجنا إلى نزع الكوابح الكثيرة التي تعيق هذا المجتمع من الانطلاقة الأكبر، بحل خلافات أبنائه، ونزع فتيل مشاكلهم، ونظم كثير من أمورهم، وبتصحيح نظرات بعضهم عن طبيعة التحرك، وبالتذكير الدائم له حتى لا تصيبه آفة النسيان، ألا ما أحوجنا إلى مغادرة الكراسي الدوارة، والالتصاق بالبلدة الطيبة لنكسب نصر الرب الغفور.

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com