يومُ القدس العالمي.. بين احتلال بلد وتشريد شعب وإحياء أُمَّـة وتهيئتها لتحرير فلسطين

“الثورة الإسلامية” كانت المنقذ بعد تلاشي روحية الصراع العربي الإسرائيلي وتصاعد التخاذل العربي والإسلامي

 

المسيرة: محمد يحيى السياني

فلسطينُ الجرحُ الغائرُ في صدر الأُمَّــة الإسلامية؛ ففي الثاني من نوفمبر1917م تعهّد الإنجليزُ لليهود مما يسمى بوعد بلفور بإقامة وطن قومي لهم من فلسطين؛ مما فتح الباب أمام الصهاينة لاحتلال فلسطين واستباحة الأقصى الشريف في القدس.

هذا الوعد المشؤوم الذي أعطاه وزير خارجية بريطانيا آنذاك، آرثر بلفور، في رسالةٍ منه إلى زعيم الجالية اليهوديّة في بريطانيا وولتر روتشيلد خلال فترة الحرب العالمية الأولى، حَيثُ كانت فلسطين آنذاك تقع تحت سلطة الدولة العثمانية ويعيش فيها أقلية يهودية، وعقب الحرب العالمية الأولى كانت السلطة القائمة في فلسطين ما بين العام1923م وحتى العام 1948م تحت الانتداب البريطاني حتى أتت ما تُعرف بـ”نكبة” 1948م والتي تم فيها الإعلان عن قيام “إسرائيل” في 15/5/1948م والتي على إثرها وقعت معظم المناطق الفلسطينية تحت الاحتلال والسيطرة الإسرائيلية.

وفي خلال هذه الحقبة التاريخية وما تلاها كانت هناك مقاومة عربية وحروب استنزافية مع العدوّ الصهيوني لم تفضِ إلى شيء في تغيير واقع الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية نتيجة التخاذل العربي والإسلامي تجاه دعم الفلسطينيين أمام الكيان الإسرائيلي الذي كان يتلقى الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي من أمريكا وبريطانيا ودول الغرب التي ساهمت وبشكل كبير إلى الوصول إلى تمكين “إسرائيل” تحقيق نصر مشكوك فيه في الحرب عام 1967م على جيوش أربع دول عربية هي العراق والأردن وسوريا ومصر فيما يعرف بنكسة 1967م، وأدت هذه الحرب والتي كانت تسمى في إسرائيل بحرب الأيّام الستة إلى احتلال إسرائيل لقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وصحراء سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية.

بعد هذه الحرب التي مكّنت العدوّ الصهيوني من السيطرة والاحتلال والهيمنة على فلسطين والهيمنة العسكرية على محيطها العربي والإقليمي، والذي مكّنه من ترسيخ احتلاله للأراضي العربية يوماً بعد آخر وسنة بعد أُخرى، وحتى محطة حرب السادس من أُكتوبر1973م بين الكيان الصهيوني وداعميه الأمريكيين والغربيين من جهة، ومصر وسوريا من جهةٍ أُخرى، ورغم أن العرب تحدثوا أنهم حقّقوا فيها انتصارهم الأول على جيش العدوّ الإسرائيلي إلَّا أن هذا الانتصار لم يحقّق للقضية الفلسطينية ومظلومية الشعب الفلسطيني أيةَ نتائج تُفضِي لاستعادة أرضه ونزع حقوقه من الصهاينة؛ فالنصر العسكري العربي في هذه الحرب قابله تمكين سياسي واقتصادي لإسرائيل واعتراف ضمني من مصر وبعض الدول العربية بهذا الكيان، تجسد في اتّفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978م والتي كان بموجبها التوقيع على اتّفاقية سلام بينهما وانسحاب إسرائيل من سينا والأراضي المصرية التي احتلتها في العام 1967م؛ وبهذا تم تحييدُ مصر عن الصراع العربي الإسلامي لقرابة خمسة عقود.

خلّف هذا الواقعُ العربي والإسلامي المرير آثاراً سيئة بالتخاذل والانكسارات أمام إسرائيل التي مكّنت لها هذه الحالة المزرية والضعيفة للعالم العربي والإسلامي من أن تتوسع في أطماعها وترسخ احتلالها لفلسطين وتوسيع الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية والقدس الشريف والدمج الإداري لمدينة القدس تحت السيادة الإسرائيلية، وفي ظل هذا التخاذل العربي الإسلامي تجاه فلسطين والقدس ظلت سوريا هي الوحيدة الداعمة للقضية الفلسطينية والداعمة والحاضنة للفصائل الفلسطينية المقاومة للاحتلال الصهيوني، وظل موقفها ثابت ومبدئي تجاه فلسطين برغم الضغوطات التي كانت عليها والحروب التي شنت عليها وواجهتها والدمار الذي لحق بها والقتل الذي ارتكب ضد شعبها من قبل أمريكا والصهيونية ودول الغرب والجماعات “الإرهابية” التي دعمتها ومونتها ودفعت بها السعوديّة والإمارات وقطر.

فلسطين القضية العادلة والمظلومية الكبيرة عاشت غربة للتخاذل العربي والإسلامي والعالمي تجاه معاناتها واستباحة واحتلال أرضها من قبل الكيان الصهيوني الغاصب فلم يكن الدعم السوري برغم أسبقيته وثباته هو ذلك الدعم الذي يفي بالقدر من التمكين من تحرير أرضه واستعادة حقوقه من الكيان الغاصب وسط عالم ومحيط عربي وإسلامي متخاذل معه ومع قضيته أمام ما يقابل من دعم كبير ومساندة قوية لهذا الكيان من أمريكا والغرب والأنظمة العربية والإسلامية العميلة، وكانت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م الذي قادها الإمام الخميني -رحمه الله- هي المحطة الفارقة في هذه الحقبة التاريخية والذي قد يعيد للقضية الفلسطينية بصيص الأمل في تحريك المياه الراكدة التي ركدت طويلاً في مستنقعات المحيط العربي والإسلامي المتخاذل فكانت هذه الثورة بما حملته من أهداف ومبادئ ومواقف تجاه فلسطين والقدس والأقصى الشريف وجعلها قضية الأُمَّــة وبوصلة لاتّجاه تحريرها من الكيان الغاصب والغدة السرطانية إسرائيل.

تجسّدت هذه المبادئ والمواقف الصادقة لهذه الثورة مع بدايتها وفي السنة الأولى من تاريخ قيامها وتحديداً في 20 رمضان 1399 هجري الموافق 5/8/1979م في هذا اليوم والتاريخ، اقترح الإمام الخميني -سلام الله عليه- أن تكون آخر جمعة من شهر رمضان هي يوم يسمى (يوم القدس العالمي).

دعا الإمام الخميني كُـلَّ المسلمين في العالم إلى إحيَاء هذا اليوم وتخصيصه لخلق الوعي في صفوفهم وتهيئة أنفسهم ليكونوا بمستوى المواجهة لأعدائهم، وأن يعلنوا من خلال مسيرات هذا اليوم اتّحاد المسلمين بجميع طوائفهم في الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؛ فالإمام الخميني عندما قدّم هذا الاقتراح كان يدرك أن الشعوب الإسلامية قد يئست من أن تعمل حكوماتها شيئاً تجاه القضية الفلسطينية وتجاه الكيان الصهيوني الغاصب؛ فقدم اقتراحه متجهاً به إلى الشعوب وطلب منها أن تجعل هذا اليوم يوماً يسمى “يوم القدس العالمي”؛ لأَنَّ الشعوب هي المتضررة وهي الضحية وهو يوم يقظة جميع الشعوب الإسلامية ومقدمة هامة لمنع المفسدين الصهاينة وإخراجهم من فلسطين والمقدسات.

هذا المقترحُ (يوم القدس العالمي) كان هو البداية الأولى للعمل الجهادي التربوي الثقافي الذي يؤسِّس لوعي الشعوب ويقظتها وتوجيه بوصلتها إلى عدوها الحقيقي والتهيئة الحقيقية للتحَرّك الجاد إلى تحرير فلسطين والقدس وتطهير المقدسات من رجس الصهاينة وخلق الوعي وثقافة جهادية لأبناء هذه الأُمَّــة تستطيع به ومن خلاله مواجهة أعدائها والانتصار عليهم بإعادة روح المقاومة إلى جسد الأُمَّــة، وأصبح يوم القدس العالمي ثقافةَ أُمَّـة تحمل من خلالها روحاً جهادية ودرباً إلى المقاومة والتحرير.

وبعد مرور السنوات، وُصُـولاً إلى مطلع القرن الحادي والعشرين، وتحديداً في اليمن كان ظهور الشهيد القائد السيد حسين بدرالدين الحوثي -رضوان الله عليه- وبما حمله من مشروعٍ قرآني وثقافةٍ قرآنية قدمها للأمة, كان ذلك محطة تاريخية فارقة وتحولًا ثقافيًّا كبيرًا نحو ترسيخ الوعي الشعبي وإحيَاء الروح الجهادية المقاومة لكل أشكال الباطل والظلم والتحرّر من العبودية والهيمنة والاستكبار وتوجيه العداء لأعداء الأُمَّــة أمريكا وإسرائيل، ورسّخ في المشروع القرآني أن قضية الأُمَّــة الإسلامية الأولى هي قضية فلسطين والقدس الشريف، وليست قضية الفلسطينيين وحدَهم فقط، وكان الشهيد القائد قد أكّـد في أكثر من محاضرة عن خطورة الصهاينة، وكشف وفضح مخطّطاتهم ومؤامراتهم ضد الأُمَّــة الإسلامية.

وفي محاضراته (يوم القدس العالمي)، بيّن الشهيد القائد الكثير من الثقافات المغلوطة التي أَدَّت بها بأن تصل إلى أدنى درجات الضعف والهوان أمام اليهود ووضع الشهيد القائد حلولاً للأُمَّـة لكي تستطيع مواجهة أعدائها وضرب أمثلة معاصرة (إيران – حزب الله) عندما انطلق مشروعها الجهادي المقاوم من القرآن الكريم كيف كان له الأثر في تصدع كيان الصهاينة ورعب متصاعد؛ جراء مثل هكذا دول وحركات إسلامية تمتلك الوعي والقوة والقدرة على المواجهة العسكرية والسياسية والاقتصادية في مواجهة الاستكبار الصهيوأمريكي.

وبعد استشهاد السيد حسين بدرالدين الحوثي -رضوان الله عليه-، واصل السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي نهج المقاومة والجهاد المقاوم للمشروع الصهيوأمريكي المستهدِف للأُمَّـة، الغاصب المحتلّ لأرض فلسطين العربية، المنتهك للمقدسات الإسلامية في القدس والأقصى الشريف، ويحرص السيد القائد ومعه الشعب اليمني الوفي على أن يضع القضية الفلسطينية على رأس سلم أولوياته وأم قضايا الأُمَّــة التي يجب التضامن من معها ودعمها ومساندتها بكل الوسائل والإمْكَانيات الممكنة.

استمر الشعب اليمني والسيد القائد في الاهتمام بكل التطورات التي تقع في فلسطين والقدس الشريف ومواكبتها عبر المسيرات والمظاهرات المندّدة بالانتهاكات والجرائم التي يرتكبها الصهاينة في فلسطين والقدس والإحيَاء السنوي ليوم القدس العالمي في كُـلّ آخر جمعة من شهر رمضان الكريم؛ انطلاقاً من استشعار المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى وأمام الأُمَّــة الإسلامية، ومنذ الوقت المبكر كان موقفُ الشعب اليمني وقائده واضحًا وثابتًا تجاه القضية الفلسطينية، موقفًا مبدئيًّا ومعلَنًا عبّر عنه السيد القائد في كُـلّ خطاباته بمناسبة يوم القدس العالمي، ففي خطابه بمناسبة يوم القدس العالمي عام 1434 هجري قال السيد القائد: «إن هذا اليوم مهم وهو يوم المسؤولية ويوم الكرامة وهو اليوم الذي تقول فيه الأُمَّــة كلمتها وتجدد بيعتها لقضيتها الكبرى القضية الفلسطينية».

وَأَضَـافَ السيد القائد في هذا السياق: «إن هذا اليوم هو يوم مواجهة حالة التغييب المتعمد لهذه القضية على كُـلّ المستويات؛ فهناك جُهدٌ كبيرٌ من العدوّ الأمريكي والإسرائيلي لتغييب قضية فلسطين، التي هي قضية الأُمَّــة بكلها والأقصى الشريف الذي هو المقدَّس بالنسبة للمسلمين جميعاً، وهذه القضية هي قضيتنا هي مسؤوليتنا وهي قضية ترتبط بها عزة الأمة وكرامتها، والشعب الفلسطيني هو جزء من الأُمَّــة بكلها ما يلحق به من ظلم من قتل من هتك للعرض من كُـلّ أشكال الاضطهاد هو تحدٍ للأُمَّــة بكلها وهو امتهان وجناية على الأمة بكلها».

هذا الموقفُ المبدئي المشرِّفُ للشعب اليمني وقيادته الحرة كان من ضمن الأسباب التي شن بموجبها التحالف الصهيوأمريكي السعوديّ الإماراتي عدوانه المجرم وحصاره الجائر على الشعب اليمني، وقد كشفت الأحداث والحقائق ذلك، وعكست المواقف الرسمية والشعبيّة في كُـلّ الفعاليات والمهرجانات والمسيرات والمظاهرات والمناسبات التي كانت تقام للتضامن مع الشعب الفلسطيني وخَاصَّةً في يوم القدس العالمي، عكست ردود العدوّ الصهيوني والدول المطبِّعة معه والمتحالفة في عدوانها على الشعب اليمني والتي كانت ردودًا غاضبةً ومعبِّرةً عن مخاوفها ورعبها من هذا الشعب وهذه القيادة الذي لم يثنيه أَو يرعبه أَو يوقفه العدوان والحصار عليه من أن يعلن مواقفه القوية تجاه القضية الفلسطينية والقدس الشريف.

ومع الحضور اليمني المُلفِتِ في يوم القدس العالمي، خَاصَّةً في الأعوام الخمس الماضية، كان هو الأكبر والأضخم خروجاً “وتفاعلاً” على المستوى الإقليمي والعالمي، وشهد له بذلك العدوّ ووسائل الإعلام المختلفة، وقد عبّر عنه السيد القائد بقوله: (لقد كان الحضور الكبير لشعبنا العزيز في هذه المناسبة المهمة حضوراً “مميزاً”، ونستطيع القول إن شعبنا في الصدارة في مدى اهتمامه بهذه المناسبة على مستوى الوطن العربي والواقع العربي بكله وغير غريب على شعبنا هذا التفاعل مع القضايا الكبرى القضايا الإيمَـانية والمصيرية، التي ينبغي أن نحدّد فيها موقفنا من واقع انتمائنا الإيمَـاني الأصيل كشعبٍ يمني وفي هذه المرحلة يظهر أهميّة هذا الموقف بالاعتبار الديني وباعتبار الواقع).

إن العدوان على الشعب اليمني قد جاء ليثبت بأن هذا الشعب يتصدر ويصدّر موقفه الجهادي والإيمَـاني، وأن جزءاً كَبيراً من معاناته جراء العدوان والحصار عليه هو؛ بسَببِ موقفه من القضية الفلسطينية وهو يعكس صحة توجّـهه الإيمَـاني والجهادي والوطني والقومي تجاه قضية الأُمَّــة الإسلامية الأولى، في حين أن ما تتعرّض له اليوم القضية الفلسطينية من تجاهل وتغييب من قبل الأنظمة العربية التي هرولت للارتماء في الحضن الصهيوني والتطبيع معه هي خيانة لفلسطين وللقدس والأقصى الشريف وكل المقدسات الإسلامية، وهو معيار واضح وفاضح أسقط أقنعة النفاق لهذه الأنظمة المطبعة، والتي كانت تزايد بالتزييف والكذب والتضليل على شعوبها وشعوب الأُمَّــة عبر عقود من الزمان باسم فلسطين وقضيتها، ومكّنت العدوّ من خلال مواقفها وتطبيعها من أن يستمر في توسعاته وقضمه للأراضي الفلسطينية عبر عمليات الاستيطان الصهيوني، وتماديه السافر في انتهاكاته للقدس والأقصى الشريف.

فلسطينُ القضية والمظلومية كانت وما زالت هي معيارَ الفرز للأنظمة والدول، التي تقف مع الحق الفلسطيني أَو تلك التي تقف مع الباطل الصهيوني، واليوم فقد تكشفت الحقائق وسقطت الأقنعة المزيفة وتشكّل لفلسطين محور مقاومة من أحرار هذه الأُمَّــة سنداً وعوناً ودعماً لشعبها ولكل مقاوميها، وللقدس والأقصى الشريف، واليمن وشعبه العظيم وقيادته الحرة الشجاعة جزءٌ من هذا المحور، ونسق بارز في مقدمة الصفوف لمحور المقاومة، بتأكيدٍ شعبي للشعب اليمني وتأكيدٍ رسمي على لسان قائده السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي الذي قال: «إننا نؤكّـد أننا جُزءٌ من المعادلة التاريخية التي أعلنها السيد حسن نصرالله، في أن التهديد والخطر على القدس يعني حرباً إقليمية ونعتز بإخوتنا الإسلامية مع أحرار الأُمَّــة ومحور الجهاد والمقاومة»، وهنا قال اليمن كلمته وقال الأحرار كلمتهم، وعادت روح المقاومة والممانعة إلى أجساد الشعوب الحرة، وباتت معركة “وعد الآخرة” قريبة بأعين قيادات المحور وشعوبها الأحرار.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com