لن تقوم حضارةٌ إنسانيةٌ حقيقية في مصلحة البشرية.. إلا إذا كان القائمون عليها ممن يتذكرون نِعَمَ الله باستمرار

صدى المسيرة/ إعداد/ بشرى المحطوري

في العدد السابق تحدثنا عن كلام الشَّـهِيْـد القَائِد -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في محاضرة ــ ملزمة ــ [الدرس الخامس من معرفة الله ــ نعم الله] عن أسلوب استخدمه الله سُبْحَانَهُ وتعالى مع عباده، هو أسلوب (الإشهاد والإقرار) يجعلنا نشهد ونقر بنعم الله علينا، وأنها كلها منه سُبْحَانَهُ، لنكون من يحكم على أنفسنا في الأخير، إما أن نكون من الشاكرين أو من الكافرين..

وهذا الأسلوب جاء في سورة الواقعة، وقد تحدث الشَّـهِيْـد القَائِد عن نعمتين عظيمتين من ثلاث نعم كبرى أنعم الله بها علينا، (التربة، الماء، النار)، فتناولنا في العدد السابق نعمة (التربة، الماء)، والآن سنتناول نعمة (النار).

 

نعمة النار في الدنيا وفوائدها: ــ

مما لا شك فيه أن نارَ الدنيا سواءٌ أكانت النار العادية أو (الكهرباء) أنها نعمة من الله سُبْحَانَهُ وتعالى، وأنها من أهم الأشياء التي تقوم عليها أساسيات الحياة، ولا نستطيع الاستغناء عنها أبدا، فقال -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: [{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} تقدحونها فتشتعل، النار هي أيضاً من الأشياء الضرورية في الحياة، كم من الصناعات تحتاج إلى النار؟ كم من أنواع الغذاء ـ بالنسبة لنا ـ يحتاج إلى النار، نحتاج إلى النار في بيوتنا، نحتاج إلى النار في كثير من مصانعنا، سواء النار بشكل كهرباء أو النار المعروفة، نحتاج إليها للإضاءة، وللوقود وإلى أغراض كثيرة].

واستفهام الله سُبْحَانَهُ في الآية استفهام إنكاري موجه إلى من يعتقد أن ما هو فيه من النعمة والغنى والأموال هو من ذكائه وعبقريته وشطارته هو وليست من الله، فتساءل تعالى: {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ]، والجواب طبعا، هو أنت يا ألله من أنشأها وخلقها فلك الحمد والمنة.. مُضيفاً -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في شرح فوائد النار كما جاءت في القرآن بقوله: [{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} هذه النار تذكر بالنار الكبرى بالآخرة بنار جهنم {وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} كما يقول المفسرون: للمسافرين].

 

لم يغفل الله حتى الجانب [الجمالي] في نعمه علينا: ــ

لافتاً -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- إلى أن الله سُبْحَانَهُ قد تحدث عن الحيوانات التي خلقها الله لنا وفوائدها، وحتى أشكالها جميلة ترتاح لها العيون فقال: [{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} الأنعام هو اسم يطلق على الإبل والبقر والغنم بأصنافها {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أيضاً مظهر من المظاهر التي تسر الناس في حياتهم، منظر جميل يتمتعون به، هل أحد منكم شاهد هذا المنظر، ولو زمان؟. يوم كانت القرى بعد أن تشرق الشمس على الناس فيفتحون أبواب البيوت والأبواب التي يسمونها [الأحواش] التي للغنم فتخرج قطعان الغنم، منظر جميل]..

مسترسلاً -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في شرح قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} بقوله: [في الوقت الذي يجعل الله سُبْحَانَهُ وتعالى هذه الحيوانات مما يحقق لنا أغراضاً كثيرة عملية، يلحظ أيضاً بأن يكون شكلها، أن يكون مظهرها جميلاً.. أن يكون جميلاً حتى جانب الزينة أن تكون مناظر جميلة، وحركات جميلة، حركات الأغنام، قطعان الأغنام ومنظرها وهي تسرح وهي تعود، الخيول البغال الحمير.. أليست مناظر جميلة؟ حتى الجانب الفني أو جانب الجمال، جانب الجمال هو أيضاً مما هو ملحوظ داخل هذه النعم الإلهية. فتتمتع أعيننا، وأنفسنا ترتاح إلى هذه المناظر]، مُضيفاً بقوله: [الفواكه التي نأكلها، أليست أشكالها جميلة؟. وروائحها جميلة؟].

 

مقارنة بين جمال الأشجار والفواكه في الدنيا، وشجرة الزقوم: ـ

مستغلا -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- الحديث حول نعمة جمال الأنعام والأشجار والثمار في الدنيا ليذكر الناس بأشجار يوم القيامة الفظيعة، ليتعظوا، ويخافوا الله، فقال: [لكن ـ لاحظ ـ بالنسبة لأهل النار كيف قال عن تلك الشجرة التي يأكلونها، شجرة الزقوم {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا ـ ثمارها ـ كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} قبيحة جداً، فمنظرها بشع ومذاقها مر شديد المرارة، وساخن جداً {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ}]..

مقارناً ومتسائلا بقوله: [لكن لاحظوا هنا في الدنيا الفواكه، الأشجار التي ثمارها من الأقوات الضرورية لنا.. أليست جميلة؟. ما أجمل عندما تتطلع إلى مزارع الذرة أو مزارع البر والشعير أليس منظراً جميلاً؟. مزارع البن مزارع القات، مزارع الموز وغيرها من الأشجار أليست مناظر جميلة؟.ثم تجد كل شيء مما هو نعمة علينا أيضا مرتبط أو مترافق معه جانب الجمال، أليست هذه رحمة من الله سُبْحَانَهُ وتعالى بنا؟].

نعمة خلق البحار والمحيطات: ــ

وأشار -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- إلى نعمة عظيمة ذكرها الله في محكم كتابه ألا وهي نعمة خلق البحار، والسفن التي تجري فيها، وفائدتها بقوله: [وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} أليس هذا أيضاً عودة إلى جانب الجمال؟. {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}، {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} السفن وهي تمخر الماء بمقدمتها، وببطنها، وهذه من الآيات العجيبة، سفن ثقيلة هل هي تمشي على سطح صلب فتستمسك؟. لا، إنه سطح هي تخرقه، وتشقه، فتمخره فمن الذي يمسكها؟. إنه الله سُبْحَانَهُ].

منوهاً -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- إلى أهمية البحار والمحيطات الكبيرة جدا كطرق للتجارة، توصل بين القارات، حيث أنها طرق جاهزة بقدرة الله، ليست محتاجة إلى (زفلته) ولا إلى تصليح وصيانة، وهذه نعمة عظيمة، وكذلك من نعم الله علينا في البحار والمحيطات هي (الأسماك) بأنواعها المتعددة، والتي هي من أهم أنواع التجارة المربحة في العالم، بالإضافة إلى ما نستخرجه من باطن البحار كاللؤلؤ والمرجان والمعادن وغيرها..

 

من نعم الله علينا: الجبال وفوائدها:

وفي ذات السياق استمر -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في تعداد نعم الله علينا، فتحدث أيضاً عن الجبال وفوائدها للبشر، كما جاء ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: ـ

1ــ الجبال تثبت الأرض حتى لا تميد بنا: ـ

وقد شرح الشَّـهِيْـد القَائِد هذا الأمر بقوله: [الرواسي هي الجبال لما كانت الأرض اليابسة هي في واقعها مفروشة على الماء، والماء يشكل نسبة كبيرة قـد يكون أكثر من 70% من حجم الكرة الأرضية بكلها، كانت ـ بالطبع ـ الأرض تعتبر قطعة صغيرة فوق سطح الماء، قابلة لأن تبقى تهتز وتتحرك، فألقى الله فيها الجبال تثبتها {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} لترسوا، فترسوا الأرض على الماء، ولا تكون مهتزة، فيمكن الاستقرار عليها].

2ــ علامات للمسافرين يهتدون بها: ــ

قال -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-: [كذلك {وَعَلامَاتٍ} جعل علامات للسبل في البر، وعلامات في البحر {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}المسافرون يهتدون في البر، والمسافرون يهتدون في البحر، فأعلام في البر بشكل الجبال المختلفة، أليست أشكال الجبال مختلفة؟ هذا من أهم الأشياء في أن تتعرف على المناطق، لو كانت الجبال كلها بشكلية واحدة، وتصميم واحد، فهي رواسي، واحد هنا، وواحد هنا، وواحد هناك، قد لا تستطيع أن تعرف وأنت تتجه.. لكن الجبال أنفسها، وشكليتها هي نفسها مما يساعد ـ أن كانت بشكل أعلام ـ وأنت تسافر فترى تلك القمة، قمة الجبل هناك، ترى الطريق من عندها إلى المنطقة الفلانية، فتراها قمة متفردة في شكلها.. أليس كذلك؟. فيها عبر كثيرة].

3ــ مساحة الجبل أوسع من مساحة الأرض التي يشغلها: ــ

قال -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- شارحا لهذا الأمر: [بل أحيانا تطلع مساحة البلدان التي فيها جبال كثيرة تطلع مساحة كبيرة عندما تحسب وجه الجبل من هنا، ووجهه من هناك، ترى كيف أنه وبتصميم الله سُبْحَانَهُ وتعالى الذي هو حكيم لا يضيع حتى المساحة التي سيشغلها الجبل.. أليس الجبل ضروريا بالنسبة للأرض؟. سيجعل الجبل نفسه بشكل يكون أوسع مساحة من المساحة التي يشغلها في موقعه، فعندما تمسح مساحة الجبل من هنا كم سيطلع؟ ومن جانب آخر كم سيطلع؟. ستراه أكثر من المساحة التي يشغلها الجبل].

4ــ الجبال قابلة للعيش عليها: ــ

مُضيفاً -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- أن الجبال قابلة للزراعة والرعي فيها والبناء فيها، وهي غير مقفلة تماما بحيث تحجب الناس عن مناطق أخرى في العالم، بل هي فيها منافذ وطرق وممرات، وهي نعمة عظيمة من الخالق سُبْحَانَهُ، حيث قال: [وهكذا يجعل الجبل صالحاً للزراعة، يجعل الجبل صالحاً للاستقرار، صالحاً لأن تعيش فيه حيوانات أخرى، صالحاً لأن يكون فيه مراعي، والمهمة الرئيسية له هي أن تكون رواسي تمسك الأرض].

 

تذكر النعم وشكرها يؤدي إلى قيام حضارة إنسانية حقيقية: ــ

لافتاً -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- نظر الأمة إلى نقطة مهمة جدا، وهي أنه لا يمكن أن تقوم حضارة إنسانية في مصلحة البشرية إلا إذا كان أصحابها والقائمون عليها هم ممن يتذكر نعم الله باستمرار ويشكر الله عليها، حيث قال: [فلاحظ كيف يأتي بالتأكيد على تذكر النعم، وأن يظل الإنسان شاكراً وهو يبني حضارة، لا بد حتى تكون هذه الحضارة إنسانية حقيقية، وتكون في مصلحة البشرية، أن يكون من يقوم عليها، وينهض بها، من هم دائمو التذكر بنعم الله سُبْحَانَهُ وتعالى، وينطلقون في شكره {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} متى ما ضاع هذا الشعور لدى الإنسان أصبحت تجارته بالشكل الذي يضر بالبشر، يتجر في الأشياء الضارة]..

أمثلة ومظاهر للفساد: الربا، الغلاء، قلة الجودة: ــ

مسترسلا -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- في ذكر أمثلة ومظاهر للفساد الذي يصيب العالم عندما يتحكم فيه ويسيطر عليه تجار لا يتذكرون نعم الله ولا يشكرون الله، ولايخافونه بقوله: [يمارس في عملية البيع والشراء كثيراً من المحرمات، يدخل في الربا.. أليس العالم الآن غارقاً في الربا؟ العالم غارق في الربا، والعالم في حرب مع الله {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}..

وتجد من مظاهر هذه الحرب فساداً تجارياً، غلاء أسعار بشكل رهيب، هبوطاً حتى في مواصفات التصنيع من أجل مواكبة القدرة الشرائية لدى المستهلكين، المنتجات الجيدة ألم تغب عن الأسواق؟ منتجات جيدة من الإلكترونيات وغيرها من الصناعات، والأقمشة، وكثير من الآليات.. ألم تغب عن الأسواق؟. لماذا؟. ألم تهبط الصناعات، وتهبط المواصفات؟. تهبط وكل عام ترى الصناعات تهبط قليلاً قليلاً في مواصفاتها، في جودتها، لماذا؟. نزولاً عند رغبة المشتري، أو تبعاً لقدرته الشرائية؟].

مُعرفاً بالربا ومساوئه الكبيرة جداً على الناس، حيث قال: [الربا: هو ضرب الناس حتى ضرب الصناعات فأصبحنا بدل أن كنا نتمتع بكثير من الصناعات الجيدة، ذات المواصفات الجيدة، في مختلف المجالات، ها نحن تغلب على أسواقنا منتجات مواصفاتها رديئة، ومتى ما رأينا قطعة جيدة [أصلية] من أي منتج، ورأينا سعرها مرتفعاً ألسنا نخرج من المعارض؟. ونقول: هذا سعره مرتفع، الحقيقة أنها أصلي لكنها سعرها مرتفع، والآخر قال: جيدة لكنها غالي، والرَّجال صاحب المحل في الأخير لا يستورد منها، صاحب المصنع في الأخير لا يعد ينتجها، يحاول أن ينتج إنتاجا آخر يتمشى مع حالة الناس].

وأضاف بقوله: [فنحن في حرب مع الله، والله في حرب معنا بسبب المرابين، بسبب التجارة التي تقوم على الربا؛ لأن أولئك المرابين ليسوا ممن يتذكرون نعمة الله، وليسوا ممن ينطلقون في شكره؛ لأن من يتذكر بأن ما يتقلب فيه من أموال التجارة هو نعمة من الله عليه، سيحاول أن يبتعد عن المحرمات في التعامل، سيبتعد عن الربا].

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com