الشهيد المجاهد أحمد المروني.. نصيرُ الحق والثبات

تعرض للمطاردة في عهد نظام الخائن عفاش وكرس حياته للجهاد في سبيل الله

بدأ مسيرتَه الجهادية في سفيان وأنهاها من سفيان

 

المسيرة | أيمن قايد:

في رحاب الشهداء الخالدين، وفي مسيرة عطائهم وتضحياتهم دروساً قيمة وخالدة لمن بعدهم من الأجيال من خلال مواقفهم التاريخية العظيمة ومحطاتهم المشرقة التي سجلوها في حياتهم الجهادية أثناء قيامهم بواجب المسؤولية أمام دين الله والمستضعفين، ودفاعاً عن وطنهم وكرامتهم.

ولهذا فَـإنَّ لكل شهيد قصة وحكاية تاريخية أصيلة يسجلها التاريخ في أنصع الصفحات، وسيتناقلها الأبناء والأحفاد جيلاً بعد جيل، وهي تلك المواقف البطولية التي انذهل منها العدوّ قبل الصديق، وقد تحقّقت على أياديهم الآيات والمعجزات والشواهد التي تبرهن مصداقية وعود الله بنصره وتأييده للمؤمنين الصادقين.

هنا واحد من أُولئك الصادقين الذين استجابوا لداعي الله، وهبوا للدفاع عن دينه القويم، وذلك بمختلف الوسائل الممكنة والمتاحة وكان من أُولئك السابقين في الالتحاق بقافلة الجهاد المقدس، وهو الشهيد المجاهد أحمد محمد علي المروني، واسمه الجهادي أبو يحيى، من أبناء حي تونس مديرية الثورة بأمانة العاصمة وهو من مواليد 1980م، متزوج ولديه ثلاثة أولاد وثلاث بنات.

ونشأ أحمد المروني “أبو يحيى” في بيت علمٍ وحكمةٍ وورع، وامتاز بالفصاحة والحفظ وسرعة البديهة، وامتلك من الفطنة والذكاء ما كان يؤهله على التفوق على أقرانه في كُـلّ المراحل الدراسية وعلى الاستحواذ على تقدير جميع المدرسين، حتى أن والدهُ كان دائماً ما يشيد به ويضع له مكانةً خَاصَّة من بين إخوته التسعة ويقربهُ منه ويصحبهُ أينما ذهب، إذ كان يتوسم فيه الحكمة والنباهة فيستشيره في كُـلّ أعماله.

وعلى الرغم من استشعاره لانعكاسات ذلك على بقية إخوته، إمّا غيرةً أَو حسداً، كان والدهُ يعزز فيهم روحَ المحبة لأخيهم أحمد الذي يأتي ترتيبُه الأوسطَ بين الإخوة الذكور، فكان يوكل إليه الكثير من المهام في إدارة شؤون البيت، حتى صار الجميع يستعين به لما كانوا يلمسون منه من ورع وزهد وحكمة وأمانة وارتباط بالله.

ظل أحمد على هذا النحو حتى بعد توظفه في مؤسّسة الاتصالات، وَكان يعتبره الجميع مرجعية للمشورة وتقديم النصح ومعالجة المشكلات وتقريب وجهات النظر؛ لما كان له من شخصية عليها مسوح الوقار والحزم، في الوقت ذاته كاريزما قيادية فيها من الإرادَة والتصميم، وَقلب رحيم يتأثر من أصغر المواقف الإنسانية، كما كان دائم التأمل، قليل الكلام، صاخبًا أمام الظلم لا يطيقه على نفسه ولا على الآخرين، وكان دائماً ما يتحاشاه عناصر المفسدين لنزاهته.

 

التحاقه بالمسيرة ومواقفه الجهادية

كان الشهيد أبو يحيى يبحث عن حقيقة هدفه في هذه الحياة وعن هدف ارتباطه بالله، حتى منتصف 2006م وجد ضالته في المشروع القرآني، فأخذ يدرس في ملازم الشهيد القائد، فتكون لديه كمٌ هائلٌ من الأفكار التي بدأ يواجه ويصارع الثقافات المغايرة للفطرة الإنسانية السوية، فكان يعالج الأحداث بالقرآن، ومن خلال ثقافة القرآن، والتمس الهدى والحقائق، كما انطلق بإيمانٍ هائل لا يشوب انطلاقته أية رغبة عاطفية، أَو حمية، أَو عصبية، وإنما لله وفي سبيل الله بإيمانٍ نابع عن بصيرة مجاهداً محتسباً مع الله ورسوله وأعلام الهدى.

وعلى الرغم من مكانته في العمل والوظيفة كمدير وحجم الرواتب والعلاوات والحوافز المغرية التي كان يتقاضاها ترك كُـلّ ذلك وتوجّـه ليشارك في الحرب الرابعة مجاهداً في سبيل الله تاركاً حطام الدنيا ومتاعها خلف ظهره وانطلق بعد أن التحق بالدورات العسكرية، واشترك في الحرب الخامسة وعاد إلى صنعاء بعد الهدنة التي أعلنها النظام آنذاك ليعمل كمشرفٍ ثقافي في الروضة، واهتم بإيصال الهدى بدءاً بأسرته وأهله وللناس كافة.

لم يكن طريق أحمد المروني الجهادي إلَّا كواحدٍ ممن عاصروا تلك المرحلة من المجاهدين السبّاقين، محفوفاً بالمخاطر والمطاردات من قبل الأجهزة الأمنية القمعية لنظام عفاش وأزلامه، فكان دائم الاستهداف والرصد والتنصت والمتابعة، لكنه لم ينحني لكل ذلك الإرهاب الفكري الممارس ضده، فكان يقوم بنشر أدبيات المسيرة والمشروع القرآني من خلال اللقاءات والمحاضرات، والدروس، والتي كانت تحتوي على ملازم الشهيد القائد، ولم يتقاعس يوماً عن دوره في إيصال الهدى للناس.

في إحدى الليالي كانت عناصر المخابرات العفاشية تتنصت عليه في منزله فتم إبلاغه بالأمر فخرج نحوهم بثقةٍ عالية وشجاعةٍ واتِّزان ودعاهم للدخول بدلاً من مكوثهم بين البرد، فارتبك الجمع وتعللوا بأنهم يبحثون عن أحد الأصدقاء يسكن في الحيّ، فعزم عليهم، ولمّا رفضوا الدخول قام وأعطاهم قليلًا من القات والماء كواجب ضيافة.

أدرك النظام أنه أمام شخصية ليست سهلة، فتواصل مع بعض المشايخ المقربين من أبو يحيى، والمعروفين لديه والذين حضروا إلى بيته ليعلموه أنه صار ضمن القائمة السوداء الخَاصَّة بالنظام، وأنه مهدّد وحياته صارت مهدّدة، وأن الأمن القومي يضع اعتبار لوالده وقبيلته، رغم علمهم بمشاركته في الحرب الخامسة، وقد يأتون لأخذه في أي وقت.

رحب بهم أبو يحيى وشكرهم على هذه النصيحة وبعد تقديم واجب الضيافة قال لهم: “رسالتكم وصلت، لكن ما دام الإنسان مع الله فلا تقلقوا.. قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا”، وفي اليوم التالي دخلت أطقم الأمن القومي الحارة وطوقت البيت أثناء تواجده بالبقالة المقابلة لمنزله فقال لهم: “سلامات ما لكم هانا”، قالوا: “اذهب مالك دخل”.. فشغل “المتر” وخرج من الحارة وأهل الحارة ينظرون باستغراب عجيب، وَبعدها استقر متخفياً في الروضة، حتى جاءت الهدنة، وعاد إلى عمله السابق بعد أن تم عزله.

كان أحمد المروني أبو يحيى عندما يقرأ سورة الصف يصل إلى قوله تعالى: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ..) إلى آخر السورة، فكان دائماً ما يتحدث عنها، وأن هذا الخطاب من قبل الله سبحانه وتعالى لكل مؤمن وأنها المعيار الحقيقي لانطلاقة الإنسان، لأن يصل إلى محبة الله، وأن المسار إلى مرضاة الله هو الجهاد في سبيل الله، فانطلق ليكون من أنصار الله استجابة لنداء الله (كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ).

وفي الحرب السادسة أمر أخيه عبدالكريم بأن يتفقد أهله في غيابه، وذهب إلى مواجهة أعداء المسيرة القرآنية أدوات الاستكبار العالمي في الوطن، رغم أنه كان في الإنشاءات مسؤولاً كَبيراً ويتحصل أموالاً كبيرة، لكنه ترك كُـلّ شيء؛ مِن أجل الله وفي سبيل الله وصدق البيعة مع الله وباع نفسه لله وعرف أن المسؤولية إرضاءً لله والاستجابة له فانطلق محبةً لله.

 

المهام الثورية

استمر أبو يحيى في مسيرته الجهادية، وَبعد الحرب السادسة كُلف بأن يكون مسؤولاً في ساحة التغيير في أحداث 2011م، وكانت أول خيمة تنصب باسم مكون أنصار الله نصبها في مقابل النصب التذكاري أمام بوابة الجامعة، وكانت خيمته تعاني استهدافاً متكرّراً، فتارةً تطفح مياه المجاري فيتم تسييرها من جانب خيمته، وكان منبوذاً في أول الأمر من القوى الثورية الأُخرى المشاركة في الساحة كونه من أنصار الله فلم يأتيه أحد، حتى أن أصدقائه كانوا يسخرون منه مداعبةً منهم: “من سيأتي عندك والروائح الكريهة التي تزكم الأنوف تمر من جنب خيمتك”، إلاّ أنه استمر وصمد بثبات وعزم ودائماً ما كان يردّد كلمته المشهورة: “الحق لا ينتصر إلاّ بالصبر والثبات”.

وبعد فتح مخيم شباب الصمود في الساحة تم تكليف أبو يحيى بالإشراف الأمني على الساحة حتى تمددت الخيام إلى “جولة عشرين”، وواجه عناصر ومليشيا علي محسن والإصلاح وكانوا دائماً ما يحاولون استهدافه لمّا له من تأثير في استقطاب الكثير من الشخصيات والكوادر الثورية من المستقلين والأحزاب والقوى الموجودة في الساحة، الأمر الذي دق ناقوس الخطر الإخونجي فبيتوا مكيدة للتخلص منه.

وبينما هو ومجموعة من الشباب بعد صلاة الفجر يسبحون الله في الخيمة، إذ تجمع العشرات من عناصر الإصلاح وهالوا عليهم بالحجارة، فجرح على إثرها، وفقد الوعي ونقل إلى المنزل للإسعاف وإجراء الخياطة للجرح، فما إن استيقظ حتى عاد إلى الساحة قبل أن يتماثل للشفاء، وتم استهدافه أكثر من مرة أبرزها حين كان عائداً إلى البيت ليلاً فوق “متر” دراجة نارية انهالت عليه الرصاص لكن لم تصيبه منها أي مكروه.

وبعد أن عرف شباب الصمود بأن الثورة تم الاستحواذ عليها من قبل علي محسن والإصلاح غادر أحمد المروني الساحة وتم تعيينه مسؤولاً أمنيًّا على أمانة العاصمة إضافةً إلى اشتراكه في العديد من المعارك التي خاضها المجاهدون في مجزرة الأمن القومي وأرحب وفي برط بالجوف وفي كتاف ودماج وحوث، وأبرزها في دنان التي أرسل السيد القائد أبو يحيى إلى قفلة عذر لتثبيت الأمن فيها بعد معاناتها لمدة 40 سنة حرب مع العصيمات بدعم نظام الخائن عفاش ومشايخ بيت الأحمر، فجاء المجاهدون ليسهموا في تعزيز التصالح والتسامح والأخوة القبلية، وتواصلت الانتصارات إلى الجعملة حتى خارف إلى قصر المدعو حسين الأحمر الذي أزاله المجاهدون بعد أن كان حسين ومنزله الضخم أصناماً من الأصنام البشرية والحجرية.

كان لأبي يحيى إسهامات في الانتصارات في صنعاء، حَيثُ تم مواجهة الصنم الأكبر علي محسن الأحمر وفرقته المدرعة، ودخل المجاهدون صنعاء دون أن تراق قطرة دم في اتّفاق السلم والشراكة، وكان أبو يحيى مشرفاً أمنيًّا على القصور الرئاسية، وتم تأمين المعسكرات والمرافق الحكومية من النهب الذي كان يسعى أزلام النظام السابق لاستغلال الأوضاع لنهب الأسلحة والمعدات والوسائل، فحالت حكمة أبو يحيى دون حدوث ذلك.

 

مواجهته للعدوان واستشهاده

ومنذ اليوم الأول للعدوان الأمريكي السعوديّ الغاشم انطلق أبو يحيى للحشد والتعبئة العامة للجبهات، وترك المناصب في صنعاء بناءً على رغبته وتحمسه لمشاركة المجاهدين في التصدي لقوى العدوان ومرتزِقته في المناطق المشتعلة.

وجاءت التوجيهات لانتقاله إلى المحور الشمالي الغربي لجبهة تعز التي أبلى فيها بلاءً حسناً، وفي الأثناء كانت هناك محاولات لتحالف العدوان ومخطّطات تستهدف فتح جبهة جديدة ممتدة من برط في الجوف، مُرورًا بحرف سفيان إلى حجّـة، وتلتقي بجبهة العدوان في الساحل باستخدام أوراقها في لواء العمالقة المتمركز في الجبل الأسود بحرف سفيان، فانتقل أبو يحيى بمجاميعه إلى الجوف تمويهاً، ثم عاد من طريق برط إلى سفيان وتم دخوله معسكر العمالقة في الجبل الأسود، حَيثُ كان يتمركز فيه 1500 عنصر غالبيتهم يدينون بالولاء لحزب الإصلاح والفارّ علي محسن تحديداً، فجمعهم أبو يحيى وخاطبهم في محاضرة وصفت بالتاريخية، أصدر بعدها السيد القائد عفواً عاماً عن كُـلّ من في المعسكر، وخيرهم أبو يحيى ما بين البقاء في المعسكر، أَو الذهاب إلى بيوتهم، فبقي 700 فرد وبعد إفشال مخطّط التحالف ضجت القنوات الفضائية بالتنديد وصرح الأمريكان وتحالفهم بتنديدهم لدخول معسكر العمالقة، ووصفوا الحادث بالجريمة، وتم توقيف الحوار والمفاوضات في الدوحة، ليخرج الناطق باسم الفريق الوطني للتفاوض محمد عبدالسلام واصفاً ما حدث بالشأن الداخلي وليس من حق أحد الاعتراض عليه.

وبعد فشل التحالف توالت الضربات الجوية، والغارات على الجبل الأسود بشكلٍ يومي وهستيري، تمكّنت أجهزة الرصد والعملاء الأرضيين من تحديد موقع القائد أبو يحيى لتستهدفه طائرات التحالف بـ10 غارات وبـ60 صاروخاً في 30/6/2016م، تم إسعافه إلى مستشفى صعدة والتي فارق فيها الحياة ليرتقي شهيداً، وقد أحب أن يكون وبالوجه الذي تمناه، وتم كتمان استشهاده عاماً كاملاً، وقد قال عنه الأُستاذ خالد المداني: إن أبا يحيى المروني “بدأ مسيرتَهُ في سفيان وأنهاها من سفيان”، فسلام من الله عليه وعلى سائر الشهداء العظماء.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com