الدينُ والتحديث (2).. (أخلاقُ العمل عند ماكس فيبر في المسيحية والإسلام)

عبدالملك العجري

قبلَ البدءِ، أُلْــفِتُ عِنايةَ القارئ الكريم، إلى أنَّ هذه الحلقة هي اختصار لمقالتَينِ؛ حتى يكون النصُّ بعيدًا عن التعقيد وسهلاً للقارئ العادي خفّفته من كثير من التفاصيل المتعلقة بتعقيدات المنهج؛ وذلكَ لأَنَّ أُطرُوحةَ ماكس فيبر هي بالأَسَاس للرد على منظِّرِي البنية التحتية، ماركس وقومه الذين ينظرون للبنى الاقتصادية؛ باعتبارها المحرِّكَ للتاريخ، بينما فيبر يرى أن الأفكار هي المحرك للتاريخ، إبطال نظرية ماركس من خلال إثبات دور حركة الإصلاح الديني البروتستانتية في تشكيل العالم الحديث، وبعد استكمال الحلقات سأعيد نشرَها في مقالة واحدة، وأضيف لها الفقراتِ المحذوفةَ للراغبين في استكمال الفائدة.

لا نزاعَ في أن الرأسماليةَ هي من أنتجت العالم الحديث؛ فهي كانت وراءَ الثورة الصناعية في إنجلترا، ومنها إلى كُـلِّ أُورُوبا والعالم، وهي من نقلت البشريةَ من العالم القديم إلى العالم الحديث ومن المرحلة الزراعية إلى المرحلة الصناعية.

في أُطروحتِه الأَسَاسية (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية)، يتساءلُ ماكس فيبر: لماذا ظهرت الثورة الصناعة في البلدان التي تسيطر فيها الثقافةُ البروتستانتية مثل: بريطانيا وهولندا وأمريكا وسويسرا، قبل غيرها من الدول الكاثوليكية؟ ولماذا رجال الأعمال وأصحاب الحيازات الرأسمالية وممثلو الشرائح العليا المصنِّعة من اليد العاملة في بلدٍ متعدد الطوائف مثل ألمانيا هم بأغلبيةٍ كبيرة من الطائفة البروتستانتية؟ وبشكل عام لماذا المناطق الأكثر غنًى وأكثر ميلاً للعمل والإنجاز والإبداع هي المناطق التي اعتنقت البروتستانتيةَ منذ القرن السادس عشر؟

يقولُ فيبر: إن ذلك يعودُ بدرجة رئيسة إلى أخلاق العمل البروتستانتية والمعتقدات الكلفانية (نسبة للمصلح الديني جون كالفن مؤسّس الكالفينية)، التي تشجِّعُ على العمل والمثابرة والكفاءة المهنية والإنتاج والكسب العقلاني للثروة، واعتبار النجاح الدنيوي شاهداً على الخَلاصِ الشخصي والنعمة الإلهية، وغيرها من المبادئ التي جعلت البروتستانت أكثرَ استعدادًا للعقلانية الاقتصادية، سواءٌ أكانوا يشكِّلون شريحةً مسيطرة أم مسيطَراً عليها، الأغلبية أم الأقلية، كما هو الحال مع الأقلية البروتستانتية في فرنسا التي كانت أحدَ أهم العوامل في تطور الرأسمالية والصناعية فيها، وعلى النقيض من ذلك الكاثوليكية -فعلى حده- هي الأكثرُ انفصالاً عن العالم، وترسِّخُ في أذهان معتنقيها لا مبالاةً كبيرةً إزاء ثروات هذا العالم.. الكاثوليكي هو أكثرُ هدوءاً ومسكونٌ بعطش قليل جِـدًّا إلى الكسب، ويفضِّلُ حياة آمنة، ولو مع مدخول ضئيل على حياة مليئة بالإثارة والمجازفة، ولو وفرت له الثروات والأمجاد، ويطابق بين الحكمة الشعبيّة التي تقول: “إما أن تأكُل جيِّدًا أَو تنام جيداً”، والحالة الحاضِرةُ للبروتستانتي والكاثوليكي، يفضّل البروتستانتي أن يأكل جيِّدًا، بينما يفضل الكاثوليكي أن ينام هادئاً.

يميّز فيبر بينَ الرأسمالية كنظامٍ اقتصادي، وبين روح الرأسمالية؛ فالرأسمالية قبل أن تتطور إلى نظام اقتصادي مستقل وأشكال مؤسّسية حديثة تشكلت في البداية كثقافة اقتصادية وأخلاقيات عمل، وهو ما يعنيه فيبر بروح الرسمالية كثورة ثقافية على أخلاقيات العمل للاقتصاد السلفي أَو الثقافة الاقتصادية ما قبل الرأسمالي، التي تقلِّلُ من أهميّة النشاط الوظيفي، وذلك بالتأكيد على البحث العقلاني عن الربح من خلال ممارسة مهنة، وَالكسب المشروع؛ نتيجةً للمبادرة الفَرْدية والمثابرة والكفاءة المهنية، والكسب كغايةٍ في حَــدّ ذاته، وليس وسيلةً لإشباع الحاجات المادية وأهميّة استثمار الوقت،… إلخ.

ويضيفُ أن روحَ الرأسمالية تجدُ جذورَها في أخلاق العمل البروتستانتية والنزعة الزهدية للكالفينية وعقيدة الخلاص؛ ففي عقيدة كالفن أن مصيرَ الإنسان في الآخرة محدَّدٌ سلفاً كقضاء محتوم ولا يستطيع تعديلُه، ولكن هناك علامات يمكن للإنسان من خلالها أن يتعرف على مصيره الأخروي والنجاح الدنيوي من علامات الخلاص للفرد، وبالتالي تحولت عقيدة الخلاص الكالفينية إلى دافع يحفّز المؤمنَ الباحثَ عن الخَلاصِ على النشاط والإنتاج وَالاستخدام العقلاني للثروة، كالفن لا يرى في الثروة عائقاً، أمَّا نفوذ الإكليروس، والمدان من وجهة نظر أخلاقية، هو الطمأنينة والراحة في التملك، والنشاط هو الذي يخدم مجد الله، العمل وسيلة تسكين والدواء النوعي للوقاية ضد الإغراءات، والعمل غالبًا ما يشكل هدف الحياة ذاته كما بيّن الله في آية القديس بولس: “إذَا لم يرغب أحدكم أن يعمل فليكف عن الأكل أيضاً”، والامتناع عن العمل هو مؤشر على غياب النعيم، أما في الكاثوليكية فَـإنَّ الخَلاصَ يتحقّقُ من خلال بعض الشعائر التي يؤدِّيها المؤمنُ أمام القدِّيسين من قساوسة وكهنة الكنيسة.

وفي سبيلِ تأكيدِ نتائج نظريته عن دور حركة الإصلاح البروتستانتية في بعث روح الرأسمالية وإعادة تشكيل العالم الحديث، أعاد مقارنتَها بالفِرَقِ الدينية والأديان الشرقية، وهي كلها -حسب فيبر- إما لا تشجِّعُ على الأخلاق الاقتصادية أَو مشبعة بروح الرهبنة واحتقار العالم، ولا يستثني من ذلك الإسلامَ، مع أنه لم يفردْه بدراسةٍ مستقلة، كما فعل مع الكاثوليكية واليهودية والكونفشيوسية والطاوية والهندوسية، وجاء كلامُه عن الإسلام مُجَـرَّدَ تحليلات متفرقة في ثنايا كتاباته عن الظاهرة الدينية العالمية.

وخلاصةُ ما طرحه فيبر عن فشل الإسلام في إنتاجِ الشروط المهيِّئة لنشوء وتطور الرأسمالية ينحصر في ثلاثة أسباب أَو تفسيرات:

التفسيرُ الأول: يتعلق بمحتوى الأخلاق الإسلامية، وَهنا لا يركز على تحليل محتوى النص الأَسَاسي للإسلام (القرآن)، بل على المعنى الذي يتخذُه عند القوى الاجتماعية أَو الفرق الدينية الحامل الاجتماعي للقيم الدينية.

إن الإسلام -على حَــدّ وصف فيبر- دينٌ توحيديٌّ مبنيٌّ على نبوة أخلاقية ترفُضُ السحر؛ ونظراً لأَنَّ الله كليُّ القدرة، وأقدار البشر محدّدة سلفاً، كان من الممكن للنزعة الزهدية أن تنشأ في الإسلام كقلق خلاص أَو ديانة خَلاصية تشجِّعُ على روح المبادَرة والإنتاج والرغبة في النجاح الدنيوي؛ باعتبارها علاماتٍ على الخَلاص الأخروي، لكنها أعيقت؛ بسَببِ طبقتين اجتماعيتين: طبقة المحاربين وطبقة المتصوفة.

ينظُرُ فيبر للمحاربين القوةَ الرئيسيةَ في الإسلام، أَو النَّقَلة الأوائل للإسلام، ويقول إنهم أعادوا تكييفَ محتوى الرأسمالية الدينية؛ لتتوافق مع مصالحهم واحتياجاتهم الدنيوية، وتأويل طلب الخلاص من خلال فكرة الجهاد ليصير طلباً للأرض من خلال الفتوحات، وفي أخلاق المحاربين مصدرُ الثروة هو الغنائمُ التي يتم إنفاقُها لإشباع حاجات المحاربين، ويشجِّعُ الإسلامُ على جمع الثروة بالانخراط في الجهاد المقدس، وبالتالي صرفُهم عن السُّبُل العقلانية لتحصيل الغنى والنجاح، وفي النهاية تحوّل الإسلام إلى دين حربي قومي عربي، ولم يتطور مفهومُ الخَلاصِ الجواني الفردي، كما حصل مع الكلفانية البروتستانتية.

من ناحية ثانية، الصوفيةُ اندفعت نحو الاحتياجاتِ العاطفية الطقوسية منقطعةً عن العالم، وأدخلت مكوِّناتٍ سحريةً وطقوسية خفّفت من صرامته التوحيدية، وحوّلت الزهدَ من زهد داخل العالم إلى زهد في العالم، ومن زهدٍ في الاستخدام اللاعقلاني للمال إلى زهد في المال، ومن موقفٍ لتغيير العالم إلى موقف هروبي من العالم، وفي النهاية تم سحبُ الإسلام في اتّجاهين متعاكسين: جماعة المحاربين سحبته نحو أخلاق العسكر، والصوفية في اتّجاه الباطنية، وبالتالي فشل الإسلام في إنتاج النزعة الزُّهدية الملائمة لروح الرأسمالية كشرطٍ ضروريٍّ لصعود الرأسمالية العقلانية.

التفسير الثاني: افتقارُ الإسلام لتقليدٍ قانوني عقلاني نظامي، وهذا التفسير مبنيٌّ على أَسَاس أن فيبر لا يرى القيمَ الأخلاقيةَ كافيةً لوحدِها لتفسير الرأسمالية، وأن ثمة سلسلةً من الشروط الضرورية ينبغي توفُّرُهَا؛ لكي تنشأَ الرأسمالية، وفي القلب منها القانونُ النظامي العقلاني، وَالسوق الحرة وأنماط التملك؛ فالشريعة الإسلامية كانت مثاليةً، وكانت قواعدها فوق قانونية مشتقةً من الوحي الإلهي وأقوال النبي ولا يمكن مدُّها بسهولة على نحو منهجي لتغطِّيَ المستجدات؛ ما سمح بوجودِ فجوة بين المثال والممارسة، حاول فقهاء الإسلام تغطيتها بواسطة ما يُعرَفُ بالحِيَل الفقهية.. ولأن أحكام الشريعة غير مرنة وأحكام القضاة غير ثابتة فَـإنَّ الإسلامَ قد افتقر إلى شرطٍ ضروري لنشوء الرأسمالية، وهو: وجود تقليد قانوني نظامي معتمد. (انظر الإسلام وأُطروحة فيبر ص14).

التفسير الثالث: أن غيابَ ثقافةِ اقتصادية تولِّدُ العناصرَ التأسيسية لروح الرأسمالية في الإسلام يعودُ لأنماط الحُكم الأبوية، والمؤسّسات السياسية والاقتصادية الأبوية التي حكمت تاريخَ الإسلام.

وفي الحلقة القادمة -بإذن الله – سنناقشُ آراءَ ماكس فيبر، سواء تفسيره لنشأةِ الرأسمالية، أَو سلامةِ موقفِه من الإسلام والكاثوليكية والأديان الشرقية الأُخرى.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com