الأنساقُ البنائية للنصّ الشفاهي.. قراءة في زامل “شعب الجزيرة”*

إبْرَاهيم محمد الهمداني

يكتسبُ الموروثُ الشفاهي أَهَميّةً كبيرةً؛ نظراً لكونه الناقلَ الأمينَ والحافظَ لطبيعة ِمدخلاته وصورة مخرجاته وتشكلاته المختلفة، بذات الروح الدينامية والخصوصية الكاملة، والتداخلات والتعالقات المتشابكة بين مختلف المجتمعات، في إطار السيرورة الزمانية/ التأريخية الواسعة، وعلى ذلك يكتسب الأدب الشفاهي بأجناسه المختلفة (شعر، حكايات، أساطير، زوامل، مهاجل، أمثال،… إلخ)، أَهَميّة خاصة وفائقة جداً؛ كونه يمثّل في بُعده التداولي، طبيعة الحركة الزمانية ذات التطور التراكمي، في مسيرة الذاكرة الجمعية، الحاضنة لخصوصيات الثقافة واللغة والمنظومة المجتمعية والإنْسَـانية على وجه العموم، ويتسم كُلُّ جنس من أجناس الأدب الشفاهي بمقومات وخصائص تعكس جانباً ما أَوْ صورةً جزئية محددة من عموم الصورة الكلية، بينما يتميز الزامل من بينها، بكونه الأقدر على حمل الجينات الأصلية المختزلة لجميع تفاصيل الصورة الكلية – للمجتمع – في تعالقاتها البنائية، وسيرورتها التأريخية، وبذلك يمكن القول إن الزامل هو أرقى فنون القول والتعبير والتواصل، نظراً لما يتسم به من مقومات فنية وبنائية، لا تتوفر لنظائره الأُخْــرَى، وإن في الأمثال ما يجاريه من حيث الإيجاز، إلا أن هذه الأخيرة تفتقر إلى شموليته، وكلية رؤيته، وارتباطه – غالبا – بأدق تفاصيل الزمان والمكان، وحضوره في مختلف التحولات والتغيرات الطارئة على حياة المجتمع.

يقوم الزامل – بوصفه فعلاً شفاهياً – على أداة التواصل المباشر، التي تتعدد فيها مستويات بتعدد مستويات الخطاب، وبخلاف النص الكتابي الذي ينتقل عبر الإحساس البصري وتهيمن عليه النزعة العقلية التأملية، فإن الخطاب الشفاهي يعتمد على الإحساس السمعي في عملية التواصل، ويطغى عليه الطابع الحسي التصويري.

أي أن الزامل يتشكل عبر سياق تواصلي حسي، تحتشد دلالته في المخيال عبر فضاء التلقي السمعي، على هيئة رسائل قصيرة، ورموز وشفرات خاصة، تحمل قصدية آنية ودائمة معينة، لتتجاوز حواجز الزمن الحاضر إلى المستقبل والفضاء اللامتناهي، محتفظة بخصوصيتها وطابعها المميز، ومؤكدة على بُعدها الإنْسَـاني العام في الوقت نفسه.

ولذلك فإن قراءة الزامل – كخطاب شفاهي – تحتم علينا النظر في تموضعه المتشكل من تعالق وتداخل أنساقه الثلاثة، وهي:

1- النسق اللغوي: بمفهوم اللغة الواسع الذي يبدأ من كونها مادة البناء والتركيب، وُصُـوْلاً إلى بُعدها الثقافي.

2- النسق الثقافي: انطلاقا من السياق الثقافي المجتمعي الخاص، وُصُـوْلاً إلى السياق الثقافي الجمعي الكلي، في إطار المشترك الثقافي في زمنية الخطاب من جهة، وتمرحلات البعد الثقافي عبر مداره التأريخي من ناحية ثانية.

3- النسق الإنْسَـاني: بوصفه البُعد التداولي الحامل لدينامية وحيوية وتجدد الخطاب الشفاهي، المتشكل من قضايا إنْسَـانية حساسة وتساؤلات وجودية جوهرية، تجعل من تموضع الوجود الإنْسَـاني عبر الأزمنة المختلفة، موضوعا لها وقضية تحتفي بها.

من خلال الطرح السابق يمكن قراءة زامل “شعب الجزيرة”، بوصفه خطابا شفاهيا بامتياز، ليس فقط لانطباق الشروط الآنفة الذكر عليه، وإنما علاوة على ذلك لاتكائه على خطاب شفاهي موازٍ، يوازيه ويحايثه فكراً وثقافة وهدفاً، ذلك هو خطاب السيد القائد عبدالملك الحوثي، الموجه إلى أَبْنَاء شعب الجزيرة العربية، وخاصة أَبْنَاء المنطقة الجنوبية، أهالي نجران وجيزان وعسير، وهذا الخطاب بدوره يتكئ على مجريات الواقع الراهن، وما تعيشه اليمن من عُـدْوَان إجْـرَامي عالمي غاشم، وتحالف دولي ظالم، لم يتوقف قبحه وبشاعته عند مستوى القتل والتدمير، بل امتد ليشمل تشوية الصورة على كافة المستويات، وقلب المفاهيم، وإدانة الضحية والامتنان من القاتل، حيث تم تصوير دفاع الشعب اليمني عن كيانه ووجوده ضد المعتدي، بأنه اعتداء على جيرانه وإخوانه في عسير ونجران وجيزان، لذلك جاء خطاب السيد القائد حاملا رسائل عدة، وموضحا موقفا ورؤية وفكرا، لا يقف عند مستوى هذا الحدث، بل يمتد بشموليته وكليته ليؤكد على مفاهيم إنْسَـانية تمثل الإخاء والمساواة والسلام، وغيرها من القيم والمبادئ السامية، لتتجاوز رسائل الطمأنة والحب والسلام على المستوى الإقْليْمي، إلى المستوى العالمي والمدار الإنْسَـاني، حيث يقول سماحته: “وأقول لشعبنا في الجزيرة العربية – سكان المنطقة الجنوبية بالمقدمة في جيزان، في نجران، في عسير – في المنطقة بكلها، أنتم أخوة لنا، جيران لنا، أشقاء لنا، بيننا وبينكم روابط الإسْـلَام، روابط الجيران”.

وهذا المقطع من الخطاب يمثل تقديما للزامل، حيث يتوقف عند التأكيد على روابط الجوار، ليبدأ الزامل في سرد رؤيته كخطاب محايث، وفي نهاية الزامل تأتي كلمات من خطاب السيد القائد كخاتمة للزامل، تؤكد على الطمأنة ولين الجانب، حيث يقول: “كونوا مطمئنين كُلّ الاطمئنان، نحن نعتبركم إخوة لنا”.

بهذا التعالق الفني الإبداعي الرائع، أعاد الخطاب الشعري (الزامل) إنتاج الخطاب السياسي (كلمة السيد القائد)، سائراً على نهجها ومتأسيا بها، متوسلاً باللغة الشعرية، والأداء الإنشادي والمؤثرات الصوتية، لبلوغ ما لم يبلغه أَوْ يصل إليه الخطاب السياسي، ومتخذاً من تأثير الموسيقى والنغم والإيقاع على النفس، وسيلةً لإسماع مَن لم يسمع، وتوعيه مَن لم يعِ، ناهيك عن مكانة ودور هذا الفن القولي (الزامل) قديما وحديثا لدى قبائل اليمن الكبير، وما يتركه من أثر في نفوسهم، وحضوره القوي بينهم كأنهم مكونات الترابط الثقافي.

 قوم شعب الجزيرة ما اعتراه الياس

الفرج بايجي والخير وصالي”

يبدأ الزامل بتوجيه الخطاب إلى المخاطب الموصوف والمتعين بانتمائه الجغرافي، جامعا بين دلالة الخصوص في كلمة (قوم) والعموم (شعب)، ثم يجيءُ التخصيص المضاف إلى (الجزيرة) لتتحول مفردة قوم من دلالة الاختصاص والتعيين، إلى ما تحمله في العرف الشعبي من دلالات الرجولة والإباء والسؤدد، بدلالة الجملة الوصفية “ما اعتراه الياس”، ولم يدركه الضعف ولم ينل منه الهوان.

وهو ما حاول الحاكم المستبد/ نظام آل سعود، إلحاقه بهم، واحتقارهم ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة العاشرة، جاعلاً منهم ضحيته الأزلية، المترددة بين مطرقة تذويب الهوية، وسندان احتقار الحاكم وإهماله، ونتيجة لهذا الوضع المأساوي، الذي تكشف بعض جوانبه بنية المسكوت عنه في النص، ليكونَ التبشير باقتراب الفرج هو خيط الأمل المتبقي لدى أُولئك الإخوة الجيران الأعزاء “الفرج بايجي والخير وصالي”، في لغة لا تخلو من المواساة والشعور بالآخر، ومشاركته آلامه وأتراحه، وليس ذلك فحسب، بل الأخذ بيده ومساعدته ونجدته، وتحريره من ربقة الذل وأغلال العبودية، التي أحاطه بها الحاكم الظالم.

 شعب الايمان والحكمة شديد الباس

يكرم الجار يرخص لاجله الغالي

هنا تحدث الصدمة وينكسر أفق التوقع، وتتجلى المفارقة، وتتضح الحقيقة التي حاول آل سعود تحريفها، وتكريس نقيضها، فالفرج الموعود به شعب الجزيرة، سيكون على يد شعب الايمان والحكمة الموصوف بشدة البأس، وكلها أوصاف تستند إلى محمولات النص المقدس كمرجعية أَسَـاس، إضَافَة إلى طباع وخصال تميز بها هذا الشعب، وفي مقدمتها اكرام الضيف، والقيام بحقه أتم القيام.

وبهذا تبدأ الحقيقة في الظهور أمام الشعب المخاطب أولا وشعوب العالم ثانيا، فما روَّجته ماكينة إعلام العُـدْوَان، من خطورة اليمنيين على شعوب المنطقة، إلا أن خلاص هذه الشعوب وتحررها سيكون على أيدي اليمنيين، الذين لم يحظَ غيرهم بمكانتهم تأريخياً ودينياً.

يا اهل جيزان يا اهل العز والقرناس

يا عسير الإبا نجران الابطالي

بالتآخي نعالج وضعنا الحساس

نرفض الهيمنة وحياة الإذْلَالي

يأتي الخطاب هنا متراسلاً مع مضمون سابقه، في تواشج دلالي متناسق، متخذا من حرف النداء (يا) وسيلة لجذب الآخر، ولفت وتخصيصه عمن سواه، جامعاً بين مكونات الانتماء الجغرافي الإقْليْمي، لتلك المناطق الثلاث (جيزان، نجران، عسير)، واصفا أهلها بالعز وَ(القرناس) والشموخ والإباء والبطولة، بهدف تذكيرهم بما كانوا وما يجب ان يكونوا عليه، وتنبيههم إلى خطورة الاستمرار في الاستسلام للوضع الحالي، والسبيل إلى تحقيق ذلك، واستعادة مكانتهم ومجدهم، لن يكون إلا بالتآخي بيننا وبينهم، لنتمكن معا من مواجهة الخطر المحدق بنا وصناعة مصيرنا ومستقبلنا المشترك، كما نريد وكما ينبغي، بعيدا عن الخضوع والاستسلام لقوى الهيمنة والتسلط والإذْلَال.

يا بني عمنا يبقى الاخا مقياس

والنسب والصحب ما غاب عن بالي

ما قطعنا الصلة بين الجسد والراس

بانجاهد سوا بالنفس والمالي

صف واحد – كما البنيان – في المتراس

نحمي اعراضنا من بطش الانذالي

يتخذ النداء صيغة أَكْثَـر حميمية ومحبة، وينطلق من مواضعات صلة القرابة (أَبْنَاء العم)، وما في هذه الصلة من مكنونات الحب والإخاء والتعاون والإيثار والتضحية، جاعلا من الإخاء الصفة الأولى، والسمة البارزة لتلك القرابة، ثم نا يليها وما يترتب عليها من المصاهرة والصحبة، وكلها علاقات ذات وشائج قوية، وُصُـوْلاً إلى التوحد والتماهي، الذي أعاد – ولم يقطع – الصلة ما بين الجسد والراس، فعلاقة الجسد الواحد هي التي تجمعنا، وتوحدنا في نضالنا المشترك، وجهادنا معا بالنفس والمال، في ظل واقع مأساوي واحد، ونضال مشترك، ومستقبل تصنعه تضحيات الجميع وبذلهم سواء بسواء،

ولا تقف مهمة الخطاب عند ذلك الحد، بل يسعى الخطاب بكل محمولاته إلى تأكيد الوحدة الإقْليْمية/الجغرافية والوحدة الثقافية، والوحدة العلائقية الاجتماعية (صلة القرابة) والوحدة المصيرية، من خلال التأكيد على صورة واحدية النضال والدفاع المشترك، ضد عدونا المشترك، الذي يجمع كُلّ صفات الخسة والحقارة والضعة، كُلّ همه القتل والخراب والتدمير وانتهاك الاعراض والحرمات، والنيل منا بشتى الوسائل وأقذرها.

أسرة أبنا سعود من راسها للساس

شر، والجد الأول مثلما الثاني

النظام السعودي فاقد الإحساس

قد تمادى بقتل نسا واطفالي

في المساجد وصالات العزا واعراس

وادمن القصف للأَسْوَاق طوالي

والشياطين من واشنطن وتكساس

يقتلوا شعبنا في سهل وجبالي

إن تخصيص أسرة آل سعود بالشر المحض، يؤكد ان ما سيلي من كلام عنهم هو حقيقة لا شك فيه، وواقع لا مراء فيه، وذلك أيضاً ما تفيده شمولية التحديد (من راسها للساس)، بأنهم شرٌّ وبيلٌ وخطر عظيم بكل تأكيد، (والجد الأول مثلما الثاني) ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا، وذلك ما تختزله الذاكرة الجمعية لشعوب المنطقة، من تأريخهم الإجْـرَامي، ومذابحهم الوحشية والمجازر التي ارتكبوها، والدماء والجماجم التي أقاموا مملكتهم الإرْهَـابية عليها، وهذه الإشارة الذكية إلى تأريخهم الدامي، تجعل المتلقي يعقد طرفي المقارنة بين الماضي (الجد الأول) والحاضر والمستقبل (التالي)، حيث الإجْـرَام سمة متأصلة فيهم، وغريزة التوحش لا تفارقهم، وشهوة القتل والتدمير هي كُلّ طموحاتهم، ولم يعد إجْـرَامهم مقتصرا على من يقع تحت طائلة حكمهم الجائر، بل امتد شرهم إلى شعوب العالم العربي والإسْـلَامي جمعاء، ولم ولن يسلم من شرهم وأذاهم شعب من الشعوب أَوْ وطن من الأوطان، فتلك هي حقيقة النظام السعودي الحاكم، الذي يتوجه نحوه الخطاب بالإدانة المباشرة، بعد أن أثبت صفة الإجْـرَام والشر لجميع أفراد الأسرة؛ كونه غريزة وطبعاً فيهم، ثم اتخذ الخطاب منحى أَكْثَـر تخصيصاً، في موقفه من النظام الحاكم الموصوف بفقدان الإحساس، وانتفاء الشعور بالذنب، تجاه تماديه في قتل النساء والأطفال، الذين لا ينال منهم إلّا عاجز، ولا يعترض سبيلهم إلّا دنيء، فليس في النيل منهم مكرمة، ولا قتلهم أي مجد أَوْ شرف، بل العكس من ذلك تماماً.

إن هذا النظام الذي انتهك حرمة النفس البشرية، وتمادى في حقارته وانحطاطه المتمثل في إمعانه وإصراره على قتل النساء والأطفال، دون أدنى وازع ديني أَوْ يقظة ضمير، ولم يقف إجْـرَامه الوحشي عند أي حد، بل استهدف حرمة دم الإنْسَـان، وانتهك المقدسات الدينية، واخترق كُلّ الأعراف والقوانين السماوية والوضعية، من خلال استهدافه المساجد وصالات العزاء والاعراس والطرقات والمستشفيات، وكل ما يمكن ان يمثّلُ تجمعاً بشرياً مدنياً، مخالفا لقوانين الحروب وما تعارف عليه طغاتها.

الذين أكدوا – بما تبقى لديهم من ضمير إنْسَـاني – على حرمة قصف التجمعات المدنية، حتى وإن كان بالقرب منها هدف عسكري، غير ان النظام السعودي المتصهين، لم يتورع عن ذلك ولن يقم أي اعتبار لأيّة سلطة دينية أَوْ دنيوية، إشباعاً لرغبته المتوحشة، وإدمانه على ممارسة القتل،

قال قال المثل (من دق باب الناس)

فالجزا دايما من جنس الأَعْمَالي

دام والبادي اظلم يا عرب لا باس

ثارنا باقي باقي عبر الاجيالي

هنا يحط هذا النص رحاله جاعلا من الاستشهاد بالأمثال الشعبية، تأكيداً على جماهيرية الزامل، ودليلا على النهاية الحتمية الوخيمة لنظام آل سعود الإجْـرَامي، في توظيف أقل ما يقال عنه بأنه غاية في الروعة، لاعتماده تقنيات الحذف، والاكتفاء بذكر جزء من المثل (من دق باب الناس)، ولتفعيل دور المتلقي ومخاطبة لاوعيه الذي يقوم بإكمال الجزء المفقود من المثل الشعبي، بينما يكمله النص بطريقه أُخْــرَى، أَكْثَـر اسهابا كجواب توضيحي لجملة الشرط، بقوله (فالجزا دايما من جنس الأَعْمَالي)، زيادة في التأكيد والثقة المطلقة بتلك النهاية الحتمية للظالم المعتدي، استنادا على حقيقة واقعية حياتية معيشة (دام والبادي اظلم)، تؤكدها الصبغة المنطقية والارتباط الشرطي الجدلي في بنية المثل الشعبي، في خطاب ما زال محتفظا بتوهجه وألقه وأنساقه الدلالية والمعرفية وقوته، متوجها إلى أَبْنَاء شعب الجزيرة العربية، في حيزهم الجغرافي المعلوم، حاملا رسائل التطمين والثقة بالنصر والتحفيز والترغيب في تجديد وشائج الوحدة وصلات القربى، والانضمام إلى ركب إخوانهم المجاهدين اليمنيين، وانتزاع حريتهم من نظام آل سعود المستبد، وصناعة مستقبل الأجيال القادمة، كما يجب أن يكون.

يُعد هذا النص الشفاهي (الزامل) – إلى جانب المنتج الابداعي من الزوامل الأُخْــرَى التي قيلت في نفس الفترة ولذات الغرض – وثيقة تأريخية وفكرية وثقافية وإنْسَـانية شاملة، قامت برصد وتوثيق مرحلة هامة وخطيرة من تأريخ اليمن خاصة، والمنطقة العربية والإسْـلَامية بوجه عام، واستطاعت من خلال اللغة والصورة – رغم طبيعتها التكثيفية – ان تتجاوز مفاهيم الشعرية وتموضعات الواقع، وتصنع لنفسها مقاما خاصا بينهما، حيث يحتفي بها التأريخ، ويزهو بها الأدب في الوقت ذاته.

يتميز هذا الزامل – عن بقية أجناس الأدب الشعبي – بجماهيريته الخالصة، وشعبوية التلقي، وإعَادَة الإنتاج القائمة على الصوت الجماعي والتلحين (الزوملة)، والتناقل والتوثيق عبر الرواية الشفاهية، ورغم بروز صفة الكتابية في الزوامل – على الاقل لحظة ولادته وتوثيقه الأولى – إلا أن الشفاهية تظل سمة ملازمة له، سواء من حيث إعَادَة الإنتاج والأداء الجماعي، أَوْ طبيعة صياغة مضامينها ولغتها وأسلوبها، أَوْ طبيعة رسائلها الموجهة وشمولية قضاياها، أَوْ جماهيرية التلقي واتساع رقعته، كما يتميز أيضا بغياب الشاعر المبدع، مقارنة بحضور وشهرة الزامل عبر المكان والزمان، الأمر الذي جعل كَثيراً من الزوامل مجهولة المبدع، متعذرة النسبة إلى قائلها، نظرا لطبيعة التلقي الشعبوي، الذي عنايته بمضمون الزامل وقضاياه ورؤيته وايديولوجيته، أَكْثَـر من اهتمامه بشخص القائل وتحقيق نسبه، ولعل ذلك عائد إلى طبيعة موضوعات الزامل وطريقة تناوله وعرضه لها، فرغم صدوره عن المبدع الفرد والرؤية الخاصة، إلا أن سمة الفردانية تلك تتلاشى وتمحي تماما، في إطار الهم المجموع والقضايا الإنْسَـانية والصبغة الشعبية، حتى أن الزامل الذي قيل في مكان ما وموقف معين، قد ينطبق ويصلح للتعبير بلسان مجتمع آخر وفي أمكنة وأزمنة أُخْــرَى، انطلاقاً من اتساع الرؤية وعموم القضايا وشمولية الطرح.

استطاع المنشد المبدع عيسى الليث – من خلال إعَادَة إنتاج هذا الزامل – إضفاء لمساته الفنية الخاصة، التي عملت على تجديده، وتوسيع جمالياته، سواء من حيث التفاعل الحي في الأداء، والموائمة بين مستوى الصوت ودلالة الكلمات، أَوْ من حيث إضَافَة ثيمات خطابية في بنية النص الشفاهي، لم تكن فيه اصلا، لكنها أحدثت نوعا من الانسجام والقبول لدى المتلقي والاستحسان، علاوة على تعضيدها السياق الدلالي، وتأكيد مقاصد رسائله الموجهة إلى الاخر (شعب الجزيرة) من خلال المفردات التي أضافها ذات الطابع التكراري (إرْحب، إرْحب، إرْحب)، (اسمع، اسمع، اسمع)، وما ينتج عن تفعيلها في المتداخل/المدمج النصي من دلالات، على المستوى الوظيفي والمستوى التركيبي، واختيار المواضع المناسبة لدمج وتوظيف تلك الثيمات، سواء من خلال رسائل الترحيب بالأخوة الأشقاء (شعب الجزيرة)، أَوْ من خلال توجيه الخطاب المباشر بقصديته نحو المخاطب، وتوظيف فعل الطلب (اسمع)، من الند إلى الند ومن الأخ لأخيه، بهدف جذب انتباه المتلقي، وتحويله كلية نحو المتكلم، وتأكيد لأَهَميّة خطابه وحقيقة مقالته وصوابية رأيه، وقوة حجته، وتحكيم العقل والمنطق في طروحاته، بما من شأنه إدخال المخاطب/المتلقي في مواجهة مباشرة وجها لوجه مع الحقيقة المرة، والمأساة التي يقاسي أهوالها، وقطع طريق الهروب والخضوع والاستسلام، التي أدمن المخاطب السير فيها واللجوء اليها، ومن ثمَّ إلزامه باتخاذ موقف مشرف يليق به، ويعيد له حريته وكرامته وإنْسَـانيته المستلبه.

إضَافَة إلى ذلك أسهمت المؤثرات الصوتية – سواء الأداء الجماعي المتناغم أَوْ نغمات البرع – المصاحبة لطريقة الأداء (الزوملة) في خلق جو مفعم بالحماس ومشحون بالإثارة، والرغبة العارمة في الانطلاق والتحليق اللامتناهي، وتعزيز الروح المعنوية واستنهاض القيم والمبادئ والأَخْــلَاق العالية، والرفض المطلق لأي شكل من أشكال الخنوع والهوان والتغييب،

شكَّل هذا النص حالة متفردة من المتعاليات النصية والتعالقات والتداخلات، التي جعلته محتشداً بالدلالات والتأكيدات المراد إيصالها، كما انها منحته مسيرة ابداعية شائكة في التكوين والسيرورة والتحولات، سواء على المستوى المرجعي الكامن في الواقع وما تقتضيه ضرورة الوضع الراهن من توظيف الحقيقة، ودحض الزيف والتشويه، أَوْ على المستوى التركيبي المتمثل في التعالق النصي، وتداخل البنى الخطابية بين كلمة السيد القائد ومضمون الزامل، وإعَادَة انتاجهما بوصفهما خطابا واحدا منسجما، أَوْ على المستوى الفني المتمثل في الأداء والثيمات المضافة والمؤثرات الصوتية، يضاف إلى ذلك تميز هذا الزامل بالصبغة الجمعية، وتحاوزه للفردانية التقليدية، سواء من حيث عملية الابداع المشتركة بين الشاعرين، أَوْ إعَادَة الإنتاج والتلقي الجمعي.

*للشاعرين: ضيف الله سلمان وأبي عبدالله العسيلي

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com