نبذ الوهابيّة.. والمدخل إلى الاستقرار

  • بريطانيا هي المؤسس الأول للوهابيّة بمختلف مراحلها، حتى إذا جنحت للضعف والانسحاب سلّمت راية الإشراف على الوهابيّة لوريثتها الولايات المتحدة
  • الوهابيّة هُويةٌ تدميرية وتفكيكية، تناقض الهوية الإسلامية العربية الجامعة، وتباين الهوية الوطنية المحلية، وتدور مع الهوية الاستعمارية والعقلية الغربية المعادية للشعوب الشرقية والتي لا ترى فيهم إلا مغنماً بارداً
  • أنفقت السعودية، أموالاً طائلة في مصر وبلدان أخرى لنشر المذهب الوهابي، وتُنفق الأموال على بناء المراكز الدينية والجمعيات الخيرية التي تشتري عقول الشعوب مقابل منحهم المتطلبات المعيشية

 

حمود عبدالله الأهنومي

لا تدخُلُ الوهابيّة بلدا إلا وتفسده وتفسد علاقات أبنائه ومكوناته، وتجعل وحدتهم (شذر مذر) و (أيادي سبأ)، وتضع انسجامهم بكف عفريت؛ ذلك لأنها تصيب هوية ذلك البلد الذي يستظل الجميع بظلاله في مقتل، وتشكِّل في داخله مرضا خطيرا يلغي هويته الفكرية وقيمه الوطنية، ويدمر نسيجه الاجتماعي، ويقضي على ارتباطاته الثقافية والتاريخية ومعالمهما، وهي بهذا تكون قد وضعت هذا المجتمع للعب دور آخر، وشكلته لأن يدور في فلك مشجعي الوهابيّة وداعميها وصنَّاعها إن شئت القول.

الوهابيّة هوية تدميرية وتفكيكية، تناقض الهوية الإسلامية العربية الجامعة، وتباين الهوية الوطنية المحلية والتي تشكل في بلدان العالم الإسلامي هوية فرعية لهوية الإسلام، وتدور مع الهوية الاستعمارية والعقلية الغربية المعادية للشعوب الشرقية والتي لا ترى فيهم إلا مغنماً بارداً.

لقد تشكلت الوهابيّة في القرن الثامن عشر الميلادي على أنقاض تراث سلفي متزمت، وغليظ، ودافعٍ أو خالقٍ للصراع الداخلي فقط، استغلته دوائر الاستعمار الأوربي ولا سيما البريطاني، لتنتج من خلاله مشروعا تستطيع به تفكيك شعوب الشرق الأوسط بضرب هوياتها الإسلامية والعربية والوطنية، ليعاد تشكيلها على النحو الذي تريده قوى الاستعمار في تلك الحقبة، فكانت بريطانيا هي المؤسس الأول للوهابيّة بمختلف مراحلها، حتى إذا جنحت للضعف والانسحاب سلّمت راية الإشراف على الوهابيّة لوريثتها الولايات المتحدة.

في بداية القرن العشرين، دعمت وموّلت بريطانيا الوهابيّة فكانت الغطاء الديني لإنشاء كيان استعماري عميل في شبه الجزيرة العربية، كما دعمت ومولت وأنشأت الصهيونية لتكون الهوية التي ينشأ تحتها كيان استعماري آخر، زرعته في قلب الوطن العربي، وفي المنطقة الأكثر سخونة على مر التاريخ، حيث تصطرع الحضارات العالمية في شرق البحر الأبيض المتوسط. ودور بريطانيا ودوائرها الاستعمارية في صناعة السعودية في هذه المرحلة لا يخفى على مطلع.

منذ ثبّتت الوهابيّة الاستعمارية قدمها المرذولة في وعي بلدان العالم الإسلامي، أصيبت شعوب هذه البلدان برِدة حضارية حقيقية، وتبلّدت أحاسيسها ومشاعرها تجاه قضايا الأُمَّـة الكبرى، وغرقت في تفاصيل سخيفة عادة ما تجترها الشعوب الضعيفة والموبوءة، وتمّ تقديم الإسلام بصورته الوهابيّة بشكل ضعيف أمام الطغيان العالمي والاستعماري قضى على حياة العزة والكرامة ومشاريع النهضة، ودجّنت الشعوب لأنظمة الاستبداد المحلية التي دائما ما سارت في مسار التبعية الفاضحة لأنظمة الاستكبار والاستعمار العالمية؛ ولهذا رأينا اليوم مسلسلات فظيعة ووحشية تنفَّذ ضد المسلمين ولا نرى أي استنكار منهم، على الرغم أنهم باتوا يملؤون عالم اليوم عددا، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، لا يكترث لهم أحد. وما علاقتهم بما يحدث ضد اليمنيين من مجازر يومية على مدار العامين إلا خير دليل على هذه الوضعية البائسة.

في اليمن، بحكم قربها الجغرافي من نجد، عانى شعبنا من أخطار وكوارث الوهابيّة، فمنذ القرن الثامن عشر الميلادي ورسل الوهابيّة ودعاتها ينشطون في اختراق الهوية اليمانية، وربما نجحوا في بعض الفترات في استقطاب بعض المناطق أو الشخصيات، فعاشوا بأجسامهم في اليمن، ولكن عقولهم وأفئدتهم تظل معشعشة في الدرعية، وخير دليل على ذلك أنه حين جدّ الجدّ اليوم في الصراع بين هوية اليمن الإيمانية، وهوية نجد الشيطانية، انحاز كلٌّ إلى أصله وهويته، فذهب اليمانيون نحو يمانيتهم، ولحق اليمنيون جسما والوهابيون هوى وفكرا بوهابيتهم، وكشف اليمنيون عن أخلاقهم وقيمهم التي تنعكس عن هويتهم حتى في أشد حالات الحرب ضراوة، وأثبت الوهابيون أنهم انعكاس عتيق لقيمهم ومبادئهم وأخلاقهم السلبية وحشية وفظاعة وتدميرا وتمزيقا.

هذا يعني أن هذه الحرب العدوانية ضد اليمن، ما هي إلا صراع هويات، هوية الإيمان، في مواجهة هوية الشيطان، هوية الدين المحمدي الأصيل، في مواجهة هوية الدين الوهابي الأمريكي الدخيل، بدليل لو أن هناك دولة أخرى تحمل هوية أخرى غير هذه الهوية الوهابيّة الأمريكية هي من تشن الحرب على اليمن، لرأينا مظاهر حربية أخف، ولشاهدنا موقفا عدائيا ألين، لكنها الوهابيّة المنتَج التيمي (نسبة إلى ابن تيمية) حين يتربّى في مزارع الاستخبارات الاستعمارية البريطانية، وتتعاهده الرعاية الأمريكية.

منذ ظهور طفرة البترودولار كان لزاماً على أمريكا أن تعمل على نشر المذهب الوهابي، الذي يمثل حالة طيِّعة ومفيدة وبيئة طلائعية يمكن الاستثمار في مخلفاتها من قبل الاستعمار، فعملت أمريكا على نشر الوهابيّة بأموال البترودولار، ولهذا طالما شكلت تلك اللحى والجلابيب وأولئك الشيوخ والمطاوعة وتلك المعاهد والجامعات ومدارس تحفيظ القرآن والسنة – أدوات وهابيّة تبشيرية تبشر بالنفوذ الأمريكي وتنسجم مع مشروعه، حيث تعمل على تفتيت العقل الإسلامي، والهوية الجامعة، وخلق الصراعات البينية الممولة، وإذا ضُرِبت الأمم في فكرها ووعيها وثقافتها سهُلَ تطويعُ سلوكاها، والتحكم بتصرفاتها، فكانت الوهابيّة إذا قالت: إنني داخلة هذا البلد الفلاني، قال النفوذ الأمريكي: وأنا أتبعك.

في اليمن وطوال عشرات السنين السابقة كانت الهيمنة السعودية الأمريكية على القرار السياسي والعسكري والاجتماعي والاقتصادي نتيجة للتبعية الفكرية والثقافية للوهابيّة السعودية، ولولا حكمة الله وسره في هذا الشعب وعراقته الحضارية وأصالته الفكرية وتسامحه التاريخي، لكانت اليمن قد تغيرت هويتها الفكرية والثقافية تماما، لا سيما بالنظر إلى حجم الأنشطة والأموال العابرة للحدود التي أرادت أن تجعل منه امتدادا طبيعيا للوهابيّة.

لا يختلف الأمر بالنسبة للشعوب الإسلامية، حيث حرصت الوهابيّة السعودية على (وهبنة) الشعب المصري مثلا منذ وقت مبكر، وقد “بدأ المذهب الوهابي يشق طريقه في جسد المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين عبر شخصية بارزة هي محمد رشيد رضا الذي كان أول من أدخل ابن تيمية إلى الفكر المصري”. وكتاباته المدافعة عن الوهابيّة وملكها عبدالعزيز في كتابه (الوهابيون والحجاز) خير دليل على ما تركه من ندوب للوهابيّة في جسد الوعي المصري. ولما اشتدت وطأة الرئيس عبدالناصر على حركة الإخوان المسلمين وجدوا في كيان السعودية متنفسا طبيعيا وبديلا عن مصر، بعد تغيُّرٍ ما في السلوك السياسي، اقتضته البراجماتية الإخوانية، وفي تلك المرحلة حملت حركة الإخوان صبغة طائفية، وازدواجية سلوكية تظهر دائما في أدائها في مختلف المراحل.

أنفقت المملكة العربية السعودية، أموالاً طائلة في مصر لنشر المذهب الوهابي، وكانت تلك الأموال تُنفق على بناء المراكز الدينية والجمعيات الخيرية التي تشتري عقول المصريين مقابل منحهم المتطلبات المعيشية؛ ويقول الباحث والكاتب هيثم أبو زيد: “في حقبة السبعينيات، سادت أنماط التدين الشكلي، وتجسد ذلك في ظهور الأزياء الجديدة مثل الحجاب والنقاب والأسدال، وإطلاق اللحى”. وهذا يشير إلى نتائج سياسة الانفتاح على التدين الوهابي الخليجي التي عمل عليها الرئيس أنور السادات بوابة العلاقات الوطيدة التي تجمع الجميع مع المشروع الغربي الاستعماري.

هذه النتيجة هي ما حذّر منها مفكرون مصريون كتبوا عن خطورة الوهابيّة على مصر، وعلى هويتها الحضارية، وعلى تسامحها، وانسجام مكوناتها، وما تتعرض له مصر اليوم من تصحُّر علمائي، وتضاؤل تنويري، وتنازل عن الزعامة الثقافية للعالم العربي، وتقزُّم سياسي، وظهور مظاهر بشعة وفظيعة كحادثة مقتل الشيخ شحادة بتلك الطريقة الوحشية فإنه إنما كان نتيجة لهذه المعضلة الوهابيّة.

الأمر ذاته ينطبق على شعوب إسلامية أخرى، ومنها الجزائر، التي غزتها جموع الوهابيّة من خلال موجات التكفيريين الجزائريين العائدين من أفغانستان، والذين تلقوا التدريب على يد المخابرات الأمريكية بالتعاون مع المخابرات السعودية والباكستانية، فعادوا مثقلين بهوية الوهابيّة، التي ألقحت هوية تخريبية مناقضة للهوية الوطنية، فأنتجت عِقدا من الزمان مليئا بالسكاكين والذبح وأنهار الدماء المسفوكة في الفتنة بين العسكر وجبهة الإنقاذ الوهابيّة، وهو ما بات يدركه الجزائريون اليوم ويعملون على التحذير من بعض الأحزاب والجماعات والمشايخ الذين يدينون بدين الوهابيّة وهويتها، مقابل الهوية الجزائرية.

نحن اليمانيين وحتى لا تخدع (يمانيتنا) مرة أخرى، فلا نستطيع (ضرب أخماس الأمريكان بأسداس الوهابيّة) يجب أن نعي بقوة ما عناه السيد القائد عبدالملك الحوثي، وما حذّر منه في خطابه الأخير بمناسبة ذكرى يوم الولاية وذكرى ثورة 21 سبتمبر، وأنه لا بد من نبذ الوهابيّة من عقولنا وأفكارنا وقيمنا وأخلاقنا ومشاريعنا، ويجب تطهير آثارها من مناهجنا، لا سيما وقد تداعى أهل السنة الحقيقيين إلى مؤتمر جروزني في صحوة طبيعية وهامة تتسق والتاريخ والموروث السنيين، فأعلنوا الوهابيّة خارج دائرة أهل السنة الحقيقيين، الأشاعرة، والماتريدية والمذاهب الأربعة، والصوفية.

حين نعي تلك الوضعية ونعمل على أساسها نكون قد قطعنا شوطا ضروريا في الحفاظ على تأصل هوية الأُمَّـة الجامعة غير المفرقة، وعلى إبقاء المشاعر الأخوية والإسلامية والإنسانية حية ونابضة، وعلى ترميم النسيج الاجتماعي المهتك، ومن ثم استعادة ثقافة التسامح اليمنية وإبعاد الثقافات الإقصائية التكفيرية، ونكون حينها قد حافظنا على الاستقرار، وهيأنا بلدا مستقلا ومستقرا ينعم فيها أجيالنا بالدعة والسكون والرفاه والأمن، وجففنا المستنقع الآسن الذي تتربى في أوحاله السلفية العنفية ممثلة في الحركات التكفيرية القاعدة وداعش وأخواتهما. سيكون مجتمعنا في أمنٍ استراتيجيٍّ من أخطارٍ داخلية تتهدَّدُه في حاضره ومستقبله وثقافته واستقراره ونهوضه. ويكون أبناؤنا ونساؤنا ورجالنا في مأمن من السبي والقتل، والسحل والذبح، وقضينا على ظاهرة هذه اللحى المتوحشة التي لم تتورع عن الافتاء بشرعية تدمير بلدنا، وضرورة قتل أطفالنا، وعدم استحياء نسائنا.

إننا حينئذ نكون قد أوجدنا أرضية فكرية قابلة للتعايش والحوار والتلاقح والتعاون والنهوض، وحينها يمكننا القول بإمكانية وجود دولة يمنية عادلة نامية وناهضة ذات هوية إيمانية يمانية، أو يمانية إيمانية.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com